في هذا الديوان حاولت التلاعب بالمفردات المالطيّة والأصوات الصّادرة عنها بطريقة جديدة لم يعهدها المالطيون في شعرهم ولا حتّى في نثرهم. فكان له وقع جيّد وجديد على أذن المتلقّي ممّا ترك بالغ الأثر لا سيّما لدى الجيل الجديد الذي اندهش أنّ لغته قادرة على كلّ هذه المرونة التقنية والفنيّة.
وليد نبهان، روائي وقاص وشاعر ومترجم فلسطيني، حقق حضوراً لافتاً في مهجره الماطي منذ عدّة سنوات، وكان أن فاز بجوائز أدبيّة مالطيّة وأوروبيّة عن منجزه الأدبي في الرواية، التي شاء أن يكتبها بلغة هذا البلد الأوروبي المتوسطي الذي اختار العيش فيه، لا بلغته الأم. ضيفنا نقل من أعمال غسّان كنفاني، وأشعار محمود درويش إلى اللغة المالطيّة، كما عرف أبناء لغة الضاد بقصائد أحد أبرز شعراء مالطة، الشّاعر أدريان كريما. في هذا الحوار مع "رمان" يأخذنا صاحب «هجرة اللقالق» 2013 و«التائهون» 2017، في رحلة معرفية استكشافيّة لعوالمه الإبداعيّة.
بداية كيف تقدم نفسك لقراء "رمان"، أككاتب مالطي متوسطي، أم كاتب فلسطيني مهاجر لا يكتب بلغته الأم بل بلغة بلده الجديد؛ وهي اللغة التي تعد ثانوية في التسلسل الهرمي العالمي للغات، واللغة المعروفة لسكان جزيرة مالطة فقط؟
صحيح أنّ اللغة المالطيّة ثانوية بل وثانوية جداً من منظور الأقوام الأخرى، لكن ليس من منظور عربي لأنّ اللغة المالطيّة، وإن طالها ما طالها من نزيف ساميّ من جهة، وحشو لاتيني من جهة أخرى، إلّا أنّها لا تزال غير بعيدة عن دوحة العربيّة، وإن كُتبت بحروف لاتينية. فالمالطي والتونسيّ على سبيل المثال، يتواصلان جيداً فيما بينهما دون الحاجة إلى مترجم. بعيداً عن اللغة الأكاديمية، ما زالت الكتلة الكلامية الأساسية المستخدمة يومياً تقريباً عربيّة. أنا كاتب فلسطيني مالطي. وأردني أيضاً. أكتب باللغة المالطيّة كي لا أقع في فخ العيش على الهامش كما يحدث للكثير من المغتربين، إذ يجب أن تخاطب النّاس بلغتهم كي يصغوا إليك ويفهموك.
صدرت مطلع العام الحالي روايتك«هجرة اللقالق»، باللغة العربيّة في بيروت، وكانت قد صدرت في مالطة عام 2013. ما الذي أملى عليك حكايتها؟ وماذا عن مناخات كتابتها، خلفياتها، والتاريخ الذي يكمن وراءها؟
«هجرة اللقالق» تروي حكاية مهاجر لم يستطع الخلاص من وطأة الماضي ولا التأقلم في واقعه الجديد. تظلّ تطارده أشباح الماضي فيما هو نفسه يُنظر إليه كشبح في منفاه الجديد. إنّها قصّة المهاجر بامتياز، سواء كان شرعيّاً أم غير شرعيّ. تتكلّم الرواية أيضاً، وبتفاصيل دقيقة من النّاحية الإنسانية، عن النكبة الفلسطينيّة والنكسة وما تلاهما من هزائم وخيانات وحروب عبثيّة. ما حاولت تحقيقه في هذه الرواية هو رواية فلسطين لمالطة، ورواية مالطة لفلسطين، ثمّ مزج الروايتين معاً في وطن روائي أكبر هو الإنسان.
حدثنا عن الدوافع التي دعتك لإنجاز ترجمة مجموعة من قصائد الشّاعر أدريان كريما، أحد أبرز رواد الحركة الشعريّة والثقافيّة الحديثة في مالطة، والتي صدرت بعنوان «مسافات»، عن دار "صفصافة للنشر" في القاهرة العام الماضي.
الحقيقة أنّ الفكرة راودتني منذ فترة طويلة، بل عذّبتني أحياناً، سيّما وأنّني لم أعثر على أيّ أثر لأية أعمال أدبيّة منقولة عن المالطيّة، برغم الحضور العربي الدائم على أرض الجزيرة. الجالية الليبية وحدها على سبيل المثال، تعدّ بالآلاف. أضف إليها جميع رعايا جامعة الدول العربيّة، والكثير منهم مواطنون مالطيون. إلّا أنّهم كالواقع العربي نفسه، مشتّتون ومنقسمون ومبعثرة ريحهم، ولا تتجاوز مطالبهم سوى التيسير لهم في العبادة ودفن موتاهم، علماً أنّ هذا البلد يكفل حريّة العبادة والمعتقد، وينظر إلى مسلميه كجزء عزيز من نسيجه الاجتماعي متعدّد الأطياف.
لماذا أدريان كريما؟ بدأت التجربة عندما قمت بترجمة قصيدة له بعنوان «رام الله» مستوحاة من زيارة قام بها إلى مدينة رام الله أثناء الانتفاضة الثانية، واستمع خلالها لمعاناة "فرقة الفنون الفلسطينيّة"، والإجراءات القمعية التي تمارسها سلطات الاحتلال من أجل إسكات صوتهم، وتجريد الفلسطينيين حتّى من فولكلورهم وتراثهم كي لا تنفضح روايتهم الزائفة ومزاعمهم الكاذبة. حظيت القصيدة مترجمةً باستحسان شجّعني على المضي في إنجاز عمل كامل، فكان «مسافات» عن دار "صفصافة للنشر". وهو مختارات من ديوانين لهذا الشّاعر اللامع، الأول «تطاريز»، صدر عام 2006، والآخر «إكليل الجبل ونزوات أخرى» أصدره في العام 2015.
شملت الترجمة على داسة حول اللغة المالطيّة وآدابها، فهل صحيح أنّ قلب هذه اللغة لا يزال محتفظاً بعربية أصيلة فريدة؟ ولماذا لم تحظ برأيك بالاهتمام الكافي في المحيط الثقافي والأدبي العربي؟
ربما لم يدرك العرب، لا سيّما الدول العربيّة المجاورة لمالطة، ونقصد هنا دول السّاحل الإفريقي كتونس والجزائر وليبيا بشكل خاصّ، أهمّية اللغة المالطيّة من حيث وغلها في القدم، ومن حيث اللحمة الجنينية التي تربطها باللغة العربيّة. والمقصود بقلب اللغة هنا هو الكتلة الكلاميّة المتداولة يوميّاً بشكل عفويّ أو إعتيادي. وهي لا تزيد بالمناسبة عن عدّة مئات من جذور الكلمات المكرّرة قد يتضاعف عددها عند المرأة بحكم قربها من أبنائها وعلاقاتها الأكثر اجتماعيّة مع الأسرة والجيران.
لكن بالعودة إلى لماذا لم يلتفت العرب إلى اللغة المالطيّة من حيث أهمّيتها في علوم اللغة المقارنة وإتيمولوجيا الكلام فهذه قصّة يطول شرحها، تعود جذورها إلى أنّ المشتغلين العرب بعلوم اللغة وتأصيل الكلام لم يدركوا أصلاً أنّ أصل الكلام العربي ثنائي أصيل وليس ثلاثيّاً كما زعم سيبويه والخليل بن أحمد وحذا حذوهما فقهاء العرب، إذ لا يُعقل أنّ قطع وبتر ومرق أقدم من قطّ وبتّ ومرّ. لا بدّ لكلّ منتج إنسانيّ أن يكون قد مرّ بمراحل تطوّر جنينية متعدّدة، وما زالت في طور التطوّر والارتقاء، لأنّ اللغة كأيّ كائن حيّ، إن توقف عن التطور والتكيف حتماً سيصاب بالتقهقر والضمور. الإدّعاء هنا بأنّ اللغة العربيّة ثلاثيّة الجذر يعني أنّ البشريّة اهتدت إلى الرقم 3 قبل المرور بالرقم 2 وهذا ممّا لا يعقله العقل.
تكمن أهميّة اللغة المالطيّة من الناحية البحثية الإتيمولوجية، في احتوائها على كمّ وفير من الكلمات ثنائية الجذر الموغلة في القدم ولها ثبت في الأكّادية، وهي لغة قيل إنّها انقرضت فيما تزخر اللغة العربيّة بمفرداتها القديمة الجديدة. قد يستغرب القارئ الباحث أنّ اللغة العربيّة بكلّ جلالها ووفرة مفرداتها لا تحوي سوى بضعة مئات من الجذور الأصيلة التي احتاج لها أجدادنا القدماء من أجل التواصل الضروري على الأغلب. باقي ما تبقّى ليس إلّا مشتقّات وإضافات على نفس الجذر اللغوي بغرض "التعدية"، أو "خصخصة" المصدر ليؤدّي وظيفة أكثر توصيفية.
بتر وقطع كما أسلفنا، أكثر عمومية من بتّ وقطّ. ومن المرجّح أنّ اللغة العربيّة انتقلت إلى الثلاثي في العصر الزّراعي، أي قبل عشرة آلاف سنة، بعد أن أحدثت الزراعة انفجاراً لغويّاً هائلاً في حياة الإنسان، ممّا اضطرّه لاستنباط كلمات جديدة، لكنّها لا تبتعد عن فحوى جذرها الثنائي وربّما الأحاديّ، كما يشرح المؤرخ واللغوي عادل سعيد بشتاوي باستفاضة علميّة كبيرة في الكثير من دراساته حول أصول الكلام وتأصيله في اللغة العربيّة.
الكتابة بلغة مغايرة للغة الأمّ تعتبر إشكاليّة، وأنت تكتب باللغتين المالطيّة والعربيّة، وترجمت من وإلى اللغتين، تُرى كيف يمكن شرح هذه الإشكاليّة؟
هذه إشكاليّة شكليّة إذا ما أتيح للكاتب إتقان اللغة التي يكتب بها ويعبّر عن مكنوناته. أيّ مجافزة دون الإمساك بتلابيب اللغة قد يضرّ بالمُنتِج والمُنتَج الأدبي. "أربع" برتقالات مثلاً في الذّهن الجمعيّ المالطيّ، لا تعني "أربعة" على الإطلاق، بل "بضع" والفرق بين الأربع والبضع جليّ جداً للقارئ العربيّ.
كان أن فزت العام الماضي بجائزة الاتّحاد الأوروبي في الأدب عن روايتك «هجرة اللقالق»؛ وهي الرواية الصادرة باللغة المالطيّة في العام 2013، والتي سبق لها أن فازت بجائزة الكتاب الوطني في مالطة عام 2014، والتي اعتبرها مارك كاميليري (رئيس نادي الكتّاب المالطي) واحدة من أعظم الروايات في تاريخ الأدب المالطي. سؤالي: ماذا عن حصولك على هذه الجائزة؟ تالياً ما الذي تقدمه الجوائز لمسارك الأدبي؟
كانت كالصّدمة بالنسبة لي. إذ كيف لرواية مكتوبة بلغة لا يتجاوز تعداد الناطقين بها النصف مليون، تظهر أصوات شخوصها فجأة في بروكسل، ملوّحةً بجائزة الاتّحاد الأوروبي للأدب؟ هذه الأصوات لم تكن في الحقيقة سوى سُباب والدي ونواح أمّي على برتقالاتها الذبيحة، وثرثرة إخوتي عن الغد الذي يشي باللاّغد. والغريب في الأمر أنّ الرواية لا تتوقّف عن شجب وشتم الأوروبيين وتحميلهم وزر جلّ ما حلّ بالشعب الفلسطيني من كوارث.
فهل هي صحوة ضمير؟ أم لأنّ السّرد تطرّق إلى ما تتوق أوروبا إلى قوله بحق الصهاينة اليهود لكنّها تخشى من وصمة معاداة السّامية؟ لا أدري حقيقة كيفيّة اختيار النّص الفائز لكنّي أدري أنّهم يقومون بقراءة النّص وتمحيصه جيّداً. ربّما أرعبهم هيجان أبي عندما وجد الراديو على محطّة لندن أثناء حرب حزيران، "مين الكلب ابن الكلب اللي حطّه على هذي الإذاعة الكذّابة؟ ولكو مش عارفين إنّو هذول همّه اللي جابوا اليهود في حجورنا؟"، علماً أنّه هو نفسه من قام بتغيير المحطّة على عهدة الرّاوي.
عندما استُقبلت في بروكسل سألتني مديرة التشريفات، "هل تدري لماذا أنت هنا؟"، عندما تلعثمت استدركت قائلة، "لأنّنا فخورون بك!" ربّما كانت هذه هي الجائزة الحقيقية التي عدت بها من عاصمة الاتّحاد الأوروبي متسائلاً ما إذا كنّا قد خاطبناهم جيّداً. لماذا فشلنا كفلسطينيين في قضيّة يعرف الجميع بأنّها عادلة، وبأنّ حتّى القطط قادرة على اكتسابها في جميع المحافل الدوليّة؟ ربّما لسنا جديرين حتّى بتمثيل جراحاتنا.
ترجمت الأدب المالطي إلى العربيّة، ومن العربيّة إلى المالطيّة ترجمت عدة أعمال لكتّاب وشعراء عرب. فهل أثّرت ترجماتكَ في كتاباتك الإبداعية؛ أو لنقل: هل استفدت من الترجمة في الكتابة الإبداعية؟
بكل تأكيد. الترجمة تمرين ذهني شاقّ. هي إبداع بذاته، وقد يتفوّق أحياناً على الكتابة الإبداعيّة نفسها. فالمُتَرجم ليس مقيّداً بالنّص فحسب، بل مطالب بالقبض على الاختلاجات الذهنيّة والنفسيّة التي تدور في رأس المؤلّف وشخوصه، وتلك التي تسبح في فضاء النّص. الترجمة أيضاً تحثّ على البحث والتمحيص الدقيق في انتقاء الكلمات المرادفة بما فيها من حمولة ومدلولات ثقافيّة وسياسيّة واجتماعيّة أو حتّى لغويّة. فاللغة ليست بريئة تماماً كما يظنّ البعض، لا سيّما في الشّعر حيث تتمنّع الكلمات عن الكشف عن كامل مقاصدها ومراميها، حتّى في اللغة الأم. الشّعر يحتمل الكثير من التأويل وهنا تكمن المعضلة بالنسبة للمترجم الصّادق والأمين رغم ما يقوم به من خيانة.
حدثنا عن الأعمال التي نقلتها من العربيّة إلى المالطيّة لغسّان كنفاني ومحمود درويش. وهل تفكر بترجمة أعمال أخرى لكتّاب فلسطينيين وعرب؟
ربّما كانت ترجمة «أرض البرتقال الحزين» لغسّان كنفاني هي أوّل ما لفت الانتباه إليّ. وهي أوّل عمل أدبي أقوم بترجمته ليرى الضوء على صفحات «صوت المالطي»، وهي دوريّة أدبية تصدر عن جامعة مالطة. وكنت قد ترأست تحرير هذه الدورية المهمّة فيما بعد وتبيّن لي كم هي مضنية عمليّة التمحيص والاختيار. إذ كان علينا قراءة ومراجعة قرابة الخمسمائة نصّ من أجل اختيار خمسين منها للنشر.
بعد ذلك توالت الترجمات لكنفاني ولاقت أفضل الاستحسان ممّا شجّعني على ترجمة محمود درويش. وقد ساعدتني صلة القربى بين اللغتين على الاحتفاظ بالكثير من الموسيقى والإيقاع. لديّ الآن ما يكفي من مختارات لمحمود درويش وأخرى لغسّان كنفاني جاهزة للنشر وسيكونان مشروعي القادم في السنة القادمة.
ماذا تُنبئنا عن كتابك الشعري حول العودة إلى فلسطين الموسوم بـ «في طريقي إليها»؟
«في طريقي إليها» هو عنوان لديوان الشّعر الوحيد الذي أصدرته في مسيرتي الأدبيّة. لديّ مادّة جديدة لكنّها بحاجة لبعض المعالجة والتنقيح. في هذا الديوان حاولت التلاعب بالمفردات المالطيّة والأصوات الصّادرة عنها بطريقة جديدة لم يعهدها المالطيون في شعرهم ولا حتّى في نثرهم. فكان له وقع جيّد وجديد على أذن المتلقّي ممّا ترك بالغ الأثر لا سيّما لدى الجيل الجديد الذي اندهش أنّ لغته قادرة على كلّ هذه المرونة التقنية والفنيّة. ممّا لا شكّ فيه أنّ صولجان اللغة العربيّة ساعدني كثيراً ليس في الشعر فحسب، بل في مشواري الأدبي كله. نصف الديوان مكرّس للحبيبة الحاضرة الغائبة، فلسطين. وقد حاز على الجائزة الثانية للدولة المالطيّة عام 2014.
يقول الكاتب والأكاديمي المالطي نوربرت بوجيا، إنّ أدبيّات المقاومة الفلسطينيّة وبشكل خاصّ أدبيّات محمود درويش، وغسّان كنفاني، وفدوى طوقان، ومريد البرغوثي، ورجا شحادة، أظهرت تشابهات ومفارقات في المواضيع التي تتناولها الأدبيّات المالطيّة والفلسطينيّة، والتي كانت تواجه ظروفاً مشتركة نوعاً ما إبان الحكم البريطاني. هل لك أن تضيء على هذه الفكرة؟
الظروف المشتركة تعود إلى ما هو أبعد من ذلك. ابتداءً من الفينيقيين مروراً بالصّليبيين وفرسان المعبد الذين تم طردهم من القدس على يد صلاح الدين ثمّ لاحقهم سليمان القانوني إلى أن انتهى بهم المطاف في مالطة. هناك أيضاً الحملة الفرنسية بقيادة نابليون ويتردد محليّاً أنّه جنّد كتيبة من المالطيين بسبب قرب لغتهم من العربيّة ونقلهم معه إلى مصر وفلسطين. أضف إلى ذلك كلّه أنّ مالطة خضعت للاحتلال البريطاني من عام 1813 حتّى 1964. وهي نفس الحقبة التي تعرّضت فيها فلسطين (1920) للاحتلال البريطاني بعد سقوط الخلافة الإسلامية في الأستانة بعد الحرب العالمية الأولى.
ربّما يقصد نوربرت وهو أكاديميّ وشاعر لامع أنّ مالطة وفلسطين تعرّضتا لظروف تاريخية متشابهة. لكن من نافلة القول وللأمانة العلميّة لم أعثر على أدب مقاومة بالمفهوم الثوري أو الـ"ألبير كامي" إن جاز التعبير. بل حتّى لم أسمع أو أقرأ أبداً عن أيّة خليّة مقاومة تشكّلت أثناء الاحتلال البريطاني لمالطة. صحيح أنّه في أواخر الخمسينيّات تعالت بعض الأصوات المطالبة بجلاء البريطانيين عن مالطة لكنّ هذه الاحتجاجات رافقها مطالب شريحة واسعة تطالب بالانضمام للتّاج البريطاني. قد تبدو مفارقة لكن ليس حين يعلم القارئ أنّ مالطة عديمة الموارد، كانت تعتمد اعتماداً عضويّاً على بريطانيا العظمى في أكلها وشربها وأمنها ومنامها. حتّى تتوضّح الصّورة أكثر، بعيد جلاء البريطانيين، هاجر نصف سكّان الجزيرة بسبب عدم توفّر لقمة العيش. وهم كاللبنانيين، تعدادهم في الخارج يفوق عددهم في الدّاخل، جلّهم في أستراليا.
كيف تنظر إلى حركة السرد اليوم في بلدك الأم (فلسطين) ؟
بخير. النجوم في بلدي لا تُعدّ.. لا خشية على الأدب الفلسطيني بل على فلسطين نفسها.
سؤال أخير، عن جديدك على صعيدي الترجمة والكتابة الإبداعيّة؟
حالياً أعمل على ترجمة شاعر مالطة الوطني، دون كارم بسايلا، وهو كاتب النشيد الوطني للجمهورية المالطيّة. وهو مشروع كبير يشرف عليه المجلس القومي للكتاب، وخصّص له ميزانيّة مهيبة قد تُصيب بعض وزارات الثقافة العربيّة بالجلطة الدماغية. عدا عن ذلك لديّ درويش وكنفاني، وقصّة رائعة عن ممَرّضة فلسطينية هربت من جحيم مخيم اليرموك في دمشق، لتلقى حتفها في «لامبيدوسا»، بلدة مجاورة على الساحل الإيطالي بعد أن قفز أحدهم في الظلام فوقها متسببّاً لها بنزيف في الدماغ ممّا أدى إلى وفاتها سريريّاً.
برغم فداحة الفاجعة قرّرت أسرتها المقيمة في مالطة التبرّع بأعضائها، ولدينا اليوم ثلاث أشخاص إيطاليّون على قيد الحياة بسبب هذا القرار الشّجاع، من ضمنهم قسّ كاثوليكي يعيش بقلبها. وتوجد اليوم حديقة عامّة في صقلية تحمل أسمها. خلاصة القول؛ كانت قد صدرت رواية من ميلان تروي قصّتها، وقد تمكّنت من التواصل مع مؤلفها الإيطالي اوقو برتوتّي، وهو صحفيّ مرموق، واتّفقنا على ترجمتها إلى المالطيّة لأنّ المرأة دُفنت في مالطة بعد تدخّل رئيس الوزراء مشكوراً بعد أن رُفض جثمانها لأنّه لا يحمل «فيزا».
جدير بالذكر أن وليد نبهان روائي وشاعر ومترجم يحمل الجنسية المالطية ويكتب بلغتها. ولد في الأردن في العام 1966، لعائلة فلسطينيّة من قرية القبيبة قرب الخليل. تعلّم وليد في مدراس وكالة تشغيل وغوث اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) في عمّان، قبل أن يغادر إلى مالطة عام 1990، لدراسة علوم المختبرات الطبيّة. حصل عام 1998، على إجازة في العلوم الطبية الحيويّة من جامعة بريستول في إنكلترا. وفي العام 2003، حصل على درجة الماجستير في "الديمقراطيّة وحقوق الإنسان" من جامعة مالطة. صدر له باللغة المالطيّة مجموعتان قصصيّتان ومجموعة شعريّة في العام 2014، وروايتان هما: «هجرة اللقالق» في 2013، والتي صدرت باللغة العربيّة عن "الدار العربيّة للعلوم – ناشرون"، في بيروت مطلع العام 2018، و«التائهون» في 2017. بالإضافة إلى ذلك يعمل وليد نبهان على ترجمة الأدب المالطي إلى العربيّة، ومن العربيّة إلى المالطيّة (حيث ترجم أعمالاً لغسّان كنفاني ومحمود درويش). فاز نبهان بجائز الاتّحاد الأوروبي في الأدب للعام 2017، عن روايته «هجرة اللقالق- L-Eżodu taċ-Ċikonji»؛ وهي الرواية الصادرة باللغة المالطيّة في العام 2013، والتي سبق لها أن فازت بجائزة الكتاب الوطني في مالطة عام 2014.