Terry Notary as Oleg in The Square
فبينما تتواصل احتفالية القهر في فلسطين منذ أكثر من 70 عاماً بكثير، جداً، نجد أن المشهد الفني التشكيلي والبصري الإسرائيلي وخاصة المستقل منه والذي لا يتبع بلدية كبرى أو جسم حكومي كبير، يتصرف وكأننا في السويد بطريقة يمكن تفسيرها بشكلين، فإما أن القائمين عليه ومتلقيه يعيشون حالة إنكار تام لمكانهم وواقعهم ولما يحيط بهم،
يصفعنا فيلم The square بحقيقة تطوّرت ضمن نظريات بيير بورديو ومن جاء بعده مفادها أن الذائقة الفنية، بالذات تلك التي تخص الفن التشكيلي وممارسة التردد على المتاحف والمعارض وصالات العرض (الجاليريز) والمحاضرات التي تجري على هامش المعروض الفني، هي ليست بالضرورة نتاج تفاعل فيسيولوجي نفسي طاهر مع فن أو عمل معين، وليست عشقاً غير مفهوم للفن التشكيلي الذي توسع في السنوات الأخيرة ليضم له أبعاداً صوتية/مرئية لم تكن تقرن فيه سابقاً، بل هي آلية للتمايز الاجتماعي لطبقات وفئات متوسطة/عليا قد تكون قريبة جداً من دوائر صنع القرار والمال في مجتمع ما ولكنها ليست بالضرورة فاعلة بهذا المجال أو ذاك مما يؤثر مباشرة وأحياناً دراماتيكياً على مصائر الأشخاص الأضعف، ولكنها فئات تبحث عن معنى ويقودها الوعي الكاذب الذي تغرق فيه إلى الاعتقاد بأن ترددها على معارض الفنون ونواديه -ولنقل معرضاً عن مجاعت في إفريقيا أو فظاعة من فظاعات الشرق الأوسط- ستساهم في حل تلك المشاكل وإنهاء المآسي التي تسيطر على العالم وعلى القسم الجنوبي منه خاصة.
تدور أحداث فيلم «المربع» السويدي الفائز بالسعفة الذهبية في مهرجان كان الأخير، في متحف للفن المعاصر في استوكهولم عبر الشخصيات التي تعمل في المتحف، وعلى رأسها شخصية كريستيان، قيّم المتحف ومديره والذي يمثل بشكل جلي جداً الرجل الأبيض الحضري من سكان العاصمة والذي هو خليط غير مفهوم ولكنه بات كاسحاً بين اليساري الحقوقي والليبرالي الرأسمالي الاستهلاكي البروتستناني حيث الغاية تبرر الوسيلة…
وكل وسيلة مهما كانت قذرة ممكن تجميلها طالما تم تحقيق الهدف، كما يمثّل هو وشخصيات أخرى في الفيلم من رواد المتحف وعامليه تلك الفئة التي تشكل جزءاً عضوياً من المنظومة الحاكمة/القامعة المستفيدة مباشرة من اقتصاد السوق والباحثة طوال الوقت أولاً عن التجديد وعن تمييز نفسها عن فئات أدنى عبر الثقافة، وخاصة في مجتمعات تتضخم فيها أحزمة اللجوء/البؤس بتسارع شديد، وثانياً هي تبحث دائماً وبشكل ملّح عن تبييض صورتها لشعور دفين غير مبرر (أو مبرر) بالذنب، عبر الانجذاب لكل ما هو ثقافي يحمل في جوهره خطاب حقوق إنسان واضح ومسطح مغلف بنصوص بلاغية عبثية لا صلة لها بالضرورة بشيء من موضوع المعرض.
ففي عالم غير أكيد وغير آمن تتصرف قطعان زوار المتحف كما يظهر في الفيلم كقطعان المشاة الذين يحتمون بالمكانة التي يمنحها الفن كفن والمتحف كنادٍ دون أن يوضّح معنى الفن الذي يقدمه المتحف ودون أن يعرف مديره حتى معنى ما يقدمه فيه أو يعرف كيف يفسر الهراء الذي يُكتب حوله كما يتضح من مشهد المقابلة الصحفية التي تستهل الفيلم، وكأن المدير يقول للصحفيّة بتهور غير المبالي: اشكروا ربكم أننا نقدم لكم كل هذه الإنسانيات… من يهمه المعنى… أي معنى؟!
يبقى المتحف في الفيلم مرتعاً لاستعراض الإنسانيات وتبادلها بين المحظيين بواسطة الفن، طالما لم تتعدَ رموز الإنسانيات هذه حدود المربع المرسوم لها، ذلك المربع الذي يبقيها في إطار المعروض ويحدّ من حركتها ويحدد لها هويتها كـ "شيء" يمنع من التوقف عن كونه كائناً معروضاً، كما يحدث مع المخلوق/الرجل البرّي المعروض في المتحف والذي يبدو أنه أُحضر لاستثارة مشاعر الروّاد الحقوقية حول الآخر والمحدود.
ولكن وفي المشهد المركزي في الفيلم يتعدى الرجل المتوحش حدودَ المربع ويبدأ بمضايقة الحضور ولمسهم، ما يجعل رجال المتحف الدمثين والأنيقين يتحولون إلى رجال أمن شرسين لينقضّوا عليه مثبتينه بالأرض بما يشبه القتل. في مشهد آخر نكتشف أن المتحف وإدارته يسعون كغاية مركزية لتجنيد التبرعات من رأسماليين كبار في المجتمع لتمويل نشاط المتحف، ما سيبقيه مستقلاً عن الوصاية من قبل الدولة التي كانت ستجبره بطبيعة الحال أن يكون أكثر شعبية ويحاكي كافة الطبقات، بينما تبقيه التبرعات الرأسمالية حكراً على طبقة معينة تبحث عن التمايز والندرة في الفن وبالتالي في ذائقته، ما يتيح له تدوير نفسه باستمرار وإعادة إنتاج طبقة رواده مع استخدام المضامين الإنسانية والحقوقية على الأقل كي يشعر الروّاد بالرضى عن أنفسهم دون أن يكون ذلك النادي المقفل على نفسه بحاجة ملحة لأن يؤثّر على الخارج أو يتأثر به، خارج نطاق ”المربع“... يأخذني طرح الفيلم هذا إلى إضاءة بودّي تناولها في النهاية حول مدى وكيفية انطباق ذلك على الحالة الإسرائيلية/الفلسطينية.
فبينما تتواصل احتفالية القهر في فلسطين منذ أكثر من 70 عاماً بكثير، جداً، نجد أن المشهد الفني التشكيلي والبصري الإسرائيلي وخاصة المستقل منه والذي لا يتبع بلدية كبرى أو جسم حكومي كبير، يتصرف وكأننا في السويد بطريقة يمكن تفسيرها بشكلين، فإما أن القائمين عليه ومتلقيه يعيشون حالة إنكار تام لمكانهم وواقعهم ولما يحيط بهم، وإما أنهم بالفعل يمارسون التمايز الاجتماعي الثقافي ويرغبون بحق في التنصل والهروب من الأجواء الفاشية التي تغرق فيها البلاد وربما وبوعي وهمي بالتصحيح الأخلاقي عبر الفن لما هو مشوه وظالم ومنهوب وغير عادل، مع إنّي أميل لتفضيل القراءة الثانية.
تنتشر صالات العرض شبه المستقلة في معاقل النخب الأشكنازية "اليسارية" في المدن الكبرى كتل أبيب والأحياء العلمانية في القدس الغربية على بعد خطوات من جدار الفصل العنصري والحواجز العسكرية الفضائحية الشهيرة كقلنديا وبيت لحم وبعض الكيبوتسات، وهي تقدم، إضافة لمعارض ذاتية لا تنتهي حول الوجود والهوية والمكان من حين لآخر، معارض تتناول الاحتلال وقمع الفلسطينيين والمهاجرين غير الشرعيين، كما تستضيف فنانين فلسطينيين (ممن يرضون بذلك) للاحتفاء بهم وبأعمالهم على شرط أن يلازموا المربع ولا يتحركوا خارجه ولا يفكروا حتى بتجاوز أحد حدود أضلاعه، وسط غياب تام لجمهور فلسطيني باستثناء عائلة الفنان وملازميه، لتنهال الثرثرة النصية والكلامية حول وجوب حل الصراع وكأنه صراع متوازٍ يتعلق بطرفين متساويين، كما يصر القيمون على المعرض ترجمة كل نشرات المعرض ونصوصه المعلقة والموزعة للعربية (حتى وإن كانت ركيكة) لتكون اللغة هي والفنان وثيمات المعرض وما إلى ذلك بمثابة زينة وزركشة تعددية لا لشيء سوى لإشعار رواد النادي التشكيلي براحة الضمير وبأن كل شيء على ما يرام وبأنهم قاموا حتى ولو رمزياً، بدورهم التاريخي في الدعوة للسلام والصلح التاريخي… ينتهي المعرض ويقفل أبوابه وسط رضى العائلات اليهودية الأمريكية الثرية الممولة من نتائجه، فيعود الرواد على بيوتهم التي تكون عادة في الأحياء التي فرّت منها البرجوازية الفلسطينية عام 1948، كالطلبية والقطمون والبقعة، كما تغلق الحواجز ويعاد فتحها لا احتراماً للمعرض بل كجزء من روتين يومي أكثر تأثيراً.
تدور أحداث فيلم «المربع» السويدي الفائز بالسعفة الذهبية في مهرجان كان الأخير، في متحف للفن المعاصر في استوكهولم عبر الشخصيات التي تعمل في المتحف، وعلى رأسها شخصية كريستيان، قيّم المتحف ومديره والذي يمثل بشكل جلي جداً الرجل الأبيض الحضري من سكان العاصمة والذي هو خليط غير مفهوم ولكنه بات كاسحاً بين اليساري الحقوقي والليبرالي الرأسمالي الاستهلاكي البروتستناني حيث الغاية تبرر الوسيلة…
وكل وسيلة مهما كانت قذرة ممكن تجميلها طالما تم تحقيق الهدف، كما يمثّل هو وشخصيات أخرى في الفيلم من رواد المتحف وعامليه تلك الفئة التي تشكل جزءاً عضوياً من المنظومة الحاكمة/القامعة المستفيدة مباشرة من اقتصاد السوق والباحثة طوال الوقت أولاً عن التجديد وعن تمييز نفسها عن فئات أدنى عبر الثقافة، وخاصة في مجتمعات تتضخم فيها أحزمة اللجوء/البؤس بتسارع شديد، وثانياً هي تبحث دائماً وبشكل ملّح عن تبييض صورتها لشعور دفين غير مبرر (أو مبرر) بالذنب، عبر الانجذاب لكل ما هو ثقافي يحمل في جوهره خطاب حقوق إنسان واضح ومسطح مغلف بنصوص بلاغية عبثية لا صلة لها بالضرورة بشيء من موضوع المعرض.
ففي عالم غير أكيد وغير آمن تتصرف قطعان زوار المتحف كما يظهر في الفيلم كقطعان المشاة الذين يحتمون بالمكانة التي يمنحها الفن كفن والمتحف كنادٍ دون أن يوضّح معنى الفن الذي يقدمه المتحف ودون أن يعرف مديره حتى معنى ما يقدمه فيه أو يعرف كيف يفسر الهراء الذي يُكتب حوله كما يتضح من مشهد المقابلة الصحفية التي تستهل الفيلم، وكأن المدير يقول للصحفيّة بتهور غير المبالي: اشكروا ربكم أننا نقدم لكم كل هذه الإنسانيات… من يهمه المعنى… أي معنى؟!
يبقى المتحف في الفيلم مرتعاً لاستعراض الإنسانيات وتبادلها بين المحظيين بواسطة الفن، طالما لم تتعدَ رموز الإنسانيات هذه حدود المربع المرسوم لها، ذلك المربع الذي يبقيها في إطار المعروض ويحدّ من حركتها ويحدد لها هويتها كـ "شيء" يمنع من التوقف عن كونه كائناً معروضاً، كما يحدث مع المخلوق/الرجل البرّي المعروض في المتحف والذي يبدو أنه أُحضر لاستثارة مشاعر الروّاد الحقوقية حول الآخر والمحدود.
ولكن وفي المشهد المركزي في الفيلم يتعدى الرجل المتوحش حدودَ المربع ويبدأ بمضايقة الحضور ولمسهم، ما يجعل رجال المتحف الدمثين والأنيقين يتحولون إلى رجال أمن شرسين لينقضّوا عليه مثبتينه بالأرض بما يشبه القتل. في مشهد آخر نكتشف أن المتحف وإدارته يسعون كغاية مركزية لتجنيد التبرعات من رأسماليين كبار في المجتمع لتمويل نشاط المتحف، ما سيبقيه مستقلاً عن الوصاية من قبل الدولة التي كانت ستجبره بطبيعة الحال أن يكون أكثر شعبية ويحاكي كافة الطبقات، بينما تبقيه التبرعات الرأسمالية حكراً على طبقة معينة تبحث عن التمايز والندرة في الفن وبالتالي في ذائقته، ما يتيح له تدوير نفسه باستمرار وإعادة إنتاج طبقة رواده مع استخدام المضامين الإنسانية والحقوقية على الأقل كي يشعر الروّاد بالرضى عن أنفسهم دون أن يكون ذلك النادي المقفل على نفسه بحاجة ملحة لأن يؤثّر على الخارج أو يتأثر به، خارج نطاق ”المربع“... يأخذني طرح الفيلم هذا إلى إضاءة بودّي تناولها في النهاية حول مدى وكيفية انطباق ذلك على الحالة الإسرائيلية/الفلسطينية.
فبينما تتواصل احتفالية القهر في فلسطين منذ أكثر من 70 عاماً بكثير، جداً، نجد أن المشهد الفني التشكيلي والبصري الإسرائيلي وخاصة المستقل منه والذي لا يتبع بلدية كبرى أو جسم حكومي كبير، يتصرف وكأننا في السويد بطريقة يمكن تفسيرها بشكلين، فإما أن القائمين عليه ومتلقيه يعيشون حالة إنكار تام لمكانهم وواقعهم ولما يحيط بهم، وإما أنهم بالفعل يمارسون التمايز الاجتماعي الثقافي ويرغبون بحق في التنصل والهروب من الأجواء الفاشية التي تغرق فيها البلاد وربما وبوعي وهمي بالتصحيح الأخلاقي عبر الفن لما هو مشوه وظالم ومنهوب وغير عادل، مع إنّي أميل لتفضيل القراءة الثانية.
تنتشر صالات العرض شبه المستقلة في معاقل النخب الأشكنازية "اليسارية" في المدن الكبرى كتل أبيب والأحياء العلمانية في القدس الغربية على بعد خطوات من جدار الفصل العنصري والحواجز العسكرية الفضائحية الشهيرة كقلنديا وبيت لحم وبعض الكيبوتسات، وهي تقدم، إضافة لمعارض ذاتية لا تنتهي حول الوجود والهوية والمكان من حين لآخر، معارض تتناول الاحتلال وقمع الفلسطينيين والمهاجرين غير الشرعيين، كما تستضيف فنانين فلسطينيين (ممن يرضون بذلك) للاحتفاء بهم وبأعمالهم على شرط أن يلازموا المربع ولا يتحركوا خارجه ولا يفكروا حتى بتجاوز أحد حدود أضلاعه، وسط غياب تام لجمهور فلسطيني باستثناء عائلة الفنان وملازميه، لتنهال الثرثرة النصية والكلامية حول وجوب حل الصراع وكأنه صراع متوازٍ يتعلق بطرفين متساويين، كما يصر القيمون على المعرض ترجمة كل نشرات المعرض ونصوصه المعلقة والموزعة للعربية (حتى وإن كانت ركيكة) لتكون اللغة هي والفنان وثيمات المعرض وما إلى ذلك بمثابة زينة وزركشة تعددية لا لشيء سوى لإشعار رواد النادي التشكيلي براحة الضمير وبأن كل شيء على ما يرام وبأنهم قاموا حتى ولو رمزياً، بدورهم التاريخي في الدعوة للسلام والصلح التاريخي… ينتهي المعرض ويقفل أبوابه وسط رضى العائلات اليهودية الأمريكية الثرية الممولة من نتائجه، فيعود الرواد على بيوتهم التي تكون عادة في الأحياء التي فرّت منها البرجوازية الفلسطينية عام 1948، كالطلبية والقطمون والبقعة، كما تغلق الحواجز ويعاد فتحها لا احتراماً للمعرض بل كجزء من روتين يومي أكثر تأثيراً.