السجن في رواية عبد الرحمن منيف «شرق المتوسط»

2017-04-21 04:00:00

السجن في رواية عبد الرحمن منيف «شرق المتوسط»
من مجموعة "وجوه" لمروان قصاب باشي

صلتي بالرواية:

تعود صلتي برواية «شرق المتوسط» التي كتبت في 1972 ونشرت في 1975 إلى العام 1980/1981، حيث حصلت، وأنا في عمان، على نسخة من مكتبة دار الشروق، وأظن أنها كانت صادرة في العراق. قرأت الرواية وأعجبت بها، ولم أحضرها إلى نابلس خوفاً من أن يصادرها الرقيب الإسرائيلي على الجسر، فأهديتها إلى طالبة أردنية من الجنوب تعرفت إليها من خلال طالبة فلسطينية كانت تدرس في قسم اللغة العربية. 

في فلسطين، في تلك الأيام، بدأ الالتفات إلى ما يكتبه السجناء الفلسطينيون، فصدرت مجموعة شعرية لعدد من السجناء، ولا أدري لماذا لم ينظر يومها إلى قصائد محمود درويش وتوفيق زياد وسميح القاسم التي كتبت عن السجن وفيه. ربما لأنها كانت قليلة قياساً إلى قصائد المقاومة والدفاع عن الأرض والحث على الصمود، وربما لأن تجاربهم في السجون كانت عابرة. 

بعد عودتي من ألمانيا في 1991 أخذت أقرر الرواية وأدرسها في الجامعة، فقد أعدت قراءتها وأنا في ألمانيا لأقدم فيها وفي أدب السجن بعامة امتحان الدكتوراه في تخصصي الرئيس: الأدب العربي. في العام 1992 اشتريت نسخة من الرواية وأنجزت عنها دراسة تحت عنوان "قراءة نقدية في رواية شرق المتوسط"، ثم أتبعتها بمقالين حول النص الموازي وصورة الغرب، وقرأت الجزء المتمم لها "الآن هنا… أو شرق المتوسط مرة أخرى"، 1990.  وأنا أقرأ الرواية وأقررها تساءلت: هل هناك في الأدب الفلسطيني نص أدبي يرقى فنيا إلى رواية "شرق المتوسط"؟

العودة إلى الرواية الآن: 

ربما يتساءل قسم من القراء: ولماذا العودة إلى الرواية الآن؟ ألا توجد أعمال أدبية لاحقة عالجت موضوع السجن؟  

والحقيقة أن هناك دراسات كثيرة أنجزت عن "شرق المتوسط" تناولت عالم السجن فيها منها ما كتبه د.سمر روحي الفيصل "السجن السياسي في الرواية العربية " وما كتبه الناقد جورج طرابيشي في كتابه "الأدب من الداخل".

ما أرانا نقول إلا معاداً مكروراً:

هل ما أكتبه هو ضرب من التكرار؟ وهل صدق من قال العبارة: "ما أرا نا نقول إلا معاداً مكروراً"؟!

صورة السجان والسجين والعالم الخارجي :

تبرز رواية «شرق المتوسط» صورة للسجان العربي تتمثل في التالي: إنه شخص سادي معطوب، وهي صورة تتشابه في الرواية العربية، فلا رحمة ولا شفقة في قلبه، وهو يتلذذ بتعذيب السجناء وشتمهم وتحقيرهم وإذلالهم. وأما السجين فتتعدد صورته وتتنوع وتختلف. هناك سجين ينهار منذ البداية وثان يصمد إلى حين وثالث يموت تحت التعذيب. ويبدو السجن كمكان مثل فندق بخمس نجوم، فيه وسائل الراحة والترفيه ما يدفع المرء إلى ارتكاب جريمة من أجل ارتياد عالمه: الأقبية والحشرات والقطط في شوالات فارغة والرطوبة… ولا تأتي الرواية على عالم السجن الداخلي وحسب، فهي تصور انعكاسه على العالم الخارجي حيث رأفة السجان وزبانيته بالأمهات والأخوات واحترامهن وتقديرهن وتمكينهن من زيارة أبنائهن… و… ولذلك غالباً ما يُشتمن ويُساء إليهن ويحال بينهن وبين الزيارة، إمعاناً في إذلالهن حتى يضعفن ويُضعفن أبناءهن. بل ويصل الأمر إلى اعتقال أقارب السجين إن خالف الاتفاق الذي عقده السجان معه. ففي الوقت الذي أفرج فيه السجان عن رجب الشخصية الأساسية في رواية منيف، يعتقل حامد زوج أنيسة أخت رجب، من أجل أن يعود رجب الذي تأخر في العلاج ولجأ إلى فضح السجن والسجان.

أعمال أدبية لاحقة:  

وعودة إلى السؤال الأول: لماذا أتحدث الآن بعد 42 عاماً من صدور «شرق المتوسط»، عنها؟  

الحقيقة أن هناك أعمالاً عديدة صدرت بعدها منها سير ذاتية ومنها نصوص روائية. لقد قرأنا في فن السيرة الذاتية لمعين بسيسو وليعقوب زيادين ولطاهر عبد الحكيم ولعبد اللطيف اللعبي وعائشة عودة - للأسف لم أطلع على سيرة المغربي أحمد المرزوقي «تازمامارت: الزنزانة رقم 10» على الرغم من أنني أصغيت إليه يتحدث في برنامج شاهد على العصر الذي تبثه فضائية "الجزيرة". وفي جنس الرواية صدرت روايات للفلسطيني وليد الهودلي، وفي العالم العربي صدرت الكثير من الروايات ومنها رواية السوري مصطفى خليفة «القوقعة»، كما بثت فضائيات عديدة منها "الجزيرة" برامج عن عالم السجن في بلدان عربية مثل المغرب وسورية. 

هل تجاوزت بعض هذه الأعمال رواية منيف؟ 

تحتاج الإجابة عن هذا السؤال إلى قراءة الأعمال معاً وإمعان النظر فيها، وبعض ما صدر يمتاز بجمالبات لا بأس بها حقاً. 

العودة إلى «شرق المتوسط» ثانية: 

إذن لماذا العودة إلى الرواية ثانية؟ في العام 1998 صدرت الطبعة 12 من الرواية. هذا يعني إن الرواية ما زالت تقرأ وما زال القراء في العالم العربي يرون فيها رواية معبرة عن عالم السجن القاسي. 

بالإضافة إلى ما سبق فقد كتب عبد الرحمن منيف لهذه الطبعة مقدمة تحت عنوان "تقديم متأخر لكنه ضروري" وهذا التقديم هو ما يهمني تحديداً. في تقديمه يكتب منيف إنه لم يقل "كل ما يجب أن يقال حول عالم السجن السياسي وما يتعرض له السجين من قسوة ومهانة في الزنازين الممتدة على كامل حوض المتوسط الجنوبي والشرقي، والتي تتزايد وتتسع سنة بعد أخرى، مما جعل الرواية توحي ولا تحكي، تشير ولا تتكلم".

ويرى منيف إنه كان لروايته "مع روايات أخرى، شرف التأسيس لما سمي فيما بعد بأدب السجون، وأصبح هذا الميدان واحداً من الميادين الأساسية للرواية العربية؛ كتابةً وموضوع إقبالٍ واهتمام قراء.

ومع أن الكاتب كتب رواية ثانية عن عالم السجن في 1990 إلا أنه ما زال يرى أن الموضوع "لا يزال بحاحة إلى مساهمات الكثيرين، لأن عار السجن السياسي أكبر عار عربي معاصر، وقد يفوق الهزائم العسكرية من بعض الجوانب، لأنه لا يمكن أن يواجه الهزيمة العسكرية، وحتى الهزيمة السياسية، إلا مواطن حر يعرف معنى الوطن، ويعرف كيف يدافع عنه. وما دام هناك سجين سياسي فسيبقى المواطن بعيداً، وبعض الأحيان غير معني، لأن الحرية والوطن شيء واحد." 

ويشدد الروائي على سيادة الديموقراطية، ومن ثم تبادل السلطة وإلا فإن العالم العربي سيكون مستقبله حتماً أسود قاتماً، فالقمع يقود إلى العنف، والعنف يؤدي إلى الخراب.

كاتب صاحب رؤية ونبوءة:  

توفي منيف في كانون الثاني من 2004، أي بعد سقوط بغداد بأشهر. ولم ير ما آلت إليه الأوضاع في العالم العربي، وإن أبصرها بقلبه. في رواية «شرق المتوسط» يقول رجب: "ها أنذا أعود وقد تعلمت شيئاً واحداً، وأتعلمه بالصدفة. أتعرفون هذا الشيء أيها الجلادون؟ إنه الحقد، ومن حقدي وحقد الملايين سوف نهدم سجونكم، سنهدم سراديبكم، لن نبقي سجناً واحداً يقف على تلك الأرض الممتدة من الشاطيء الشرقي للمتوسط، حتى أعماق الصحراء…". ما هي إلا أعوام حتى انقلبت أحوال العالم العربي رأساً على قدم. لم تهدم السجون التي ازدادت، بل هدمت دول عربية وخربت، وهجرت الملايين أو هاجرت من الرعب والموت والخراب، وغدت هذه الملايين - إن نجت من الموت في بلادها أو من الموت غرقاً في البحار - غدت تقيم في مخيمات اللاجئين أو في المنافي في أوروبا.

في تقديمه المتأخر ولكن الضروري يكتب منيف: "إن فضح إحدى الظواهر السلبية يشكل البداية لمواجهتها، تمهيداً للتخلص منها، ويأخذ الأمر شكل صراع، وهذا الصراع ربما يطول، وقد يتعرج ويبدو أننا اليوم في إحدى مراحل الصراع الأكثر قسوة، وفي أحد المنعرجات الأشد خطورة".

لكانه كان يقرأ ما يجري الآن وهو الذي قال أنه ما لم تسد الديموقراطية وتعني "حرية التعبير والتمثيل والمشاركة في اتخاذ القرار، أي تعترف بالتعددية وإمكانية الاختلاف وتبادل السلطة…" فسيحدث ما يحدث الآن.

الورقة التي ألقاها الكاتب في جامعة النجاح الوطنية في نابلس في 13/ 4/2017