هل سلختَ ساعدي/ لترقعَ السواعدَ التي مزقها سواي (١)

تقاطعات المحرقة والنكبة في ظل الصهيونية (١/٢)

2018-08-23 10:00:00

تقاطعات المحرقة والنكبة في ظل الصهيونية (١/٢)
Palestinian refugees in Haifa waiting to be exiled to an Arab city

ترى هذه الورقة أن فهم الموقف الفلسطيني من المحرقة يمكن فقط من خلال فهم سياق اللقاء بين المحرقة والنكبة الذي تشكّل وضُبط استعمارياً بوساطة الصهيونيّة وبواسطة ممارستها على الأرض. وقد تم ذلك أولا من خلال ضفر (تشابك) إنشاء وتأسيس إسرائيل كدولة يهودية مع نكبة فلسطين ومحوها ككيان سياسي وقومي واجتماعي، وثانيا ضفر عملية المحو والإنشاء هذه في بنية الدولة ومؤسساتها القانونية وممارساتها على الأرض!

شكّل التقاطع بين المحرقة والنكبة في سياق الاستعمار الصهيوني لفلسطين، موضوعاً لعدة معالجات أدبية وبحثية في أوساط الكتاب والأدباء الفلسطينيين أو من يكتبون عن التجربة الفلسطينية، وقد تكون رواية «عائد إلى حيفا» لغسان كنفاني التي صدرت طبعتها الأولى عام 1969، من أكثر الأعمال القصصية المعروفة التي تطرقت إلى اللقاء المركب بين ضحايا النكبة وضحايا المحرقة على أرض حيفا المحتلة، وذلك عبر سرد قصة اللقاء بين عائلة فلسطينية طردت من بيتها في حيفا خلال النكبة بعد أن فصلت الأحداث، في خضم الحرب، بينها وبين ابنها خلدون المتروك مؤقتاً في البيت، إذ استوطنت البيت بعد النكبة عائلة يهودية ناجية من المحرقة وقامت بتربية الطفل الفلسطيني ومنحته اسم دوف.


تميزت رواية كنفاني بحواراتها السياسية الأيديولوجية، وبتصوير اليهودي كضحية أيضاً وليس فقط كمستعمر. وقد كان من أهم ما جاء في الرواية خلاصتها بأن الانسان ليس ما يولد عليه، بل ما يربى عليه ويصير قضيته، وحول حتمية المواجهة لتحرير فلسطين. وقد حظيت رواية كنفاني باهتمام كبير وشهرة واسعة وتم تحويلها إلى أكثر من فيلم سينمائي (٢) ومسلسل تلفزيوني (٣)، كما وكتب سامي ميخائيل رواية تناصيّة استخدمت ذات الحبكة لمحاولة إيجاد سيناريوهات بديلة للمواجهة. وبعد انقطاع معين، عاد مؤخراً الاهتمام بالعلاقة بين المحرقة والنكبة، وهو ما انعكس في تزامن صدور عدة أعمال أدبية جديدة تلقي الضوء على العلاقة بين الكارثتين في ظل المشروع الصهيوني وإرهاصاته. ومن أهم هذه الأعمال رواية «أولاد الغيتو» لإلياس خوري (دار الآداب 2016) التي تستخدم في وصفها نكبة اللد ومصير الناجين الذي بقوا في اللد لغة "هولوكوستية"، حيث يقوم خوري بتوصيف عملية تجميع وحصر الباقين الفلسطينيين في اللد في "الجيتو" وتسييجه بالأسلاك الشائكة، كما يصف تجارب الجوع والعطش والإذلال في هذا الجيتو. وتصل المقاربة بين المحرقة والنكبة إلى ذروتها في تناول خوري تشكيل خمس مجموعات من الشبان من سكان الجيتو بأمر من الجيش الإسرائيلي للقيام بمجموعة مهمات خارج الجيتو، كل مجموعة مكونة من خمسة أشخاص يتقدمهم جنديان أنيط بهم العمل على لم الجثث من الشوارع ودفنها في قبور جماعية، وتجميع المواد الغذائية من الحوانيت ونهب البيوت وتحميلها على شاحنات الجيش وتنظيف مقر القيادة العسكرية الإسرائيلية". ويتناول خوري بدقة وفي سبعة مشاهد عملية تجميع الجثث، بشكل خاص، وما رافقها من تجارب مؤلمة تنتهي بإصدار أمر للشبان بحرق حوالي 30 جثة وذر رمادها في مشهد مشابه لعمل مجموعات الشبان اليهود "كزوندركوماندو" في محارق النازية.

وتكمن خصوصية رواية «أولاد الغيتو» لخوري في أنها تخلق ما يشبه "المحاكمة"، إذ يقوم خوري ومن خلال توصيف دقيق لتجارب الناجين الصادمة في الفترة الأولى التي تلت نكبة اللد فعليا بوضع النكبة مباشرة أمام المحرقة، يعرض صورها الصادمة التي تبدو كأنها مأخوذة من معسكرات التجميع النازية، خاصة تلك المرتبطة بعمل "الزوندركوماندو"، ويكشف ليس فقط عن مدى التشابه بين تجارب الضحايا (دون مقارنتها) بل عن كيفية تقلب أدوار الضحية وتحولها إلى جلاد.

ومن الروايات اللافتة التي صدرت مؤخرا أيضاً «مصائر: كونشرتو الهولكوست والنكبة» للكاتب ربعي المدهون (2015، إصدار المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت وعمان، ومكتبة كل شيء في حيفا)، وحازت الرواية على جائزة البوكر العربية، تتضمن الرواية زيارة البطل متحف ضحايا المحرقة ياد فشيم في موازاة البحث عن قرية دير ياسين. ويضاف إلى هذه الأعمال الروائية البحث الموسوعي الذي قدمه المؤرخ اللبناني جلبير أشقر تحت عنوان «العرب والمحرقة النازية» (دار الساقي، 2010)، وتناول فيه ردود الفعل العربية المختلفة على معاداة السامية وعلى النازية، مركزاً بشكل خاص على وجود مجموعة متمايزة ومتنوعة سياسية وأيديولوجية من ردود الفعل.

يعكس الاهتمام بالتقاطع بين المحرقة والنكبة الوعي المتزايد بمركزية المحرقة في تشريع المشروع الصهيوني واستخدامها السياسي من قبل إسرائيل وقياداتها في مشروعها الاستعماري من جهة في موازاة الحساسية الأوروبية ومشاعر الذنب تجاه المحرقة ومأساويتها غير المسبوقة من جهة أخرى. (عن الصهيونية واستخدام المحرقة انظر/ي سيغف، 1991؛ يبلونكا، 1994، 1998؛Ben Hecht 1961) وعلى الرغم من أهمية هذه الأعمال إلا أن تناول التقاطع بين المحرقة والنكبة كان قد بدأ مبكراً، وقد شكلت في هذا الإطار قصيدة راشد حسين "الحب والجيتو" التي نشرت عام 1963 أحد بواكير الإضاءات على جدلية العلاقة بين النكبة والمحرقة في سياق المشروع الاستعماري الصهيوني، والتي تتعدى أهميتها جماليتها الموجعة في لقاء الكارثتين لتظهر في معالجتها شبه السوسيولوجية الشعرية لعلاقة المحو والإقصاء للفلسطيني في اللقاء مع المحرقة على أرض فلسطين المنكوبة. زمكانياً، تتموضع قصيدة حسين في منتصف العقد الثاني للنكبة، بموازاة مشاريع بناء الأمة ومأسسة التذكّر المرتبط بالمحرقة ضمن مشاريع الدولة، التي منعت عودة اللاجئين وأسّست إسرائيل على أنقاض فلسطين كدولة يهودية حصرية.

وسأقوم في هذه الورقة بتسليط الضوء على تقاطعات النكبة والمحرقة في لحظة تأسيس "الدولة اليهودية" على أنقاض فلسطين، وقراءة انعكاس هذا التقاطع على علاقة الفلسطيني بالمحرقة كما تم التعبير عنها في تقاطعين: أولاً، التقاطع الزمكاني، والذي يتم تناوله في الجزء الأول من المقال ويتابع عملية إقامة مجمع "ياد فشيم" منذ منتصف الأربعينيات، وتقدمه بموازاة النكبة حتى إقراره مؤسسة رسمية في دولة إسرائيل، بموجب قانون خاص للكنيست عنوانه "قانون ذكرى المحرقة والبطولة-ياد فشيم، 1953". ويعكس هذا التوازي الزمكاني توريط المحرقة في السيرورة الاستعمارية لفلسطين، وضفرها في ثنائية مزدوجة للمحو والإنشاء تدمج بين إنشاء المجمع لتأبيد ذكرى ضحايا المحرقة كجزء من مشروع المستعمَرة، مقابل محو المشهد الفلسطيني المحيط وإلغائه فعلياً ورمزياً. ويشار هنا إلى مصدر الاسم "ياد فشيم" يعود إلى سفر أشعيا إصحاح 56 آية 5، حيث ورد: «إِنِّي أُعْطِيهِمْ فِي بَيْتِي وَفِي أَسْوَارِي نُصُبًا وَاسْمًا أَفْضَلَ مِنَ الْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ. أُعْطِيهِمِ اسْمًا أَبَدِيًّا لاَ يَنْقَطِعُ.» وهذا ما يوضح العلاقة بين الاسم وبين الغاية من هذه المؤسسة.

التقاطع الثاني، يحظى بالمعالجة في الجزء الثاني من المقال حيث يتابع هذا الجزء التقاطع الوجودي بين المحرقة والنكبة في فلسطين/ إسرائيل كما عبر عنها راشد حسين في قصيدته "الحب والجيتو" 1963 (في الأعمال الكاملة، 1990، ص474) التي كانت من أوائل المنتجات الأدبية الفلسطينية التي تتناول اللقاء بين المحرقة والنكبة في فلسطين عبر قصة اللقاء بين الشاعر ويافا اليهودية الناجية من المحرقة، في مدينة يافا المدمّرة.

ترى هذه الورقة أن فهم الموقف الفلسطيني من المحرقة يمكن فقط من خلال فهم سياق اللقاء بين المحرقة والنكبة الذي تشكّل وضُبط استعمارياً بوساطة الصهيونيّة وبواسطة ممارستها على الأرض. وقد تم ذلك أولا من خلال ضفر (تشابك) إنشاء وتأسيس إسرائيل كدولة يهودية مع نكبة فلسطين ومحوها ككيان سياسي وقومي واجتماعي، وثانيا ضفر عملية المحو والإنشاء هذه في بنية الدولة ومؤسساتها القانونية وممارساتها على الأرض!

تعالج الورقة تقاطع النكبة والمحرقة في ظل الصهيونية وتأسيس إسرائيل عام 1948 على أرض فلسطين والآثار الاستراتيجية لذلك على تشكّل العلاقة الفلسطينية مع مسألة المحرقة، وتستخرج من خلال قصيدة "الحب والجيتو" لراشد حسين نموذجاً تحررياً وثورياً وإنسانياً لمفهمة العلاقة فلسطينياً من خلال تأطيرها ضمن السياق الاستعماري الاستيطاني لإقامة إسرائيل واستدماج المحرقة فيها بالتوازي مع عملية محو المشهد الفلسطيني.

تنقسم الورقة إلى أربعة أجزاء رئيسة. يعالج الجزء الأول التقاطع بين المحرقة والنكبة في ظل الصهيونية وتحول الصهيونيّة إلى وسيط مركزي في لقاء الفلسطيني مع المحرقة. الجزء الثاني يتابع التقاطع الزمكاني بين المحرقة وتأسيس مجمع ياد فشيم وبين النكبة الفلسطينية وانضفار عملية بناء ذاكرة المحرقة في صيرورة محو الفلسطيني ونكبته. ويتابع الجزء الثالث تصوّرات الفلسطيني للمحرقة وتشكّلها على خلفية نكبته وإقامة إسرائيل كدولة إثنية/قومية حصرية يهودية، كما عبر عنها الشاعر راشد حسين في قصيدته "الحب والجيتو" عام 1963. أما الجزء الرابع والأخير فيحتوي على خلاصة لأهم المقولات التي تم استعراضها في الورقة.

عين كارم – القدس


1- لقاء الفلسطيني مع المحرقة بوساطة الصهيونية

ترى الورقة الحالية استحالة معالجة التقاطع بين النكبة والمحرقة بمعزل عن وساطة الصهيونية الطاغية التي تم من خلالها ضبط أشكال اللقاء والتفاعل بين موضوعة المحرقة عامة والناجين منها خاصة وبين الفلسطينيين وفلسطين، وذلك لعدة أسباب:

- أولاً، لم يكن الفلسطيني ليجد نفسه وجهاً لوجه مع الناجين من المحرقة لولا الصهيونية، أو بصورة أدق لولا قيام الصهيونية بطرح إقامة مشروعها القومي لإقامة دولة لليهود على ذات الأرض التي هي وطنه، وعلى أنقاض وجوده الملموس والرمزي في ذات المكان، فالصهيونية هي التي استجلبت الناجين من المحرقة إلى أرض فلسطين التي سُلبت من أهلها ليعيدوا رتق جروحهم، ويعيدوا بناء كيانهم على ذات المكان. وبحسب الإحصائيات في الفترة الممتدة من نهايات الحرب العالمية الثانية وحتى منتصف سنوات الخمسينيات من القرن المنصرم وصل إلى إسرائيل أكثر من نصف مليون مهاجر من أوروبا كانوا في أغلبيتهم العظمى من الناجين من المحرقة (يبلونكا،1997). في المقابل، طُرد أو هرب نتيجة رعب الحرب نحو 850 ألف فلسطيني، شكلوا في حينه 90% من سكان المساحة التي أقيمت عليها إسرائيل.

- ثانياً، شارك جزء من الناجين من المحرقة من الشباب في نكبة الفلسطينيين بشكل مباشر من خلال تجندهم في القوّات الصهيونية المحاربة. وتشير الإحصائيات إلى أن نسبة كبيرة من مجندي القوات الصهيونية في عام 1948 كانوا من الناجين من المحرقة، وبحسب حنة يبلونكا (1997) راوحت هذه النسبة نصف عدد المجندين. في هذا الإطار، يؤكد يائير أورون (2013) على الدور المهم الذي لعبه ناجون من المحرقة في معارك 1948 ومساهمتهم الكبرى في إقامة دولة إسرائيل. ويشير أورون أيضاً إلى أن نسبتهم في الوحدات القتالية بلغت في مرحلة معينة الثلث، بل النصف في بعض الأحيان، وهو ما يدفع أورون إلى الاستخلاص التالي: "كانت المحرقة حاضرة عبر صورة عشرات الآلاف من الناجين من المحرقة الذين وصلوا إلى فلسطين بعد العام 1945، وشاركوا في حرب 1948 التي قُتل بعضهم فيها" 2013: 98).
 
قرية عين كارم قبل التهجير

- ثالثاً، تتعامل إسرائيل مع المحرقة كجزء أساسي من الهوية الجمعية للشعب الذي تقول إنها تمثله، وتشتغل هذه الدولة بتوزيع الأدوار وبناء المؤسسات وعمل الفعاليات القومية المختلفة لتأبيد ذكرى ضحايا المحرقة وعلى رأسها ياد فشيم. بالإضافة إلى ذلك، أخذت إسرائيل على عاتقها بوصفها دولة اليهود محاكمة ومطاردة مجرمي النازية، ونستذكر في هذا السياق محاكمة آيخمان ودميانيوك ومطاردة مجرمي النازية من قبل الموساد الإسرائيلي في دول العالم (انظر ميلمان، 2012؛ بار زوهر ومشعال، 2012).

- رابعاً، ولعله الأهم هو أن إسرائيل، حسب ما يراه عدة باحثين، ربما لم تكن لتقوم لولا المحرقة التي شكّلت فعليًا التبرير الأخلاقي لإقامتها (انظر في هذا السياق: سيغف،1991). يعني هذا فعلياً أنه لا بد من النظر إلى النكبة بوصفها إحدى الارتدادات المستمرة للمحرقة. فالمحرقة، التي سعت إلى إبادة يهود أوروبا، لم تنته بالقضاء على اللاسامية وبإعادة اندماج اليهود على أساس مواطنة ديمقراطية وحرة، بل تمخّضت عن واقع جديد مزدوج يدمج بين خلاصات اللاسامية والاستعمار معاً، إذ خرج اليهود بفعل المحرقة من أوروبا وهو ما كان يريده اللاساميون وعلى رأسهم النازية، وتم ذلك عبر الاندماج بمشروع استعماري استيطاني قومي تقوده الصهيونية في فلسطين. إن الفعل المزدوج لخروج ناجيي المحرقة من أوروبا والاندماج في مشروع الاستعمار الصهيوني القومي هو الذي نَحَتَ عمليًا العلاقة بين الفلسطينيين وبين المحرقة، وبين الناجين من المحرقة وبين والنكبة.
 
ياد فشيم


2- التقاطع الزمكاني ما بين تشييد ياد فشيم وبين محو المشهد الفلسطيني

تعكس الجغرافيا السياسية للمكان في إسرائيل، بما تتضمنه من اقتصاديات المحو والإنشاء والحجب والإبراز فيما يخص السكان الأصليين الفلسطينيين مقابل المهاجرين، البنية المشكّلة للمشروع القومي الصهيوني كمشروع مبني على محو المشهد الفلسطيني وإلغائه المثابر، مقابل بناء وتشييد وإقامة المشهد اليهودي-إسرائيلي-صهيوني المستعمِر مكانه. ويوضح وصف موشيه ديان، القيادي الصهيوني البارز، انضفار عملية المحو والإحلال بالمشهد الإسرائيلي الذي أقيم على أنقاض المشهد الفلسطيني، حيث قال خلال محاضرة له أمام مجموعة من الطلبة في معهد التخنيون بتاريخ 1969/3/19:

لقد حلت القرى اليهودية مكان القرى العربية، وليس في مقدوركم اليوم أن تعرفوا حتى أسماء تلك القرى العربية. أنا لا ألومكم، فكتب الجغرافيا لم يعد لها وجود، بل القرى العربية ذاتها لم يعد لها وجود، فقد حلت نهلال مكان معلول، وجبعات مكان جبع، وسريد مكان خنيفس، وكفار يهوشواع مكان تل الشمام. (صحفية هآرتس بتاريخ 1969/4/4)

وتنعكس الخارطة الجغرافية السياسية المنضفرة بالمحو والإحلال في تقاطع النكبة والمحرقة عبر سياسات إنشاء "ياد فشيم" وهو "مركز عالمي توثيقي وبحثي وتعليمي لتخليد ذكرى الهولوكوست" (٤) على أنقاض فلسطين عام 1948. وهو ما يعني فعليا أن معاني مجمع الذاكرة تتشكل ضمن علاقات القوة الاستعمارية الإقصائية للصهيونية مع المكان الفلسطيني الذي تم محوه من الخارطة خلال عام 1948، ولاحقاً ضمن مأسسة إقصاء ومحو الفلسطيني من خلال منع عودة اللاجئين ومأسسة إسرائيل كدولة يهودية.
 

ياد فشيم


ياد فشيم - تلة التذكر التي تطل على خرائب فلسطين

يقع مجمع "ياد فشيم" على أراضي خربة حمامة، وهي أراض مشاع تابعة لقرية عين كارم. وتقع على مسافة قريبة لا تزيد عن كيلومترين ونصف من المجمع، قرية دير ياسين، التي شهدت مجزرة بشعة عام 1948 راح ضحيتها عشرات المدنيين من نساء وأطفال، ثم تم تهديمها باستثناء بضعة مبان، وإقامة ياد شاؤول على أنقاضها (للمزيد عن المجزرة انظر/ي وليد الخالدي، 1999). وفي محيط القرية الممتد على بضعة عشرات الكيلومترات تموقعت في الماضي أكثر من أربعين قرية فلسطينية، ناهيك عن الحارات الداخلية في غربي القدس كالطالبية والقطمون وتلبيوت والبقعة. كل هذه القرى والحارات أخليت عن بكرة أبيها في عام 1948، كما أخليت مستشفيات كمستشفى البرص الذي طرد مرضاه وطاقمه، كما يكتب عن ذلك سليم تماري. وبلغ عدد الفلسطينيين المطرودين من هذه القرى أكثر من 70 ألف فلسطيني، ناهيك عن عشرات الآلاف الذين طردوا من أحياء القدس الغربية (Tamari, 1999: p.75-78).

وجاء في تعريف المجّمع الذي يقع ما بين دير ياسين وعين كارم ما يلي:

تم إنشاء مؤسسة ياد فاشيم عام 1953 كمركز عالمي توثيقي وبحثي وتعليمي لتخليد ذكرى الهولوكوست، فأصبحت ملتقىً دولياً للأجيال، حيث يأتي كل عام مئات الألوف من الزوار من جميع أصقاع الأرض والمنتسبين إلى كافة الطبقات والمناشئ والديانات والمعتقدات لزيارة مجمّع "ياد فاشيم" المترامي الأطراف الذي يضم المتاحف والمعارض والنصب التذكارية والمراكز البحثية والتعليمية والأراشيف والمكتبات. (٥)

وبحسب موقع المجمع الإلكتروني فإن دور المجمع يرتكز على أربعة أعمدة هي 1. حفظ الذاكرة 2. التوثيق 3. البحث والنشر 4. التعليم.

ولا يختلف دور المجمع عملياً عن الدور الاجتماعي لمتاحف الذاكرة، التي يتركز عملها في الحفظ والتوثيق وعرض الذاكرة والإسهام في تشكيل الذاكرة الجمعية وفق رؤى معينة.  لكن الدور الاجتماعي لمجمع ياد فشيم يتعقد بسبب تقاطعه مع النكبة الفلسطينية، ويتشكل دوره من وجهة نظر الفلسطيني عبر علاقته مع المكان الذي سلب مشهده الخاص، وتشكل عبر تاريخ دير ياسين وعين كارم وما تمثلانه في التأريخ الفلسطيني المنكوب.

وفي هذ السياق، يأخذ المجمع معناه من سياقه الزمكاني والقومي الاستعماري-من موقعه الجغرافي بين عين كارم ودير ياسين المسلوبة، وتموضعه زمانيا على خلفية النكبة وإقامة إسرائيل، وقوميًا على خلفية إحلال الدولة اليهودية مكان الوطن الفلسطيني الذي تمت تنحيته. يتم في المجمع استذكار ستة ملايين يهودي ضحايا واحدة من أكبر جرائم الإنسانية؛ وقد قامت الكنيست، في شهر نيسان 1951، بتحديد 27 من الشهر السابع في السنة العبرية كيوم الذكرى والبطولة، حيث يسبق هذا اليوم ذكرى "جنود إسرائيل الذين قضوا في الحروب" ويوم إعلان استقلال إسرائيل، وكما جاء على موقع الكنيست فإن هذا التلازم يرمز إلى التحول التاريخي من الكارثة إلى الانبعاث" (٦). والانبعاث اليهودي في إسرائيل هو الوجه الآخر لخراب فلسطين، ويشكل من ناحيته الصندوق الأسود للنكبة الفلسطينية، إذ يقصد به إقامة إسرائيل مكان فلسطين.

أقيم مجمع ياد فشيم على أرض خربة حمامة وهي أرض مشاع تابعة لقرية عين كارم، كما ذكرنا سابقاً، وهي إحدى أكبر قرى قضاء القدس مساحة وعدداً، حيث بلغ عدد سكانها 2510 من المسلمين و670 من المسيحيين والتي، على العكس من أغلب القرى الفلسطينية، تمّ الحفاظ على بنيانها وعمارتها وبيوتها بعد أن طرد سكانها من بيوتهم ومنعوا من العودة، وتم إسكان يهود مكانهم. ومن يزور القرية اليوم سيجدها قرية فلسطينية تقليدية من حيث العمران، وإسرائيلية يهودية من حيث السكان واللغة والتسميات و"الإيثوس" (الروح الجمعيّة). وبحسب ما جاء في كتاب "ما تبقى لكم" للمؤرخ الفلسطيني وليد الخالدي، كانت في القرية مدرستان ابتدائيتان (إحداهما للبنين والأخرى للبنات) ومكتبة وصيدلية، وكانت فيها أيضاً نواد رياضية واجتماعية عدة وجمعية كشافة للبنين.

وكان سكان القرية يشهدون عروضاً مسرحية، منها مسرحيات نوح إبراهيم، الفنان والمغني الفلسطيني الذي أبعد عن قريته في شمال فلسطين إلى عين كارم، بسبب اشتراكه في النضال ضد الانتداب البريطاني. وكان من جملة وسائل الترفيه وسبل الإعلام الأخرى مسرح في الهواء الطلق، ومذياع في مقهى القرية موصول بمكبرات صوت لتمكين عدد كثير من الناس من الاستماع إليه. وكان لعين كارم مجلس بلدي يدير شؤونها الإدارية. احتُلت القرية في تموز 1948، وفي سنة 1949، أنشأ الإسرائيليون مستعمرتي بيت زايت وإيفن سابير على أراضي القرية. كما أنشئت عليها في سنة 1950 مدرسة عين كارم الزراعية . أما باقي الأراضي فقد ضمتها بلدية القدس الغربية إليها بما فيه أراضي خربة حمامة.

وتُنسب فكرة إقامة مجمع ياد فشيم التذكاري إلى مردخاي شنهابي، من هشومير هتسعير، وقد نشر فكرته هذه على الملأ لأول مرة في ‏25 أيار 1945، في جريدة دافار، وذلك تحت عنوان  "نصب واسم للمهجر المنهار" ( مقتبس لدى بن ناحوم، 2011). وفي 15 آب أقرت لجنة هبوعل هتسيوني في مؤتمر في لندن إقامة "ياد فشيم“ (بن ناحوم، 2011: ص 72). وفي شهر نيسان 1949، أرسل شنهابي عدة مراسلات من أجل اقتسام أراضي "خربة حمامة" بين مجمع ياد فشيم المقترح وبين المقبرة العسكرية (بن ناحوم، 2011: ص. 209). وكان قد تمّ الاستيلاء على أراضي خربة حمامة مع قرية عين كارم خلال شهر تموز  1948. وكان شنهابي قد اقترح قبل هذا بوقت قصير أيضاً أن يتم غرس جزء من حرش "المدافعين" لإحياء ذكرى الجنود الصهاينة الذين سقطوا في عام 1948، ضمن المساحة التي ستخصص لإقامة "ياد فشيم"، وذلك رغبة منه في الربط بين ضحايا المحرقة والجنود الذين سقطوا في حرب "1948". (بن ناحوم، 2011: ص 94).

هذا مع العلم بأن معاينة كتابات شنهابي تفصح عن أنه كان يؤمن بأن المنشأ يجب أن يقوم في بيئة زراعية، حيث يدل ذلك، بشكل طبيعي، على نشاطات منظمة الكيرن كييمت. وكتب في أوراقه أيضاً "لا توجد بيئة أفضل من البيئة الزراعية". (‏بن ناحوم، 2011: 70)

قد يكون من الملفت للانتباه، أن الصيغة التي جاءت في موسوعة ويكيبيديا عن إقامة ياد فشيم تلقي الضوء على تشبيك المحرقة مع النكبة. فتحت عنوان "ياد فشيم"، وتحديدًا تحت العنوان الفرعي تسلسل تاريخي لمراحل إقامة "ياد فشيم (٧) ثمّة تطرّق إلى إقامة النصب وتقاطع النكبة والمحرقة في فلسطين:

8/1942 مردخاي شنهابي من هشومير هتسعير يقترح فكرة إقامة موقع تذكاري (٨).

8/1945 تشكيل الإدارة في لندن كجسم في الوكالة اليهودية، في شهر أيار 1946 بدأ العمل "مشروع ياد فشيم" في شقة من غرفتين في شارع الملك جورج 27 في القدس.

7/1948: احتلال المنطقة التي سيقام عليها لاحقا "ياد فشيم" في معارك الأيام العشرة على يد لواء يونتان.

تختصر هذه المقدمة التقنية أعلاه لتسلسل إقامة ياد فشيم اللقاء الكارثي الذي تم بين النكبة والمحرقة في فلسطين، والذي تم نظمه بوساطة الصهيونية وبوساطة ممارستها لتحقيق مشروع إقامة الدولة اليهودية على أرض فلسطين.

إذا نبشنا قليلا تحت سطح عنوان "سلسلة الأيام العشرة" التي تذكر لتوصيف تسلسل إقامة ياد فشيم يمكن أن نعيد بناء وتركيب سيرورة التهديم والخراب التي حلت على الشعب الفلسطيني والتي كانت تنبني بموازاتها دولة إسرائيل ومؤسساتها بما فيها ياد فشيم والوقوف على توريط الصهيونية للمحرقة في النكبة.

تشير "سلسلة الأيام العشرة إلى سلسة العمليات التي بادرت لها القوات الصهيونية التي امتدت بين 8-18 تموز 1948 وتم خلالها القيام بعدة عمليات طرد واستيلاء على قرى وفي منطقة الوسط تم القيام بعمليتين مهمتين:

عملية داني وعملية كيدم. تشير عملية داني إلى احتلال الرملة واللد وتعميق السيطرة على الطريق الموصل إلى القدس. وعملية كيدم التي من خلالها تمت محاولة احتلال القدس القديمة، لكنها فشلت.

خلال الأيام العشرة، قامت فرقة عتصيوني بمهاجمة القرى التي تقع جنوبي القدس، وأشركت معها قوات من الليحي والاتسل التي سبق أن ارتكبت مجزرة دير ياسين، في نيسان 1948. احتلت هذه القوات المشتركة قرية بيت مزميل التي أقيمت عليها لاحقاً مستعمرة كريات يوبيل، وقرية المالحة التي أقيمت عليها مستعمرة منحات، وعين كارم التي تحولت إلى عين كيرم، وأيضاً السلسلة الجبلية رأس الرب (وتعرف باسم سلسلة مِس كيري Ms Carey) ونصف قرية بيت صفافا (بن أرييه،1983: ص 223)

يكتسب التزامن بين إقامة اسرائيل وبين نكبة فلسطين أهمية في فهمنا لمدى توريط المحرقة في السياق الاستعماري الصهيوني، وبالتالي في نكبة فلسطين، وهو ما قد تضيئه بشكل خاص عملية وضع حدود الخطاب السياسي في مجمّع "ياد فشيم"، حيث يتم استبعاد القضايا الخلافية السياسية، سواء أجاءت من قبل اليمين أم اليسار، ويتم التركيز على البعد العالمي والإنساني للمحرقة. في هذا السياق، نشير إلى أنه جرى طرد أحد المرشدين في "ياد فشيم" لأنه قام بذكر مجزرة دير ياسين على مسمع الزوار. كما ادعى مرشد آخر أنه طُرد من عمله هناك لأنه قال خلال إرشاد مجموعة طلاب في 14/7/2014 أن: " قتل أناس خلال المحرقة بسبب كونهم يهوداً هو تماماً مثل الفتيان الثلاثة في جوش عتصيون"، في إشارة إلى مقتل ثلاثة فتيان مستوطنين في ذات اليوم على يد مجموعة فلسطينية (٩). وقد جاء في سياق دفاع المديرة العامة للمؤسسة عن قرار الطرد أن المجمّع لا يخوض في أمور سياسية خلافية مستجدة.

لكن "ياد فشيم" أقيم على أرض تم استعمارها، وعلى أثر عملية محو لشعب آخر، غير أن وضع الحدود وتحصينها، يميناً ويساراً، في سياق استعماري هي إشكالية وتعيد إنتاج موضوعية متخيلة منزوعة عن السياق، هي بالذات ما يزيد توريط المحرقة في النكبة. فكما يبدو واضحًا، التذكّر في ياد فشيم لا يحتمل ذكر التاريخ المخروس للقرى المهجرة المحيطة، تلك القرى التي طرد أهلها ومحيت عن الوجود ليتسنى تشييد إسرائيل وليتسنى أيضاً إقامة مجمع "ياد فشيم" على أراضي "الغائب الحاضر". وبكلمات أخرى، كان يجب أن تُخرس النكبة كي تُحكى المحرقة في فلسطين المستعمرة، وهو ما أثار غضب الشاعر الكبير راشد حسين، الذي حاول في قصيدته "يافا مديني" أن يفكك هذا اللقاء الكارثي الزمكاني بين النكبة والمحرقة على أرض فلسطين الملتهبة غداة  1948، وتدمير الحواضر الفلسطينية ومحوها لإحلال الكينونة اليهودية الصهيونية مكانها، وما يستبطنه هذا اللقاء ذو البعد الثنائي لمحو الفلسطيني واستبداله بالاستعمار اليهودي-صهيوني من مأساوية مكثفة ومتعددة الطبقات تنتج علاقة متوترة ومتناقضة بين الفلسطيني المنكوب وبين ضحايا المحرقة الآتين من أوروبا للعيش مكانه وعلى خرائبه كما توضح قصيدة يافا مدينتي.


هوامش
(١) راشد حسين، من قصيدة الحب... والجيتو،1963. في الأعمال الكاملة، 1990، ص. 474
(٢) تم تحويل الرواية إلى فيلم أولا عام 1980-1981، 16 مم ملون 85 دقيقة، إنتاج: مؤسسة الأرض للإنتاج السينمائي (متوفر على الرابط التالي: https://www.youtube.com/watch?v=FVzP4gpLx40 )  . ويعد أول فيلم فلسطيني روائي طويل. بعد ذلك تم إنتاجه عبر فيلم "المتبقي" بإنتاج إيراني سوري مشترك عام 1995، 35 ملم ملون 147 دقيقة سيناريو وإخراج سيف الله داد. (http://www.imdb.com/title/tt2327589/ ) وأيضا
(٣) مسلسل عائد إلى حيفا من إخراج باسل الخطيب، 2004، للمزيد: http://www.elcinema.com/work/1011038/
(٤)   للمزيد عن "ياد فشيم" يمكن زيارة الموقع الإلكتروني للمجمع باللغة العربية:  https://www.yadvashem.org/ar.html
(٥)   (موقع ياد فشيم على الرابط التالي : https://www.yadvashem.org/ar/about.html (آخر دخول 2/4/2018)
(٦) http://main.knesset.gov.il/About/Occasion/Pages/ShoahIntro.aspx (موقع الكنيست العشرين آخر دخول 1/7/2017)
(٧) https://he.wikipedia.org/wiki/%D7%99%D7%93_%D7%95%D7%A9%D7%9D (last seen .2.2017)
(٨) نشر شنهابي فكرة إقامة المجمع التذكاري لأول مرة في ‏25 أيار ‏1945 في جريدة "دافار" تحت عنوان "نصب واسم (ياد فشيم) للمهجر المدمّر" الدمج " "نصبا واسما " من سفر اشعيا " وأعطيهم... نصبا (ياد) واسما (فاشيم).... لا ينقطع (إشعياء 56, ") مقتبس في  يزهار بن ناحوم، 2011، جزء عن حياة مردخاي شنهابي، الجزء الثاني (ص70)
(٩) حدث هذا في 14/7/2014 خلال قيام أحد المرشدين بعملية إرشاد عن المحرقة لطلاب مدرسة في زيارتهم للمجمع، عن الحادثة والنقاش حولها في راديو "جالي تساهل" على الرابط التالي https://soundcloud.com/glz-radio/qcrfvgmntf5r (اخر مشاهدة 12/7/2017)



إلى الجزء الثاني من الدراسة...