عبد الرزاق المصباحي: النقد الثقافي في عالمنا العربي لم ينل بعد مكانته

2022-10-16 03:00:00

عبد الرزاق المصباحي: النقد الثقافي في عالمنا العربي لم ينل بعد مكانته

إنّ جوهر هذا الكتاب هو التنبيه إلى حاجتنا لتفكيك خطاب ثقافة الوسائط، التي اهتم بها واسعاً الناقد الثقافي الأمريكي دوغلاس كلنر، والذي أعتبر جهوده مدخلاً لبناء التصوّر المختلف للنقد الثقافي، فمفهوم "ثقافة الوسائط"،

كتاب «النقد الثقافي: قراءة في المرجعيات النظرية المؤسّسة»، للباحث والناقد الأكاديمي الدكتور عبد الرزاق المصباحي، من أحدث إصدارات المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، وفيه يقدم ضيفنا قراءة موسعة وناقدة للمرجعيات النظرية المؤسّسة للنقد الثقافي، ممثلةً في أطروحات مدرسة فرانكفورت، ومثقفي نيويورك، والدراسات الثقافية البريطانية، ومن ثم في التوجهات التي تُحسَب على النقد الثقافي ما بعد الحداثي: المادية الثقافية، والتاريخانية الجديدة، وما بعد الكولونيالية، ودراسات التابع. مع التركيز على الأثر البالغ لكل من دوغلاس كلينر، وميشيل فوكو، وإدوارد سعيد، في التحوّلات التي شهدها النقد الثقافي منذ سبعينيات القرن العشرين. 

في هذا الحوار المزيد من التعريف بجهود المصباحي في هذا الحقل المعرفي الهام، ورؤيته حول مساهمات إدوارد سعيد في هذا الحقل، وأثرها في حقل النقد الثقافي والسرديات عربياً..  

بداية؛ كيف تقرّبون قرّاء المجلة من انشغالاتك كباحث وكاتب متخصّص في النقد الثقافي والسرديات، ومهتم بقضايا البيداغوجيا والديدكتيك؟ 

في البداية أشكر مجلة "رمان الثقافية" على اهتمامها بمشروعي العلمي، الذي أشتغل عليه عبر مدخلين: الأول، هو النقد الثقافي الذي لا أعتبره، فقط، مشروعا أكاديمياً، بل مشروعا حياتياًـ ففضلاً عن كون جميع البحوث الأكاديمية المؤطرة التي أنجزتها منذ الإجازة، مروراً بالماستر (الماجستير)، انتهاء بالدكتوراه، هي جميعها حول النقد الثقافي، فإني أراه مدخلاً لفهم الحياة والسلوك البشري، ويمكّن عبر منظوراته المتنوعة التي يستخدمها باتساق بالغ، من تفكيك الخطابات التي تروم تنميط فكرنا وتصوّراتنا، سواء أنتجتها مؤسّسات أم أفراد. إني أراه ضرورة حياتية، وليس مجرد إستراتيجية نقدية مغرقة في الأكاديمية.

وهذا لا ينفي أن أشتغل على معطيين في النقد الثقافي: الأول نظري، أحاول من خلال تتبع حضوره في المدونة النقدية العربية، ولذلك خصصت كتابي الأول «النقد الثقافي: من النسق الثقافي إلى الرؤيا الثقافية» (2014) لقراءة مشروع عبدالله الغذامي في النقد الثقافي، تبسيطاً وتفكيكاً ونقداً، وهي الغاية نفسه التي تحكم كتابي الجديد «النقد الثقافي: قراءة في المرجعيات النظرية المؤسّسة» (2022)، الذي خصصته لقراءة ناقدة في مرجعياته النظرية المؤسّسة من وجهة نظري، والثاني إجرائي، وهو ما يعنيني بدرجة أولى، فقراءة المرجعيات النظرية أو تطبيقاتها في المدونة النقدية العربية، يمكّن من رصد حدود المفاهيم النقدية الإجرائية؛ ولذلك اقترحت مفاهيم إجرائية جديدة، كـ"البليغ الثقافي"، الذي هو مفهوم إجرائي يسعف في رصد التعددية التي يمثلها التشبيه، لا الواحدية أو التماثل كما يظهره الفهم الراسخ للبلاغة التقليدية، ومفهوم "الرؤيا الثقافية"، الذي أتخذه بديلاً لمفهوم "النسق الثقافي" وموسعاً لأبعاده، أما كتابي «الأنساق السردية المخاتلة» (2017) فيجسد تمرينا إجرائياً خالصاً للنقد الثقافي المتحرر من الإطار النظري، ولكن يستغور تجاور الأنساق الفنية (السردية والشعرية) في بنيات خطاب الرواية والقصة ومحكي السفر، أو تحوّلات الذات والفضاءات من الهامش إلى سلطة المركز عبر المخاتلة. 

والنقد الثقافي موجه لاشتغالي في قضايا البيداغوجيا والديدكتيك، فهو عندي منظور مفيد في تطوير القراءة المنهجية للنصوص الموجهة إلى طلبتنا وتلامذتنا، تمكًنهم من بناء كفايات منهجية ناقدة للخطابات التي يستهلكونها، وخاصة منها المقترنة بوسائط الثقافة الجديدة.  

كيف حضرت فكرة كتابكم «النقد الثقافي: قراءة في المرجعيات النظرية المؤسّسة»، وماذا يتضمن تحديداً؟ 

كما سبق الذكر، فمشروع النقد الثقافي يطبع حياتي الأكاديمية، وكتاب «النقد الثقافي: قراءة في المرجعيات النظرية المؤسّسة»، دافعه الرغبة في بناء جهاز مصطلحي إجرائي جديد في النقد الثقافي، ومؤسّس على قراءة المرجعيات المؤسّسة، فمن جهة، تمكّن هذه القراءة من الإحاطة بمختلف مدارسه، ورصد مرجعياته وغاياته ومفاهيمه، ومن جهة ثانية تسمح باقتراح مداخل مناسبة. وهذا الكتاب يُقرأ باتصال مع مجمل مشروعي، فإني كنت قد اقترحت مفهوم "الرؤيا الثقافية" بديلاً عن مفهوم "النسق الثقافي" في الكتاب الأول «النقد الثقافي: من النسق الثقافي إلى الرؤيا الثقافية»، وهو مفهوم بثلاثة أبعاد: بعد لاوعي النسق (النسق الثقافي المضمر كما عند الغذامي) الذي يتخفى في بنيات النصوص. البعد الواعي القصدي حيث تكون فيه النصوص الثقافية آلية في يد مؤسّسات أو أفراد لتكريس نوع من السلطة على فئات بعينها. وبعد المقاومة والتسامي: حيث تكون النصوص الثقافية/ التخييلية طريقة للمقاومة والدفاع عن الهويات الذاتية والفكر الاختلافي، وتؤسّس لفضاءات الهجنة. 

وإذا لم أؤسّس، في الكتاب الأول، لهذا المفهوم الإجرائي بمداخل نظرية، فإني في كتابي الجديد «النقد الثقافي: قراءة في المرجعيات النظرية المؤسّسة»، أنطلق من مفهوم "الرؤيا المعززة" عند إدوارد سعيد، الذي يقوم على كون بعض الروائيين ينخرطون عبر نصوصهم الروائية طواعية وبوعي في خدمة الخطاب الإمبريالي. فضلاً عن مفهوم "الروايا ما بعد الكولونيالية" التي يمكن تسميتها بـ"الرواية المقاومة"، لكونها تقاوم تخييلياً تجبر الخطاب الكولونيالي ومحاولته طمس الهوية الأصلانية. هذا نموذج لأهمية هذا الكتاب في بناء تصوّر نظري وآليات إجرائية متماسكة، فضلاً عن كون العودة إلى هذه المرجعيات قد مكّننتي، كما أتمنى أن تمكّن القارئ، من التعرف على السعة المنهجية في النقد الثقافي، وارتباطه العضوي بالحياة العامة.

في كتابك هذا، عملتم على تقديم قراءة موسّعة وناقدة للمرجعيات النظرية المؤسّسة للنقد الثقافي؛ مركزين على الأثر البالغ لكل من دوغلاس كلينر، وميشيل فوكو، وإدوارد سعيد، في التحوّلات التي شهدها النقد الثقافي منذ سبعينيات القرن العشرين. سؤالي هو: عن نظرتكم لمساهمات إدوارد سعيد في هذا الحقل وأثرها في حقل النقد الثقافي والسرديات عربياً؟ 

كما قلت لكم، فإدوارد سعيد، عبر مفهومه "الرؤيا المعززة" قد دعم طرحي حول مفهوم "الرؤيا الثقافية"، فإذا كان "النسق الثقافي" الذي اقترحه الغذامي، يستدعي أن تكون الأنساق المعيبة في الثقافة العربية، تتم بطريقة لا واعية، فأعمال إدوارد سعيد مرجعية أفدت منها شخصياً، للتأكيد على مسألة الوعي الفردي والمؤسّسي، في بناء الأنساق التحكمية أو التي تصنع التمثيلات الانتقاصية لثقافة الآخر، أو لأي ثقافة هامشية. وبخصوص حضوره في تطوير النقد الثقافي، فأنا أعتبر جهوده تمثل تحوّلاً عميقاً في مساره، غير تلك التي أسّستها مدرسة فرانكفورت ومثقفي نيويورك، وحتى الدراسات الثقافية البريطانية، فهو وإن كان يحسب على ما بعد الكولونيالية، فإنه أصّلَ المفهوم الدنيوي للأدب والنقد، وجعلهما مرتبطين بالحياة على نحو شامل. إضافة إلى كونه اهتم بمكون سيصير مرتبطاً بالنقد الثقافي إلى الآن، هو رصد انبناء المعرفة واندغامها بالسلطة في الخطاب الكولونيالي والثقافي عموماً. وكان أهم من جعل مفهوم الخطاب، وليس النص فقط، أساس اشتغال النقاد الثقافيين، فهو عنده، تأثراً بميشيل فوكو، نسق مؤسّسيٌّ موجه ومسيس حين يكون خاضعاً لمؤسّسة مسعاها التحكم والسيطرة. وهنا تأتي أهمية أن أخصص له حيزاً واسعاً أقرأ فيه أهم أعماله التي أعتبرها مؤسّسة لتحوّل جوهري في النقد الثقافي.

كيف يمكنك الشرح للقرّاء غير المتخصّصين في حقل النقد الثقافي، الفوارق بين النقد الأدبي والنقد الثقافي، وكيف تحددون مفهوم الأخير؟ 

أولاً، لا بد من التأكيد أنّ المقارنة بين النقد الأدبي والنقد الثقافي، أفضت إلى حضور فكرة الإلغاء، والتي أحدثتها عبارة "موت النقد الأدبي" التي قال بها الغذامي، وبالرغم من أنه شرح المقصود بها، وأنه لم يقصد معنى الإلغاء الكلي، إلّا أنّ هذه العبارة هي التي جعلت فكرة الصراع أو الإلغاء قائمة. وبالنسبة إلي فأرى النقد الثقافي، على نحو مبسط، هو مجال يمكّن ممتلك أدواته من الوعي بالخطابات التي تحيط بنا، يفكك أنساقها وأبعادها، وهو خطاب فكري يروم التحرر من الرقابة التي تفرضها المؤسّسات والأفراد على الآخرين، أو محاولة التحكم في الآراء والسلوك والحياة. ولأنه، وعكس النقد الأدبي الذي له منهج محدد ومفاهيم إجرائية ثابتة تحلل الأنساق الفنية بدرجة أولى أو تخضعه لتحيز أيديولوجي (الماركسي مثلاً)، فإنه يمكن الوصول إلى غايته التحررية التي تقارب الخطاب من أبعاد مختلفة، من توظيف منظورات نقدية (بما فيها مناهج النقد الأدبي) وفكرية متنوعة، لكني أقترح في هذا الكتاب تسويرها بضوابط معينة حتى لا يصبح النقد الثقافي وعاء لمنظورات فوضوية. 

كيف ترون حال النقد الأدبي الحديث في الوطن العربي اليوم، وما هو موقع النقد الثقافي في النقد العربي الحديث؟ 

أشدّد دوماً على التأكيد أنّ ما يفتقده النقد العربي هو الاشتغال على المشاريع النقدية والبحثية، فالناقد حين ينشغل كلياً بالتظاهرات المناسباتية، أو يكتب دون رؤية نقدية أو فكرية واضحة، فإنه يفقد النقد سلطته في التوجيه، ولعلنا نلاحظ كيف أنّ الجوائز الأدبية الآن، وهي ظاهرة صحية على العموم، تملك السلطة التوجيهية، وتجعل النقد تابعا لمخرجاتها: اللوائح القصيرة والنتيجة النهائية، وذلك يفرض حاجتنا إلى نقد النقد، للتوقف عند دوره، في التحوّلات التي يعرفها المشهد الإبداعي العربي. وعطفاً على أهمية المشاريع النقدية، فحضور النقد الثقافي في المدونة العربية، مقترن بجهود مشهودة لعبدالله الغذامي، وهو إن كنت أختلف معه في تصوّره للنقد الثقافي، ووظيفته، أو طريقة اجتراحه لمفاهيمه في النقد الثقافي، وأعبر عن ذلك في كتابي الجديد، إلّا أنه استطاع أن يبني مشروعاً نقدياً يدافع عنه أكاديمياً في كتبه، أو عبر المحاضرات الحضورية أو الافتراضية، أو عبر منصات وسائط التواصل (خاصة تويتر). غير أنّ النقد الثقافي لم يحز بعد المكانة المؤسّسة التي يستحقها في عالمنا العربي، إما بسبب مقاومة بعض المؤسّسات الجامعية، وتحفظها من إدماجه في وحدات التدريس، وهذه المقاومة خفت في السنوات الأخيرة، أو بسبب كتابات الموضة في النقد الثقافي دون التمكّن من مرجعياته وأدواته.

ترى أنّ "ثقافة الوسائط (الإعلام وتكنولوجيا الإعلام) هي الموضوع الأساسي للدراسات الثقافية، لما للإعلام من أثر في تنميط الأفكار وأنماط الاستهلاك"؟ عربياً؛ هل منح الأكاديميون والنقاد الثقافيون العرب (ثقافة الوسائط) اهتماماً واسعاً بوصفها نصوصاً؟

إنّ جوهر هذا الكتاب هو التنبيه إلى حاجتنا لتفكيك خطاب ثقافة الوسائط، التي اهتم بها واسعاً الناقد الثقافي الأمريكي دوغلاس كلنر، والذي أعتبر جهوده مدخلاً لبناء التصوّر المختلف للنقد الثقافي، فمفهوم "ثقافة الوسائط" media culture الذي اقترحه، يحل مشكلة معروفة في الدراسات الثقافية البريطانية هي التوظيف المتحيز والأيديولوجي لمصطلحي جماهيري وهامشي، وترتبط بمفهوم "صناعة الثقافة" الذي اقترحه تيودور أدورنو وماكس هوركهايمر، لتفسير تحكم وسائل الإعلام في صناعة الصور المكذوبة والوهمية عن تماثلات بين الأشخاص والطبقات. وهو ما ينطبق على حياتنا اليومية التي تصنع فيها وسائط التواصل الاجتماعية نجوماً وأيقونات وهميّة، وتتحكم في سلوك المراهقين والشباب على الخصوص، ولذلك نحن بحاجة إلى النقد الثقافي ليفكك هذه الخطاب، ويفضح وجهه التحكمي، وأرى أنّ الدراسات في هذا الباب قليلة جداً. 

تؤكد في دراستك هذه، أنّ "الغاية الكبرى في مختلف التوجهات النقدية المؤسّسة للنقد الثقافي... هي تفكيك أنساق الهيمنة التي تتدثر في أشكال مختلفة؛ تلك التي تمارسها المؤسّسة الساعية إلى التحكم في الإنسان وتنميط ذوقه وفكره وسلوكه بما يوائم مصالحها، ثم احتواء كل فعل يحاول تغيير الواقع و إقصائه، أو الثورة على النظام الذي يحمي المؤسّسة، بالمخاتلة عبر المتعة المستعذبة والمستعبدة، أو بالقوة حين يكون اللجوء إليها ضرورياً". وهو ما يدعونا لسؤالك عن السبل الممكنة لجعل النقد العربي الحديث مستقلاً، وقابلاً للتطوّر دون أن يرتهن بالمستجدات النقدية الغربية؟ 

أعتقد أنّ الاطلاع على المستجدات الغربية هو أمر صحي، شريطة أن يكون مقترناً بغاية الاطلاع، وليس مصادرةً تقوم على الإعلاء من قيمتها في كل الأحوال، وإلّا كنا كمن يستحضر، دون وعي منه، تمثيلاً ثقافياً مركزياً ينتقص من ثقافتنا. ومن المعلوم أنّ النقد الثقافي في الغرب، يخوض في مواضيع سياسية وثقافية بجرأة كبيرة. وإن توفر بعض هذا المناخ في ثقافتنا سيسمح باجتراح منافذ لتأصيل نقد ثقافي عربي، لكن هذا التأصيل ينبغي في كل الأحوال أن يكون مسوراً بالاطلاع على جهود الآخر في النقد الثقافي في مختلف الثقافات الغربية، العربية، أو غيرهما…

أخيراً؛ هل لديك مشاريع جديدة على صعيد البحث والكتابة؟  

أشتغل على الجزء الثاني من هذه الدراسة، وهي دراسة الرواية في علاقتها بوسائط الثقافة، وأثرها على بناء رؤى ثقافية معينة أفضت إلى بناء ملامح لتوجهات جديدة في الرواية العربية، وعلى مشروع آخر في المجال الديدكتيكي والبيداغوجي يهم إدماج النقد الثقافي منظوراً في تدريس النصوص والخطابات الأدبية.