يشير أرسطو إلى الهابيتوس باعتباره "استعدادت الروح والجسم المكتسبة"، أما دوركهايم فكان يعتبره القهر الاجتماعي الممارس عبر التربية. تكتب الباحثة راما نجمة: "مفهوم الهابيتوس هو نسق الاستعدادت المستمرة والقابلة للتحويل والنقل التي يكتسبها الفاعل الاجتماعي من خلال وجوده في حقل اجتماعي.
الهابيتوس، السجية في المسرح الحركي المعاصر
بينما كان بيير بورديو يكشف عن مفهوم "الهابيتوس، السمت، السجية" في مجال الدراسات الاجتماعية في كتابه Le sens pratique،1980، قدمت بينا باوش في عرضها Kontakthof "الاتصال السريع"، 1979، مشهداً يطلق عليه الآن "مسيرة الفصول" يجسد الفكرة ذاتها على مستوى التعبير المسرحي. في المشهد مجموعة من المؤدين/ات يكررون أسماء الفصول ويؤدون معها الحركات الإنسانية في التعبير عن "الشتاء، الربيع، الصيف، الخريف" التي نعبر عن كل منها بحركة جسدية ترافق الكلمة، كما تلك التي نعبر فيها عن "السخونة/البرودة"، كلها أداءات مكتسبة يدفعنا المشهد المسرحي إلى إعادة التفكير فيها. أما اليوم، يدفع المصممون الكريوغرافيون والمخرجون المسرحيون معالجة موضوعة الهابيتوس في العروض المسرحية إلى حدود بعيدة، ليصبح عنواناً لعرض مسرحي "الهابيتوس، فرقة نفس" حيث يعالج "الهابيتوس، السمت" كعائق في التواصل الإنساني، ويصبح "الهابيتوس، الطبع" مولداً للحكايات والصراعات الإنسانية في عرض "حين يتذكر الجسد، فرقة شادن للرقص"، أما عرض "تشي، نور غرابلة" فإنه يكشف أن الرقص نفسه واحداً من كليشيهات "الهابيتوس، السجية".
يشير أرسطو إلى الهابيتوس باعتباره "استعدادت الروح والجسم المكتسبة"، أما دوركهايم فكان يعتبره القهر الاجتماعي الممارس عبر التربية. تكتب الباحثة راما نجمة: "مفهوم الهابيتوس هو نسق الاستعدادت المستمرة والقابلة للتحويل والنقل التي يكتسبها الفاعل الاجتماعي من خلال وجوده في حقل اجتماعي. ويترجم هذا المصطلح في العربية بلفظ التطيع أو السجية أو السمت. فالفاعل الاجتماعي يكتسب، بشكل غير واع، مجموعة من الاستعدادات من خلال انغماسه في حقله الاجتماعي تمكنه من أن يكيف عمله مع ضرورات المعيش اليومي (مثلاً، يطور الفلاح عادات ذهنية وسلوكية معينة يطبقها على المشكلات كلها التي يواجهها في وسطه)، وأهمية المفهوم تأتي من سدة الثغرة بين الحتمية الاجتماعية من جهة والفردانية من جهة أخرى، وكشف ما هو خارجي – داخلي. فالبنيتان الداخلية والخارجية هما صورتان لحقيقة واحدة، للتاريخ المشترك، ذلك التاريخ المنقوش في الذات وفي الأشياء". هذه التنويعات في المفهوم نقرأها في عروض ثلاثة:
الرغبة الإنسانية في التواصل
يكتب المخرج نضال عبده في تقديم عرض "هابيتوس، فرقة نفس": "يعكس عملي العلاقة بين أجسادنا والمناطق التي تتطور فيها. أنا مهتم بالأجساد المنفية والعابرة للحدود الإقليمية والنازحة. تتشكل أجسادنا من الهابيتوس لدينا. نادرا ما ندرك ما يدفعها إلى التصرف بطريقة معينة، عن غير قصد، نحن نستجيب للتوقعات الاجتماعية التي تملي علينا سلوكياتنا. كأطفال ومراهقين وبالغين، نقوم بتكرار حركات محددة دون معرفة ما الذي يدفعنا إلى أدائها، أحيانا مع عدم الراحة أو الانفصال أو الاختلاف. ومع ذلك، نحن بحاجة إلى روتين لنتواصل في وحدة مع المجتمع والآخرين".
في العرض يظهر على المسرح المؤدون الثلاثة في جزر منعزلة، كل منهم يقف في دائرة من الرمل تحدد المساحة تحت قدميه، وعلى إيقاع موسيقى تدمج الأنواع الصوتية الصلدة مع غناء الموال الإنساني، يبدأ المؤدون الثلاثة بإيقاع حركي مشترك يوحي بالأداءات الطقسية أحياناً، وبالعزلة النفسية أحياناً أخرى، وحين يتفرد أحدها فإنه يسعى إلى بناء قناة تواصل مع الجسدين الآخرين الذين يتابعان أداءهما الطقسي-النفسي، يمدد المؤدون كل منهم في لحظة تفرده كتلة الرمال الموجودة تحت أقدام كل منهم، ليصلها بكتلة الرمال الخاصة به، إنه عرض عن العزلة المفروضة من المكان الجغرافي، العزلة الاجتماعية، والعزلة في المشاعر الجوانية. لكن بالوقت عينه، عرض عن رغبة الإنسان بالتواصل، وربما انتصار الإرادة، فالجزر الرملية الصغيرة المنعزلة تتمدد على كامل مساحة المسرح، ويتحول الفضاء المسرحي من جزر العزلة إلى الإمتداد الكوني.
الذاكرة والأجساد المنفية والنازحة
هذه النهاية المنتصرة لإرادة الإنسان، ليست غريبة عن مضامين عروض فرقة نفس، في في عرضها السابق بعنوان "ماذا لو غداً"، 2019، تناولت الفرقة نأثير الحرب العميق على أجساد الأفراد وصولاً إلى الجسد الجمعي، مما يودي إلى مسارات تتشوه فيها الهويات وتفتقد إمكانيات الإندماج وصولاً إلى فقدان الانتماء. فالفرد المنتمي إلى مجتمع في حالة حرب يتساءل عن الأٍسباب التي تجعله جزءاً من ثقافة تتعرض إلى هذا الكم من المأساة. يعبر عرض "ماذا لو غدا" عن العلاقة مع ذكريات الماضي، محاولات الإنكار، الألم، الحزن، وذلك في رؤية إخراجية تجعل من الجسد الأداة الصادقة في التعبير عن النفسية والذهنية، وصولاً إلى قدرة الجسد على رواية الحكايات الشخصية لأًصحابها، المؤدون والمؤديات الذين يظهرون في العرض في حالة من البحث المستمر ومحاولة إنقاذ ماض لم يعد موجوداً، إنه الفراغ المسرحي من حولهم، وتبين الأداءات الحركية أن الماضي الحميم أصبح مخيفاً ومرعباً، تكتب الفرقة في تقديم العرض: "ماض محبوب ولكنه مدان ، يصوره هؤلاء الراقصون السوريون الفلسطينيون الأربعة. فجأة ، الصمت ... كما لو كان ينقل الحاجة إلى العلاقة الحميمة. لاكتشاف الذات وحدها، هشة، مستنزفة... تشهد الالتواءات والتشويق والهروب على العملية الطويلة والوحشية للتخلي والقبول التي يواجهها هؤلاء الفنانون. وماذا لو بزغ فجر إحياء في الأفق؟ ماذا لو غدا".
الفرد والجماعة وسلوكيات العالم النسوي
تقدم فرقة شادن للرقص المعاصر في هذه الدورة عرضاً بعنوان "حين يتذكر الجسد"، الفرقة التي برزت في عروضها السابقة في التحاور مع الأمكنة العامة، أمكنة المدينة، وأمكنة الذاكرة، كما في العام 2018 بعرضها "على الطريق" على أدراج البلدة القديمة في الناصرة، وتالياً في "الثلاثية"، 2021، في حي المنشية، تدخل في عرضها العام الحالي إلى خشبة المسرح، في تصميم سينوغرافي يشحذ الفضاء المسرحي بالشاعرية، ولكن أيضاً احتمالات التأويل التي يمكن أن تفتحها لعبة الكريات الحسابية المنصوبة في عمق المسرح، الغرض المسرحي الوحيد بين سبع مؤديات، تحت إضاءة خافتة حميمة وسيكولوجية.
في العرض العالم النسوي الذي تدور علاقاته في مكان ثابت، تصميم أداء حركي غاية الدقة والتوازن بين العالم الحسي والسرد الحكائي، حيث يقترب أداء الراقصات إلى الأداء التمثيلي، ما يخلق احتمالات الحكاية. إن الإحساس-الشخصيات تروي انفعالاتها إما كرد فعل على حركة الآخرين، أو يأتي تأثير الحركة من منبع داخلي "حين يتذكر الفرد، أو تتذكر الشخصية". يجري التسليم بين الشخصية والأخرى بناءً على عناصر من الانفعالات السيكولوجية في الحركة، هي ليست شخصيات أو مؤديات في حالة حسية وحسب، بل أيضاً في حالات عصابية. إن الهابيتوس هنا يعالج العلاقة في العالم النسوي بين الفرد والجماعة، بين ما يدور في الخفاء والهمس وبين ما يؤثر على حياة الأفراد وسلوكياتهم.
أما على مستوى التصميم الحركي، فتتحرك الأجساد جماعةً ليصاب أحدها بذاكرة أو إحساس أو شعور مغاير عن البقية، لتنتقل الحركية-السردية إلى الشخصية الوحيدة، رويداً رويداً يهتم بالوحيدة واحدةٌ من الجماعة، لتحاول تخليصها، فتدخل العلاقات في لعبة الأفعال والرد. وتنتقل أحياناً الحركية بناءاً على الإيقاع الموسيقي، الذي يبدو وكأنه صمم بالتزامن مع تصميم الحركة المسرحية، فيمكن أن تؤثر الموسيقى في المؤديات حين تكون بأعلى مستوياتها الصوتية|، ويمكن أيضاً أن يتم ذلك بنقرة أو نقرتين على آلية البيانو.
نحن نرقص عبر الهابيتوس
يبدأ عرض "تشي، نور غرابلة" بسينوغرافيا متقشفة، خشبة مسرح فارغة إلا من لمبات صفراءة معدودة في خلفية المسرح، تظهر المؤديتان في المقدمة من العتم، تتماثلان في الهيئة والملابس، وتتزامنان في أداء الحركات وإيقاعها، لا يتضح للمتلقي بدايةً إن كانت المؤديتان تعي أياً منهما بوجود الأخرى؟ هل تعي إحداهما وجود الأخرى؟ هل يؤديان للمتلقي فقط؟ فلحظات اللقاء القصيرة بين الجسدين تحدث بلمسة يد أو تقابل كفين. ندرة الصوت وغياب كامل للموسيقى تكملان التقشف السينوغرافي، فلا أصوات بتاتاً إلا صفقة يد أو خبطة قدم على الخشبة. وفي أحد أهم أجزاء العرض تنحو الرقصة الثنائية إلى شكل الرقصات التراثية الشعبية، ومنها الدبكة، رقصة الفرس، ولكن من بعدها تالياً الفلامنكو، والفالس. ليتضح مضمون العرض الذي يعالج علاقات الأجساد الثنائية في الرقص، إن لقاء جسدين راقصين هو جزء من الهابيتوس، فالجسدان يعرفان مجموعة من الحركات المحددة عبر التعليم والثقافة لإقامة تواصل فيما بينهما، لكن المؤديتان في عرض "تشي" تبينان خلو هذه الحركات من المعنى، وأداءها كأنها حركات عسكرية أو ميكانيكية، بالآن عينه الذي يعجزه فيه الجسدين عن ابتكار حركات أخرى للتواصل فيما بينهما.
إن عرض "تشي" يبحث في الرقصات الثنائية عبر عدة حضارات، دبكة، فلامنكو، فالس، وكلها رقصات ثنائية أو جماعية، تنظم لقاء الأجساد في تعبيرها عن أحاسيسها، حيث الأداء يخضع لقواعد الرقص، أي قواعد لقاء الأجساد إيقاعياً. وفي الرسالة الصوتية الوحيدة التي تنطقها المؤديتان على المسرح، تكرران بصوت واحد مشترك عبارة: "صرخة نفس، هجرة وموت، دموع وأمل، تحدي الصوت، روح جسد، حرية ومقاومة". تمنح العبارة العرض الكريوغرافي المضامين التي يعبر عنها مسرح المخرجة نور غرابلة.