المكان مقاومة جماليّة عند كمال بُلّاطه

2022-02-18 12:00:00

المكان مقاومة جماليّة عند كمال بُلّاطه
كمال بلاطة. سرّة الأرض. من سرّة الأرض، مجموعة من 12 عمل، 1997-1998. أكريليك على قماش. من مجموعة خالد شومان الخاصة، دارة الفنون - مؤسسة خالد شومان.

في مجموعة لوحات "الصعود" التي تعاين العبور بين المكانين "الفيزيائيّ وما وراء الفيزيائيّ"، ينسج بلّاطة المكان في لوحاته من خلال مزاوجة تركيب من العلاقات الهندسيّة (للمربّع) مع عناوين تستحضر "رحلات أسطوريّة وميتافيزيقيّة يُعتقد بأنّها انطلقت من فلسطين". على سبيل المثال، المربّع الذي نجا كواحد من تفاصيل المكان في ذاكرة بلّاطة، ينبثق من خيط واحد في منتصف اللوحة،

"لا يبقى بعد الحرب سوى حبّ الإنسان للجمال."(1) أخرج لنا الفنّان التجريديّ والمؤرّخ الفنيّ الفلسطينيّ كمال بلّاطة هذا التعبير صريحاً على شواطئ أوروبا، بعد ثلاثين عاماً على نفيه من وطنه ومدينته القدس، لكنّ جمالها الذي تعلّق به بلّاطة سكن شاغله الفنيّ والتعبيريّ منذ اللحظة الأولى؛ التي سلبته فيها المسافات تلك التفاصيل. 
 

ينسب الناظر لوحات بلّاطة التجريديّة إلى تقليد فنّيّ حداثيّ عفى عليه الزمن، والذي كان يحتفى به في مطلعه "لنقائه البصريّ" و"استقلاله" عن اللغة التي اجتاحت اللوحات التمثيليّة، وقد يبدو هذا بعيداً عن فنّ فلسطينيّ لا يملك رفاهيّة مثل هذا الاستقلال. لكن، وكما يوضّح المنظّر دبليو ميتشل في مقاله "الفنّ التجريديّ وكبت اللغة"(2) النوعان من اللوحات يتعلّقان باللّغة، كلّ بطريقته: في اللوحات التمثيليّة على شكل سرديّة تفرضها التفاصيل أو المحاكاة في اللوحة، وفي التجريديّة على شكل "نظريّة" ما من وراء المرئيّ في اللوحة. لازمت "النظريّة" الفنّ التجريديّ تاريخيّاً وجعلت له مكاناً في عالم ما بعد الحداثة، فالكلمة أو اللغة بالنسبة لميتشل هي جزء لا يتجزّأ من الطرح العام للعمل الفنّيّ البصريّ. كذلك كان بلّاطة يؤمن بمركزيّة اللغة في ظاهرة التجربة البصريّة والإدراك الجماليّ(3). بل إنّه انتقد الفنّ التجريديّ الأوروبيّ-الأمريكيّ لابتعاده عن التفصيل دون توجّه نظريّ أعمق من خلف ذلك، فجماليّات التجريد عند بلّاطة، ليست فقط تجنبا للتفاصيل بل تعبّر أيضاً عمّا يراه حقائق عالميّة بلغّة ذات خصوصيّة ثقافيّة(4). لا شكّ أنّ رؤية بلّاطة للعالم و"نظريّته"، ارتكزتا على موقعه كفنّان في المنفى ومنظوره منه، والذي يتّجه نحو الوطن أو "مكانه في الماضي" كما يتّضح بشكل خاص في كتاباته عن ممارسته الفنيّة. وجد بلّاطة في الصورة أو "البصريّ" ما يعتبره المنظّر والتر بنيامين قدرة تفوق اللغة والاصطلاح على تصوير التاريخ(5)، فالماضي بالنسبة لبنيامين هو صورة تتجلّى للناظر في الحاضر في لحظة خطر يحيط بهما معا(6)، وكانت خسارة "المكان" لصالح الاحتلال هي ذلك الخطر الذي دفع به إلى تعبير بلّاطة. 

ولد كمال بلّاطة في القدس عام 1942، ونفي منها باعتباره "دخيل"، أي المقصى من استمراريّة المكان التاريخيّة، عقب نكسة عام 1967 إلى مكان عاش فيه بصفته "الآخر" المقصى من الذاكرة الجمعيّة، فقضى حياته فنّانا انقطعت صيرورته في المكان. وجد نفسه بعدها معلّقا أبديّا فيما يسمّيه "منطقة محرّمة"؛ بعيداً عن مكانه الأصليّ (القدس) وعلى هامش مكان إقامته الحاليّ (المنفى)(7). يستوحي بلّاطة هذا الاسم من المصطلح العسكريّ الذي يطلق على المناطق التي كانت تشكّل جزءاً من مدينته\مكانه قبل أن يقتطعها الاحتلال لترسيم وتفخيخ الحدود استعداداً لتقسيم المدينة ونفيه من المكان، فيرى في هذه الواقعة نذيراً لحالة النفي التي سيعيشها طوال حياته لاحقاً(8). تلك المناطق التي امتلأت بالنفايات والألغام وأصبحت بعدها فراغا يُنفى فيه الفرد والمكان سواء، ولم يتبقّ منها سوى ما يحمله بلّاطة في ذاكرته من تفاصيل عن ساحة بيت عمّه أو لعبة كرة مع أولاد الحارة(9). فأصبح المكان عند بلّاطة يقتصر على ما تبقّى منه في داخله.  

في تلك المنطقة المحرّمة التي تفصله عن مكانين، وجد بلّاطة نفسه في حالة صراع لاختراق حدودها واستعادة المكان، أي استعادة الهويّة والتاريخ والذاكرة الثقافيّة الجمعيّة، التي تجعل أيّ فراغ مكاناً(10). هذه هي الحالة العامّة التي وجد فيها كلّ فنّان فلسطينيّ نفسه بعد ما يمكن اعتباره أقسى حوادث التاريخ؛ خسارة أرض فلسطين. فيرى بلّاطة أنّ كلّ تعبير فنيّ فلسطينيّ بعد تلك الحادثة كان محكوماً بالمسافة التي تفصل الفنّان عن المكان، أي محاولة لترسيخ تلك الاستمراريّة التاريخيّة لهويّته. لقد حرص الفنّانون الذين "نجوا" من النفي وبقوا في فلسطين المحتلّة، قريباً من أرضها، على تصوير علاقة حميميّة مع أرضهم وأرض أجدادهم في محاولة لمقاومة اقتلاعهم منها(11). بينما يمكث هؤلاء الفنّانون جغرافيّاً في "منطقة محرّمة" تفصلهم بالأسلاك الشائكة والألغام والإقصاء المُقَونَن عن استمراريّة المكان، يحاولون "تهويل علاقتهم بالمشهد الطبيعيّ"(12). فجاء تعبيرهم تصويريّاً، وذلك أنّ بلّاطة "يرى" أنّ قربهم من الأرض يتيح لهم تفاصيلها. فيكتب بلّاطة عن أعمال الفنّانة صوفي حلبي مثلا، والتي ركّزت على إظهار المشهد الطبيعيّ للقدس من إطلالاتها المفضّلة، من "مسافات مُحيِّرة في قلب الخلاء"(13)، من طرق ومشاهد تحفظها فقط ابنة القدس والمكان، والتي نقلت من خلالها "فرحة إبصار القدس من بعيد" عقب العودة إليها(14). كما ورسمت صوفي "السوسن البرّيّ والخشخاش وبخّور مريم التي جمعتها من تلال القدس، أو الورود والزنبق والأضاليا التي التقطتها من حديقتها"(15)، كما لو كانت قادرة على استحضار حتّى رائحة القدس في لوحاتها(16). أمّا الفنّانون المنفيّون من المكان، مثل بلّاطة نفسه، الذين لم تعد تفاصيله متاحة لهم سوى من الذاكرة، فقد سعوا "لاختراق المسافة التي تفصلهم عن مكان ولادتهم"(17) بإعادة إنشائه في حيّز اللوحة والتعبير. فجاء تعبيرهم تجريديّاً بسبب بعدهم عن تلك التفاصيل، واعتمادهم فقط على الذاكرة الداخليّة المحكومة بالإدراك، الذي يأتي كعمليّة تجريديّة بالضرورة. 

صوفي حلبي، الطريق إلى القدس

"تبدأ صناعة الصورة باستجواب المظاهر ووضع العلامات… إذا ما اعتبرنا المظاهر حدودا، يمكننا القول بأنّ الرسّامين يبحثون عن الرسائل التي تخترق الحدود: الرسائل التي تأتي من خلف المرئيّ. ليس لأنّ الرسّامين أفلاطونيّين، بل لأنّهم ينظرون جيّدا".(18) يتبنّى بلّاطة هذه الفلسفة البصريّة التي يطرحها الناقد والفنّان جون بيرجر، بل إنّ كلّ رحلته الفنّيّة هي بحث في ذاك الذي يخترق "مظاهر" الذاكرة، ووضع "علامات" لـ"صناعة" مسافات تاريخيّة وثقافيّة (جمعيّة) تخلق من فراغ اللوحة مكاناً، وتخلق له "القدس" و"فلسطين". فالفراغ فيزيائيّ وملموس، ولكن "المكان" هو "ما وراء الفيزيائيّ"(19)؛ الذي يمنح الشخص علاقة تاريخيّة مع الفراغ وغيره ممّن قطنوه ويقطنونه.

فيبحث بلّاطة كفنّان في المكان كمعنى وهويّة تخترق المرئيّ من تجريدات الذاكرة والبعد. فـ"المجرّد" عند بلّاطة هو الذي اخترق المسافات، ليس فقط كصور محدودة التفاصيل، بل كتقليد نظريّ وتاريخيّ شكّل "القدس" (المكان). فالمربّع، الذي يعتمده بلّاطة أساسا لعمليّته التجريديّة، والذي سمّاه الفنان التجريديّ الرائد ماليفيتش "صفر الأشكال"(20)، هو أساس تقليد التخطيط الكوفيّ الإسلاميّ والشبكة الأساسيّة التي يبنى عليها فنّ الرقش أو الزخرفة العربيّة، واللذان شكّلا جزءاً كبيراً من الموروث البصريّ في القدس وصروحها الدينيّة، مثل قبّة الصخرة التي أطلّت من شبّاك بيت بلّاطة في القدس وارتبط فيها بشكل خاص(21). والمربّع وعلاقاته وتشكيلاته المختلفة، أساس المخطّطات الهندسيّة لتلك الصروح، أي أساس تخطيط "مكانه"، فيروي بلّاطة أنّ قبّة الصخرة، وكنيسة القيامة وكنيسة الصعود، والتي رسمت مخطّطاتها على أساس مربّعين يتقاطعان بزاوية خمس وأربعين درجة، كانت من بين الصروح التي أحاطت مشهده اليوميّ من على سطح بيته(22). وكون التجريد أيضاً لغة الفنّ العالميّة آنذاك، ألهم بلّاطة ليجد فيها لغة مشتركة، يحاور بها "القدس" ومكانه الجديد في المنفى، وبالتالي تتيح له اختراق حدود المنطقة المحرّمة والعبور إلى حالة "المكان". فيعتمد بلّاطة على استخراج تلك "الرسائل" أو العلاقات التاريخيّة من "مظاهر" ذاكرة المكان وإسقاطها كمسافات جماليّة في لوحاته؛ ما يسمّيه هو بـ"التخطيط الشعريّ(23) (Poetic mapping).

يعرّف المؤرّخ والناقد دافيد دايتشز "المسافة الجماليّة" بأنّها "مجموعة من التوجيهات الضمنيّة في العمل، والتي تتعلّق بالمسافة التي يجب أن يتّخذها القارئ من العمل حتّى يراه كما هو فعلاً"، أي أنّ العمل أو "الشيء" قيد المعاينة يدعو، بتفاصيله، المعايِن لاتّخاذ مسافات حرفيّة أو نظريّة معيّنة تمكنّه من الإلمام بتلك التفاصيل الدقيقة التي تشكّل العمل ككلّ وبالتالي إدراك حقيقته(24). وهي أيضاً المسافة التي تمكّن الفنّان، أو من يصنع العمل عند اتّخاذها، من إدراك هذه الخصائص الدقيقة التي عليه أن يشكّلها، أي المسافة التي تتيح له الانفصال حسيّا عن العمل لإدراكه كاملاً، من زواياه العديدة. في حالة بلّاطة، فإنّه يدرك أنّ المسافات الشاسعة (أو المنفى) أذابت تفاصيل المكان إلى أن جعلته فراغاً مجرّداً، وبالتالي حجبت إمكانيّة إدراكه حقيقة. أيّ أنّ "المجرّد" يدعو بلّاطة لاتخاذ مسافات "أقرب" لإدراك "المكان" أو "الهويّة" فيه. لذلك نجد بلّاطة يسترجع تلك الإمكانيّة الإدراكيّة من خلال التخطيط الشعريّ للفراغ (اللوحة)؛ أي صناعة مسافات تاريخيّة دقيقة بين العناصر البصرية "المجرّدة" (عن المكان)، والمتمثّلة في الذاكرة، على شكل "درزات" بين المعنى البصريّ (القريب) واللغويّ (البعيد أو حامل العلاقة التاريخيّة) (25).

في مجموعة لوحات "الصعود" التي تعاين العبور بين المكانين "الفيزيائيّ وما وراء الفيزيائيّ"(26)، ينسج بلّاطة المكان في لوحاته من خلال مزاوجة تركيب من العلاقات الهندسيّة (للمربّع) مع عناوين تستحضر "رحلات أسطوريّة وميتافيزيقيّة يُعتقد بأنّها انطلقت من فلسطين"(27). على سبيل المثال، المربّع الذي نجا كواحد من تفاصيل المكان في ذاكرة بلّاطة، ينبثق من خيط واحد في منتصف اللوحة (فالمستطيل هو أحد أطوار المربّع منقوصة العرض حسب تصنيف بلّاطة) الذي يتّسع تدريجيّا على جانبي مركز اللوحة في سبعة أطوار ليصل إلى المربّع التام. فتتكدّس المربّعات متفاوتة الأبعاد فوق بعضها في سبع طبقات فوق قاعدة اللوحة العرضيّة، ويخلق انطباعاً بأنه ثمّة تدرّج بين المسافات بينها باستخدام تماثلها حول المركز وتدرّجات ألوانها المختلفة(28). تتخلّل هذه المربّعات مربّعات أخرى "مشوّهة" (المربّعات منقوصة العرض) ومائلة تقطع طبقات أو مربّعات اللوحة المتكدّسة فوق بعضها البعض. "فتتبّع العين العبور (بين الفضاءات المختلفة في اللوحة) من خلال هذه العلاقات الهندسيّة"(29)، أي يتحوّل فعل "العبور" إلى تجربة هندسة فراغيّة في اللوحة.

كمال بلّاطة، المعراج

يزاوج بلّاطة مثل هذا التركيب مع عنوان مثل "المعراج"، والذي يرتبط بقصّة المعراج الإسلاميّة إلى السماوات السبع والجنّة، وهو معنى يجمع مركزيّة تاريخيّة، ودينيّة وجغرافيّة خلقت "القدس". فمن خلال التزامن بين عبور "العين" الجسم الهندسيّ في اللوحة وعبورها "العلامات" التاريخيّة في العنوان، يستحضر بلّاطة سرديّات التاريخ والأسطورة لتشكّل لحظة رمزيّة في الحاضر الفلسطينيّ (30) تتجسّد من خلال الجسم الهندسيّ في اللوحة، والذي يأسر فيه حالة فراغيّة معيّنة لذلك "المربّع" الذي نجا معه من "المكان". فيشبه منطق بلّاطة هنا، منطق الماديّة التأريخيّة عند بنيامين، والتي تحاول فهم التاريخ أو أسره من خلال بلورته بـ"شكل" ما في الحاضر، فـ"الحاضر" عند بنيامين هو صدى للماض(31). فيصبح العبور من "فيزيائيّ" اللوحة إلى ميتافيزيقيّها أي من المرئيّ إلى ما ورائه، عبوراً إلى الهويّة والتاريخ وبالتالي "المكان"، أي تصبح "القدس" نقطة تماس كل تمثّلات معنى العمل أو علاماته. بإسقاط المسافة بين العلامات "اللغويّة" والبصريّة(32)، يؤسّس عمل بلّاطة الهويّة المكانيّة التي "يراها جيّداً" من خلف المرئيّ له من إطلالته في المنطقة المحرّمة. هكذا تمكّن بلّاطة من "الانتقال من الذاكرة إلى الخيال"(33)، أي خلق العلاقات التاريخيّة في "المجرّد" وبالتالي خلق "المكان". 

في لوحة "الماء من لون الإناء" مثلا، تتماهى كلمات العنوان المطبوعة في اللوحة مع شبكة المربّعات التي تشكّل "الخلفيّة" لأنها تتشكّل منها أيضاً، ولا يميّزها عنها سوى اختلاف ألوان المربّعات المختلفة، والتي تأتي لامعة بتدرجّات زرقاء وخضراء وتذكّر بفسيفساء العمارة الإسلاميّة، في القدس والوطن العربيّ والأندلس التي يسمّيها بلّاطة "شرق المنفى"(34)، ولاسيّما بركها المائيّة التي ميّزتها، والتي أحبّها بلّاطة وأثّرت في تعامله مع "اللون" بشكل عام(35). هكذا جعل بلّاطة أعماله رحلة في هويّات مكانيّة مختلفة، فهو "يدعو المشاهد للعودة إلى حاضر لم يزره من قبل"(36)، من خلال إدراج تجربته الفراغيّة الحميميّة (الراسخة في الذاكرة) كتفصيل في تجربة فراغيّة خارجيّة تنقصها "التفاصيل" بسبب البعد عن المكان. 

كمال بلّاطة، الماء من لون الإناء

هذا الغموض في التجربة الفراغيّة بين الحميميّة الراسخة في الذاكرة والخارجيّة، هو حال الفنّانين الفلسطينيّين المبهم في المنفى بالنسبة لبلّاطة والذي يسمّيه "البداوة الثقافيّة"(37). والبداوة معروفة تاريخيّاً وتقليديّاً بمركزيّة الذاكرة، وبالتالي الجسد، للحفاظ على هويّة مكانيّة من خلال الحفاظ على الموروث الجمعيّ(38)، والذي يأتي شفهيّا في سياق "البداوة" والترحال؛ أي لا يؤسّس في الفراغ الخارجيّ على شكل "مكان". وبالتالي يتحتّم على الجسد تذويته ونقله مكانيّاً وزمنيّاً، أي يكون "الفراغ الحميم" (الراسخ) أساسا مجرّدا للهويّة "المكانيّة". يمكن قراءة جوهريّة الجسد في تجربة التعبير عن المكان عند بلّاطة في سياق تأريخه لأعمال فنّانات إناث بشكل خاص. على سبيل المثال عندما يصف الأعمال الأدائيّة للفنّانة منى حاطوم، التي ولدت لاجئة في بيروت، بأنّها "تعيد تعريف العالم من خلال جسدها الذي يلامس جسد المشاهد، فتخلق لغة مجازيّة تتكلّم في آن: عن المنفى والتماهي، الاضطّهاد والمقاومة، الأسر والحرّيّة"(39).
منى حاطوم، تحت الحصار

يتحدّث بلّاطة عن أعمال حاطوم التي يشهد جسدها على "ذاكرة عنيدة" كما سمّاها إدوارد سعيد(40)، والتي تصنع من نقل تمثّلاتها عبر الجسد مسافات جماليّة تستعرض "المكان" على شكل "منطق التضاربات"(41)، أي في علاقات مفارقة بين جسدها (الحامل للهويّة المكانيّة) والفراغ الخارجي. يمكننا هنا ملاحظة تشخيص كمال بلّاطة للتأثير الجندريّ على التجربة المكانيّة بين السطور، فـ"الأنثى" هي حالة فراغيّة مفارقة بالضرورة. يذكر بلّاطة اتجاه انتصاب جسد حاطوم مثلاً في أعمالها الأدائيّة(42)، الذي كان عموديّاً في عمل "تحت الحصار" والذي يقف فيه جسد حاطوم العاري المغطّى بالوحل في غرفة ضيّقة من زجاج شبه شفّاف، حتى ينزلق ويقع مجدّداً في الوحل. وقد أدّت حاطوم هذا العمل بينما كانت تراقب حصار بيروت، مسقط رأسها، من خلف زجاج التلفاز في لندن. بينما في عمل مثل "طاولة المفاوضات"، يتحدّث بلّاطة عن انطراح أفقيّ لجسد حاطوم المقيّد والمغطّى بالدماء ومغلّف في كيس بلاستيكيّ شفاف على طاولة تحيط بها ثلاثة مقاعد فارغة لعدّة ساعات، وهو عمل أدّته بعد اقتحام بيروت عام 1982.

هكذا يضع بلّاطة اتجاه انتصاب جسدها في سياقات تاريخيّة لـ"بيروت"، وفي سياق فلسفته مع المكان كالهويّة والمعنى (الذي يخترق "المرئيّ" في الذاكرة) فيمكننا من خلال ذلك قراءة العلاقات العموديّة الأفقيّة بين المرئيّ، أو ذاكرة حاطوم "العنيدة" التي تمثّلها بجسدها، وبين المُشاهد، كتعقيد للعلاقات الفراغيّة التي يتماهى فيها الشخصيّ والسياسيّ، الخاصّ والعام الذي يحمله عمل حاطوم.

منى حاطوم، طاولة المفاوضات

في "تحت الحصار" لا تستطيع حاطوم الوقوف ويترتّب عليها أن تقع في الوحل وأن تعيد المحاولة، وبالتالي يصارع المشاهد قسراً لمواجهتها أو لإيجاد علاقة تواز معها تمكنّه من مواجهتها أو "رؤيتها"، يراها ولا يصلها من خلف الزجاج شبه الشفّاف. وفي "طاولة المفاوضات" تمتدّ أفقيّاً مع المشاهد الذي يقف عموديّاً، وإذا حاول "الاقتراب" منها، أي تعديل اتّجاه انتصابه في الفراغ "لمواجهتها"، فإنّه سيجلس على المقعد الفارغ على الطاولة، ويشارك في "جريمة" انتهاكها. هكذا تفرض حاطوم على المشاهد أن يتورّط فراغيّاً معها في تشابكات أو تضاربات "فراغها الحميميّ"، بإفشال علاقة "المواجهة" أو التوازي معه التي تفصلهما، بالتالي تُسقِط الهويّة التي يحملها جسدها\ذاكرتها على جسد المشاهد نفسه، أي يصبح "النفي" الواقع على حاطوم وبيروت جزءاً من هويّة المشاهد نفسه. يمتدّ الفراغ الحميميّ لجسد حاطوم ليتّصل مع الخارجيّ من خلال المشاهد، أي ينفى المشاهد من "مكانه" الحاليّ إلى مكان يمتدّ من جسد حاطوم، بل يصبح تسلسل "النفي" هويّة "جمعيّة" وتاريخيّة، أو "مكانا" يجمعها والمشاهد في الحاضر. 

في مقالة "الابتكار في الفنّ الفلسطينيّ"(43)، يختم بلّاطة بالتساؤل عن معنى بحثه في التاريخ الفنّي الفلسطينيّ كفنّان يقف على "مسافة آمنة" من وطنه\مكانه الذي يمرّ بظروف عصيبة آنذاك (كما اليوم)، فيجيب بلّاطة باقتباس من بنيامين من مقالة "أطروحات حول فلسفة التاريخ" الذي يكتب فيها أنّ "كلّ صورة من الماضي لا يقرّها الحاضر كإحدى اعتباراته، تهدّد بالاختفاء دون رجعة"(44)، وهذا الاختفاء هو لصالح العدوّ بالنسبة لبنيامين ومفتاح ضياع معاناة الماضي التي شكّلت معاناة حاضرنا، فيكمل بأنّه "وحده ذلك المؤرّخ يستطيع أن يحفظ بصيص الأمل في الماضي، المؤرّخ الذي يؤمن بأنّ حتّى الموتى لا يسلمون من العدوّ إذا انتصر، ولم يتوقّف عن الانتصار"(45). على ضوء هذا كلّه يمكننا قراءة "المكان" عند بلّاطة كمقاومة جماليّة، كجزء "حاضر" في منفاه، الذي ينفي (يلغي) مكانه أو ماضيه، أو كنتيجة توليف بين تاريخه و"تجريده" منه. فقد أدرك أنّ ضياع التاريخ أو نفي "نفيه" يفرض قسوة تذيب حتّى أقسى تجاربنا، ألا وهي تجربة "النفي" أو "المنفى" بذاتها، فهي مهدّدة بالضياع إن لم تجد في الحاضر ما "ينفي" اختفاءها. 


الهوامش
1 Kamal Boullata, There Where You Are Not, ed. Finbarr Barry Flood, Munich: Hirmer Verlag GmbH, 2019. p 47. 
2 Mitchell, W. J. T. “‘Ut Pictura Theoria’: Abstract Painting and the Repression of Language.” Critical Inquiry, vol. 15, no. 2, The University of Chicago Press, 1989, pp. 348–71, http://www.jstor.org/stable/1343589.
3 Boullata, There Where You Are Not, p 12. 
4 Boullata, There Where You Are Not, p 14.
5 Lucero-Montaño, Alfredo, On Walter Benjamin's Historical Materialism. Astrolabio, Revista Internacional de Filosofía, Vol. 10, pp. 125-131, 2010, https://ssrn.com/abstract=1994998
6 Benjamin, Walter, “Theses on the Philosophy of History.” The Frankfurt School on Religion: Key Writings by the Major Thinkers, Routledge, 2004, p 267. 
7 Boullata, There Where You Are Not, p 28. 
8 Boullata, There Where You Are Not, p 27. 
9 Boullata, There Where You Are Not, p 27.
10 The Cultural Courier. “Everyday Anthropology: Space vs. Place.” The Cultural Courier, 27 Mar. 2019, https://theculturalcourier.home.blog/2019/02/22/everyday-anthropology-space-vs-place/. 
11 Boullata, There Where You Are Not, p 212.
12 Boullata, There Where You Are Not, p 213. 
13 Boullata, There Where You Are Not, p 271. 
14 Boullata, There Where You Are Not, p 272. 
15 Boullata, There Where You Are Not, p 253. 
16 Boullata, There Where You Are Not, p 253.
17 Boullata, There Where You Are Not, p 214. 
18 Berger, John, Keeping a Rendez-vous, London: Vintage, 1991, p130. 
19 The Cultural Courier. “Every day Anthropology: Space vs. Place.” 
20 Boullata, There Where You Are Not, p 33. 
21 Boullata, There Where You Are Not, pp 31-33. 
22 Boullata, There Where You Are Not, pp 38-39.
23 Boullata, There Where You Are Not, p 34.
24 Daiches, David, A Study of Literature for Readers and Critics, Ithaca: Cornell Univ. Press, 1948, p. 63.
25 Boullata, There Where You Are Not, p 34.
26 Boullata, There Where You Are Not, p 35. 
27 Boullata, There Where You Are Not, p 35. 
28 Boullata, There Where You Are Not, p 34.
29 Boullata, There Where You Are Not, p 34.
30 Boullata, There Where You Are Not, p 35.
31 Lucero-Montaño, Alfredo, On Walter Benjamin's Historical Materialism. p 127. 
32 Boullata, There Where You Are Not, p 32. 
33 Boullata, There Where You Are Not, p 30. 
34 Boullata, There Where You Are Not, p 36. 
35 Boullata, There Where You Are Not, p 285. 
36 Boullata, There Where You Are Not, p 284. 
37 Boullata, There Where You Are Not, p 213. 
38 Boullata, There Where You Are Not, p 275. 
39 Boullata, There Where You Are Not, p 258. 
40 Boullata, There Where You Are Not, p 258. 
41 Boullata, There Where You Are Not, p 258. 
42 Boullata, There Where You Are Not, pp 258-260.
43 Boullata, There Where You Are Not, p 214. 
44 Benjamin, Walter, “Theses on the Philosophy of History.” The Frankfurt School on Religion: Key Writings by the Major Thinkers, Routledge, 2004, p 266.
45 Benjamin, Walter, “Theses on the Philosophy of History.” The Frankfurt School on Religion: Key Writings by the Major Thinkers, Routledge, 2004, p 267.
 

جميع اللوحات المرفقة بالملف من مجموعة "سُرّة الأرض" (١٩٩٨، دارة الفنون) وهي متوالية أعمال مؤلفة من اثنتي عشرة لوحة، تم إنتاجها باهتمام من الفنانة سهى شومان وزوجها الراحل خالد شومان. قدّمت لنا الصور "دارة الفنون" مساهمةً منها في الملف.