نشأة بلاطة في مدينة يتداخل فيها التراث التوحيدي والبيزنطي، أجبر سياسة الخط المستقيم، على مركزيتها الآتية من الحداثة الغربية، على التمازج بين إرثين قويين في مخيال بلاطة الجمالي: الإسلامي والمسيحي. تقول غولرو:
في أكثر من موضع يخبرنا الراحل كمال بلاطة أن تشكله الفني كان بأثر أساسي من ثلاثة عناصر: الأيقونات البيزنطية، والخط العربي، والزخارف الإسلامية، والعناصر الثلاثة تلك كانت حاضرة في القدس، حيث ولد بلاطة ونشأ. أوضح بلاطة هذا الأمر في محاضرته الشهيرة "الارتحال في الشفافية" Journeying Through Transparency قبل وفاته بعام واحد، وفيها يشير إلى تأثر الجمالية الإسلامية بالإرث البيزنطي، وأن ذلك كان نتاجًا للنص القرآني.
لو تتبعنا تأثر بلاطة بالعناصر الثلاث التي أشار إليها، وربطناها بمدينته القدس، أمكننا البحث عن تمثلات المدينة في تجريده، وهو أمر ذكره الراحل في أكثر من موضع، وهو أيضًا ما يدفعنا إلى التساؤل عن المدينة في التجريد، وبالذات أنها مدينة مقدسة. فهل يمكن تجريد المقدس ليصل إلى اليومي المعاش في المدينة، للدرجة التي تأثر بها بلاطة؟
يزداد التساؤل صعوبة إذا حملناه إلى مساحة النص البصري لبلاطة، فأعمال بلاطة تبدو وكأنها غارقة في التجريد، لكن هل هي فعلًا أعمال فنية تجريدية، فقط؟
بلاطة الذي بدأ الرسم صغيرًا، متأثرًا بمدينته الغنية بتفاصيلها الأيقونية والحسية والرمزية، والطقسية، اندفع بأثر من المدينة إلى ثنائيات الكلمة والصورة، والمادي والزمري، والمرئي وغير المرئي، (يمكننا أن نتتبع تلك الثنائيات ليس فقط في أعمال بلاطة الفنية إنما في كتاباته ونصوصه، أيضًا). لكن تلك الثنائيات في نهاية الأمر ثنائيات خطية، أي أن العلاقة بينهم تقع على أطراف الخط المستقيم الواحد، بوصفهم ثنائيات حداثية. ومؤسسة الدين وقعت تحت سطوة الحداثة (توماس باور)، وعليه فمخيالها أيضًا تأثر بتلك الثنائيات. يدفعنا الأمر هنا إلى أول أشكال الشك في التجريد، باعتباره فن القرن العشرين: هل هو حداثي أم بعد حداثي؟
قبل الولوج إلى السؤال السابق بكل طبقاته، نعود إلى بلاطة.
يقول بلاطة إن التجريد الهندسي هو طريقه لخلق مكانٍ ما من خلال اللغة، مستعينا بها مكانًا في ذاتها. الأمر يشبه الصلاة وطقوس الإحياء في الأديان التوحيدية، وكذلك لدى الإغريق. يمكن رؤية الأمر بجلاء في أعمال مثل "الظاهر والباطن" أو "كن فيكون". ما فعله بلاطة هنا هو نقل مكانية اللغة إلى العمل الفني دون أن يفقد عنصر اللغة، ودون أن يعتمد إنتاج المكان في العملين على اللغة بما هي معنى، إنما بما هي فضاء، أو مساحة. يتضح الأمر في الربط بين بلاطة وتأثره بالجنيد البغدادي أحد أئمة الصوفية في القرن التاسع، الذي درس النص القرآني، وأشد ما استرعى انتباهه كان حرف الباء.
كما في حالة حرف الباء، كأثر مادي دال على غير المادي، لدى الجنيد البغدادي. نتتبع الثنائيات لدى بلاطة، لربطها بظاهر وباطن أيضًا، وهذا الانتقال في الإرث البصري الإسلامي له مركزية في خلق جمالية ما، لا يمكن أن تتخطاها العلمنة في التجريد. تقول غولرو نيسيبوجلو أستاذ تاريخ الفن والعمارة في جامعة هارفاد والمدير السابق للآغا خان:
"عبور الحدس من المتعة والغرابة الجمالية إلى النشوة الصوفية والميتافيزيقية... هذا العبور تيسر له العقلية الخرافية، وطقوس التفكير المترابط الذي خلق معادلة بين الكونين الأصغر والأكبر في المخيال المسيحي والإسلامي المتقاطعين في السياقات، ومنهما إلى العصر الحديث". هذا بالضبط ما فعله بلاطة.
إن تتبع الخط المستقيم في أعمال بلاطة والرابط بين ثنائياته الفكرية، لهو قادر على خلق مسار متكسر في داخل كل خط يمنحه موثوقية ومعنىً جديد. ولعل هذا التضاد بين الاستقامة والانكسار وكذلك الانقطاعات في حياة الخطوط المستقيمة لدى بلاطة على مستوى النظرية والفن، هما الأساس في فهم أهمية منتجه الفني والكتابي.
نشأة بلاطة في مدينة يتداخل فيها التراث التوحيدي والبيزنطي، أجبر سياسة الخط المستقيم، على مركزيتها الآتية من الحداثة الغربية، على التمازج بين إرثين قويين في مخيال بلاطة الجمالي: الإسلامي والمسيحي. تقول غولرو:
"الاتحاد بين التمثلات الطبيعية والبصرية في منظور واحد يؤكد على التداخل في موقع الرؤية بالنسبة للناظر، فالفصل الثنائي بين الذات والموضوع في الفن الإسلامي يظل غير محدد وواضح بشكلٍ كامل وحاسم. بينما منظور التحديقة الثابتة الموقع، قد أنتج صورًا ثابتة، بينما التحديقة المتحركة تسمح للجسد والحواس والرغبات للدخول في الفضاءات البصرية للفن والعمارة الإسلاميين".
لعل التجريد في أعمال بلاطة يعطينا مفتاحًا لفهم التجريد، أبعد وأعمق قليلًا من فكرة الانتقالات بين الحداثة ومابعدها، ويزيل الجدب الذي أصاب العقل البشري في تأمله الظواهر وإعادة إنتاجها من خلال ادعاء الخروج عنها إلى ما بعدها. التجريد في أعمال بلاطة، وإن كان منطلقه هو الثنائيات الحداثية، إلا أنه يخلق لنا فضاءً ثالثًا، يمكننا من مقاربة أعماله من خارج تلك الثنائيات، ويجعلنا قادرين على تأمل الظواهر من خارجها بقدر ما نفعل من داخلها.
أعمال كمال بلاطة تستشكل مقولة ثيودور أدورنو: "الفن هو الطرح الاجتماعي المضاد للمجتمع، فلا ينبغي استنباطه مباشرة من المجتمع. وذلك أن تكون دائرة الفن تتطابق مع تكون دائرة داخلية للبشر بما هي فضاء تصوراتهم وتمثلاتهم، فهو يساهم مسبقًا في التصعيد. ولذا فإنه من المستساغ أن يشتق تعيين ما هو الفن من نظرية الحياة النفسية"، للدرجة التي تدفعنا إلى الإدعاء أن التوازيات البارزة في أعمال بلاطة هي اللغة والعمارة والمدينة والفراغ هي توازيات يمكن تتبعها في التجريد كما في غيره، ويمكن أن تكون هي النص ما بعد البصري في أعمال بلاطة. وأننا لو فعلنا ذلك لأمكننا كفلسطينيين وفلسطينيات من اختراع نقطة ارتكاز يمكن أن تكون قادرة على إنتاج معرفة ونظرية فنية غير مقولبة داخل التيارات الفكرية الرئيسية: الحداثة وما بعدها، حتى لو أقرينا أن ما كان خصبًا في الحداثة الفنية هو المرور إلى أحد الطرفين الأقصيين، وليس المكوث عند ما يتوسطهما، حيث كل عمل على التوليف بينهما لم يتمكن من انتزاع شرعية له. وهذا الجدل مهم فلسطينيًا، بالذات في غياب استعارة أساسية في المخيال الفلسطيني، أو على الأقل فشلها، وهي استعارة الدولة الحديثة، حتى وإن كانت مشاريع الأرشفة الفنية الحالية على عطابتها ومجهوداتها، أيضًا، هي محاولة لإنتاج دولة.
جميع اللوحات المرفقة بالملف من مجموعة "سُرّة الأرض" (١٩٩٨، دارة الفنون) وهي متوالية أعمال مؤلفة من اثنتي عشرة لوحة، تم إنتاجها باهتمام من الفنانة سهى شومان وزوجها الراحل خالد شومان. قدّمت لنا الصور "دارة الفنون" مساهمةً منها في الملف.