يرى مانغويل أنه سواءً صحّت ادعاءات ثربانتس بأنه وجد رواية "مغامرات دون كيخوته" كمخطوطة في سوق طليطلة مكتوبة باللغة العربية من قبل المؤلف الأصلي سيدي حميد بن جلي، أو أنه أدعى ذلك كنوع من التكنيك الأدبي، إلا أن حضور سيدي بن الجلي في أحداث ما يعتبر أول نص أدبي من نوع الرواية،
كتاب بعد الآخر، يبرع ألبرتو مانغويل في ابتكار الأفكار التي تفتح احتمالات السرد عن الأدب: «المكتبة في الليل»، «تاريخ القراءة»، «فن القراءة»، «تأملات قارئ شغوف»، وفي كتابه الحالي «شخصيات مذهلة من عالم الأدب» (دار الساقي، ٢٠٢٠) يختار المؤلف 37 شخصية أدبية وكائنات تخييلية حيوانات خرافية وكذلك من قصص الأنبياء، كلها منتقاة من التاريخ الأدبي الديني العالمي، فنرتحل في حكايات بين الأدب الآسيوي والأوروبي والأمريكي، وما يلحظ في هذا الكتاب هو إدراج شخصيات من الأدب الديني: أيوب، النبي يونس، ومن الأدب الفارسي والعربي: سندباد في ألف ليلة وليلة، ومن الأدب الأندلسي: سيدي حميد بن جلي، بالإضافة إلى شخصيتي كركوز وعواظ العثمانيتين.
الشخصيات الأدبية تعلمنا عن أنفسنا أكثر من المرآة
في المقدمة يكتب مانغويل عن تأثير الشخصيات في حياتنا الحقيقية كأفراد: "تعلمت تجاربي في الحياة -الحب والموت والصداقة والفقد والامتنان والدهشة والألم والخوف- بالإضافة إلى هويتي المتغيرة من الشخصيات الخيالية التي قابلتها عبر قراءتي أكثر مما تعلمته من وجهي المظلل في المرآة أو من صورتي المعكوسة في عيون الآخرين". ويرى مانغويل أن الشخصيات التي ابتكرها شكسبير وسرفانتس أكثر حضوراً في الثقافة الإنسانية من حضور مؤلفيها أنفسهم. فالقارئ يتعلم من "أليس" اكتشاف العالم عبر اللغة، والثقة الوطيدة بالنفس من جين آير، والكآبة العميقة من المسيو تيسيت في أشعار فاليري، فيكتب عن ذلك: "يعملني بريام البكاء على موت الأصدقاء الشباب كما يعلمني أخيل البكاء على موت أحبائي المسنين، كما ترشدني ليلى ذات الرداء الأحمر ودانتي عبر مسالك الحياة المظلمة والوعرة، كما يُعييني جارُ سانشو، ريكوتي المنفي، على فهم فكرة التحيز والأهواء البغيضة. لا يمكن حبس الشخصيات التخييلية المتجذرة في التاريخ بين دفات الكتب التي تسكنها".
عوليس اللاجئ
الفصول الـ37 مخصصة كل منها لشخصية، يقدم مانغويل قراءة تأويلية لهذه الشخصيات وحضورها في الأعمال الأدبية المنحدرة منها، لكنه أيضاً يقدم لها تأويلاً يربطها بمشكلات الحضارة الإنسانية في الفترة المعاصرة: "تحتوي صفحات الأدب القديمة البعيدة على تجارب اليوم. ففي هذه الأزمنة البائسة، يعكس التهجير القسري واللاجئون المتفائلون وطالبو اللجوء المرميون على الشواطئ الأوروبية صورة عوليس وهو يبحث عن بيته".
ليلى الثائرة، وأليس اللغوية، والوحش الضروري للإنسانية
في هذا الكتاب، تتكرر العديد من الشخصيات التي كتبها عنها مانغويل في كتب سابقة: أليس، روبنسون كروزو، وجيم من "جزيرة الكنز"، يقدم لكل منها قراءته التأويلية الممتعة والعميقة عنها، فيكتب عن حكاية ليلى والذئب: "تتلخص رؤية ذات الرداء الأحمر في عقيدة ثورو: العصيان المدني. فهي تعرف أن عليها تنفيذ أوامر أمها الصارمة، لكنها تختار أن تفعل ذلك بطريقتها. فالطرق الأقصر بين النقطة أ والنقطة ي ليس لأمثالها، وكذلك الأمر بالنسبة إلى المعابر المستقيمة والضيقة، وهي تطبق ما يكتبه هولدن كولفيلد في رواية «الحارس في حقل الشوفان»: أحب عندما ينحرف أحد ما عن الطريق، فهنا تكمن الإثارة". أما "دراكولا، برام ستوكر" فهو الوحش الذي لا ينفك يتكرر حضوره بكثافة في الثقافة الإنسانية، في الروايات وفي الأفلام والرسوم المصورة: "لذلك علينا قبول الحقيقة الساطعة التي تؤكد أن الكونت دراكولا قد أصبح وحشاً ضرورياً في عصرنا الموحش". وتتحول بلاد العجائب التي تدخلها أليس إلى العالم المجنون الذي نلقى أنفسنا فيه كل يوم بكل ما فيه من نعيم وجحيم ومطهر، مكان علينا أن نتجول فيه كما نتجول في الحياة. وعلى غرار أليس لا نمتلك إلا سلاحاً واحداً في رحلتنا، وهو اللغة فبواسطة الكلمات نشق طريقنا عبر غابة الحياة، وبالكلمات تكتشف أليس الفرق بين طبيعة الأشياء ومظاهرها. تكشف الكلمات لأليس ولنا أن الحقيقة الثابتة الوحيدة في هذا العالم المحير هي أننا نخفي جنوننا تحت غطاء من العقلانية.
من الأدب الآسيوي يختار مانغويل شخصية الراهب البوذي الآثم سينغ تشن في الرواية الكورية الشهيرة "حلم الغيمات التسعة" المكتوبة في القرن السابع عشر من قبل الباحث البارز كيم مان-جونغ. يعاقب هذا الراهب الذي يعني اسمه "الطبيعة الحقيقة الأصلية" أو "الرغبة الشهوانية" لخرقه التعاليم البوذية، واستعماله قواه الصوفية في تحويل البراعم إلى مجوهرات لإرضاء الفتيات الجنيات. فيخضع إلى نوع من رحلة التطهير، ليولد من جديد باسم آخر شاو-يو أي "الزائر الصغير" لعائلة فلاحية فقيرة يموت مُعيلها وتربيه بعد ذلك أمه الأرملة. تتضمن الرواية عدداً من التلميحات إلى الطبيعة الحلمية لما نعتقد أنه العالم الحقيقي، لتبين أن عالم الحواس ليس حقيقياً وأن عالم الروح هو العالم الحقيقي، فالأول مجرد استيهام، أما الثاني فهو الواقع الحقيقي الوحيد. يكتب مانغويل: "إذا كان على سينغ تشن أن يكمل رحلته في غمار الحرب والجنس، وإذا كانت هذه الإنجازات العسكرية والغرامية التي حققها مجرد ظل لظل آخر، فماذا نكون نحن القراء: ظلالاً تلحق ظل على صفحات كتاب؟"
ثنائي الجسد والطبقة الاجتماعية
يختار مانغويل التوقف عند هاتين الشخصيتين العثمانيتين، اللتين يعود أصلهما إلى روايتين. الأولى تقول بأن كركوز وعواظ ولدا من رحم شكوى قدمها فلاح فقير إلى السلطان: "فعلى غرار هاملت، يقرر الفلاح اللجوء إلى أسلوب العرض بدلاً من السرد، فيأتي بدميتي ظل صنعهما من جلد الجمل لتؤديا حكاية احتيال القضاة عليه. وتقول رواية أخرى أن كركوز وعواظ كانا بناءين يعملان في تشييد مسجد في البصرة ويعمدان إلى إلهاء العمال الآخرين بمجموعة من الخدع والألاعيب". لقد قرأت هذه الثنائية على عدة مستويات، هي ثنائية الجيد فقد رأى بعض الباحثين في شخصية كركوز تجسيداً لجسم الإنسان من الخصر إلى الأسفل، الأكل والضرط وممارسة الجنس، بينما يمثل عواظ الجزء الأعلى أي الدماغ الذكي والقلب الحساس. وعلى غرار جزئي الجسد الواحد، يكمل كل منهما الآخر. وثنائية الطبقة الاجتماعية، لأن كل منهما يقف على طرف النقيض من الطيف الاجتماعي للآخر. إذ أن كركوز، على غرار سانشو، رجل أمي شعبي، فطن وصريح في آرائه. أما عواظ، فيتمتع بالثقافة واللباقة والانتهازية والأنانية، كما أنه مسكون بفكرة الثراء السريع الذي يفشل دائماً في تحقيقه. يتكلم عواظ اللغة التركية العثمانية ويقتبس الشعر ويسعى إلى تثقيف كركوز وتهذيبه، كما يفعل دون كيخوته مع سانشو لكنه يخفق في ذلك.
سيدي بن جلي وقوة الثقافة المقموعة
يرى مانغويل أنه سواءً صحّت ادعاءات ثربانتس بأنه وجد رواية "مغامرات دون كيخوته" كمخطوطة في سوق طليطلة مكتوبة باللغة العربية من قبل المؤلف الأصلي سيدي حميد بن جلي، أو أنه أدعى ذلك كنوع من التكنيك الأدبي، إلا أن حضور سيدي بن الجلي في أحداث ما يعتبر أول نص أدبي من نوع الرواية، دليل على قوة الثقافة العربية الأندلسية رغم أن الرواية ولدت في الفترة التي أبعد ثلثا سكان إسبانيا من المسلمين واليهود عن شبه الجزيرة، ولم يسمح سوى لأولئك الذين اعتنقوا المسيحية، أو تظاهروا باعتناقها بالبقاء تحت لقب الموريسك. لقد ظهر اسم سيدي بن جلي في واحدة من روائع الأدب الإسباني والعالمي بينما كانت ثقافته الأندلسية العربية تقمع ويجري إخفاؤها من التاريخ: "إذ ينبئنا حضور سيدي حميد الطاغي باستحالة إسكات الثقافة المنبوذة، وأن الأدب غالباً ما يكون أكثر حكمة من القائمين عليه".
أيوب، وتمرد المواطن على ظلم المسؤولين
يلحظ في كتاب مانغويل الحالي حضور لافت لشخصيات مستمدة من الأدب الديني. لكن القراءة التي يقدمها عن حكاية أيوب الأكثر إسقاطاً على راهنية الواقع. أيوب الرجل المستقيم الثري الصالح في الكتاب المقدس يخسر أفراد عائلته وزوجته وأولاده وثروة أعظم رجل في الشرق في أيام وليالي، وذلك من اختبار الرب القاسي له، وابتلي أيوب جسدياً بالبثور المتقرحة من أخمص قدميه إلى قمة رأسه. لكن أيوب لم ينطق بكلمة تشي بالتذمر أو الشكوى واكتفى بقشط البثور. حاول أصدقاءه وزوجته إقناعه بأن اللعنة الإلهية التي حلت به لها تفسير منطقي، وربما بأن أيوب لم يتصرف بالتقوى الذي يدعيه. لكن أيوب أصر أنه طالما فعل الصواب بصبره: "بالنسبة إلى الكثير من القراء، يمثل أيوب المواطن المثالي الصالح. فعندما تسير الأمور على ما يرام، تراه ممتناً وشاكراً، وكذلك الأمر عندما تسوء. إذ نادراً ما يتذمر أو يطالب بشيء، بل يقبل مشيئة ربه وسيده صاغراً خانعاً. وبالنسبة إلى أيوب ليس هناك اتحادات أو نقابات عمال، ولا جمعيات تقاعد، ولا هيئات أهلية معنية بالمواطنين".
في الحكاية الإنجيلية، يربح أيوب في النهاية، يقول العالم اللاهوتي جاك مايلز أن أيوب تمكن من إسكات الله في نهاية المطاف. إذ أن الله لا يتكلم بعد ذلك أبداً. فبعد أن يدرك الله أن أيوب قد تغلب على المصائب التي لحقت به عمداً، يقرر بصمت أن يكافئ عبده على ورعه الشديد ويهبه ضعف ما سلبه منه. هكذا تكون النهايات السعيدة. لكن مانغويل يرغب لأيوب المظلوم المعاصر مصيراً مختلفاً: "تستمر معاناة أيوب في واقعنا دون أي أمل في المكافأة. والسؤال إلى متى سيصبر أيوب؟ كم من الأشياء يجب أن يخسر ليدرك أن هذا الظلم الواقع عليه غير مقبول على الإطلاق؟ فمتى سيسأل من المسؤول؟ متى يجب على الرجل أن يدافع عن نفسه ضد قرارات السلطة التعسفية؟ وكم من الحقوق ستسلب من أيوب قبل أن يقول كفى؟