محمد معتصم: النقد ضرورة لكشف حقائق الإبداع والابتكار الجمالي في الرواية

2019-05-10 17:00:00

محمد معتصم: النقد ضرورة لكشف حقائق الإبداع والابتكار الجمالي في الرواية

أما كتابة الرواية عند الذكور فقد عرفت هذا التحوّل منذ مطلع سبعينيّات القرن الماضي وانقسمت إلى اتجاهين: رواية تاريخانية اجتماعية ورواية تجريبية، وكلاهما كشف عن المسكوت عنه السياسي والاجتماعي قبل الانتباه إلى المسكوت عنه الذاتي.  

«المحكيات السردية الذاتية» هو عنوان كتاب سيصدر قريباً للباحث والناقد المغربي محمد معتصم، والذي سيجد فيه القراء بصمات من كتابه «نَحْوُ المحكيات السردية» الصادر حديثاً، وكتاب «خطاب الذات في الأدب العربي»، الصادر عن "دار الأمان" بالرباط، في 2007.  "رمان" حاورت المؤلف لمعرفة المزيد من التفاصيل حول كتابه الجديد، الذي يقوم على فكرة أنّ الكتابة السير ذاتية لا تعني فقط السيرة الذاتية أو الغيرية، فحسب، إذ هناك المذكرات واليوميات والتخييل الذاتي والرسائل وأدب الرحلة إضافة إلى السير الشعبية والأساطير واعترافات القسيسين والرهبان والسير الذاتية والسير الغيرية والتراجم والسير التاريخية...

 

«المحكيات السردية الذاتية» هو عنوان كتابك الذي سيصدر قريباً، والذي أخبرتنا أنّ فيه بصمات من كتاب «نَحْوُ المحكيات السردية» 2018، وكتاب «خطاب الذات في الأدب العربي»، هل لك أن تعطي قراء "رمان" فكرة عن مضمونه؟ وأين يقع من مشروعك النقدي؟

صحيح. إنّهُ أحدث كتابٍ سأقدمه لمكتبة النقد الأدبي العربي المعاصر، وهو كتاب في محور "خطاب الذات" العربي المعاصر، الذي بدأته بكتاب صدر في العام 2007 في المغرب تحت عنوان «خطاب الذات في الأدب العربي»، حاولت فيه باختصار شديد تجاوز مفهوم "السيرة الذاتية" إلى مفهوم "خطاب الذات" الذي يشمل عدداً من الكتابات السردية المكتوبة بصيغة المتكلم وقليل منها بصيغة الغائب، ومحور موضوعها ذات الكاتب الموضوعي (الخارج نصي: المؤلف في المذكرات واليوميات والرسائل وأدب الرحلة) وحول السارد-الشخصية ذاته (الرواية السير ذاتية والرواية بضمير المتكلم) أو حول الشخصية النصف متخيلة (التخييل الذاتي)؛ وقد اشتغلت فيه على السيرة الشخصية «في الطفولة» للكاتب المغربي عبد المجيد بن جلون، والسيرة الأدبية للكاتبة والشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان «الرحلة الأصعب»، ثم كتاب عميد الأدب العربي طه حسين «أديب». ويأخذ من كتابي «نحو المحكيات السردية» الصادر مؤخراً عن "دار فضاءات" بعَمّان، والذي تقوم نظريته النقدية على تعريف للرواية الحديثة والمعاصرة كالآتي: "الروايةُ خطابُ سردٍ ووصفٍ مركبٌ ومتنوّعٌ، يشمل الكثير من المحكيات السردية"، وهذه خاصية نوعية للخطاب الروائي المعاصر. اعتمدتها قاعدة ومنها توصلت إلى أنّ الرواية تَتَكَوّنُ من محكيات متضافرة بصيغ متنوعة لتشكيل الخطاب الروائي.

يضم الكتاب مفاهيم ومصطلحات موضحة في الكتاب منها المحكي الإطار، والمحكيات التامة الكبرى والكبيرة، والمحكيات غير التامة الصغرى والصغيرة. على العموم هناك شبه نظرية متكاملة أعتبرها خلاصة تجربتي في النقد السردي العربي، تقوم على البناء المحكم للجملة العربية. لذلك يشتمل الكتاب على مفاهيم تم استخدامها في التحليل السردي في كتابي «نحو ُالمحكيات السردية»، ويتضمن كذلك ملامح من كتابي الجديد «المرأة وتطوير السرد العربي: النسائية-النسوية-الأنوثة» الصادر هذا العام 2019 عن "دار الآن، ناشرون وموزعون" بعَمّان. لأنه يبرز مفهوم "الذاتية" ومفهوم "الاهتمام بالذات" وكيف انتقل في قفزة نوعية متجاوزاً مفهوم "اكتشاف الذات" بعد مفهوم "التعرف على الذات"، لأنّ الكتاب الجديد يقوم على فكرة أنّ الكتابة السير ذاتية لا تعني فقط السيرة الذاتية (Autobiographie) أو الغيرية (Biographie)، فحسب، ولكن هناك كثير من الخطابات المكتوبة بضمير المتكلم وكتابة حياة كائن بشري بصدق وفي مرحلة محددة أو مراحل متعددة، منها المذكرات واليوميات والتخييل الذاتي والرسائل وأدب الرحلة إضافة إلى السير الشعبية والأساطير واعترافات القسيسين والرهبان والتراجم والسير التاريخية... وهو ما أطلق عليه فليب لوجون "كتابة الذات" الذي استخدمته في الكتاب إضافة إلى مفهوم "الذاتية" وهما معاً شكلا مفهوم "المحكيات السردية الذاتية".

أتوقف معك عند بداياتك في النقد والترجمة، وكيف تطورت مسيرتك في كلا الحقلين؟

البداية الحقيقية كانت مع الشعر، لكنه شعرٌ مثقلٌ بالأفكار (بالتفكير) والتأملات المتأثرة بالأحداث الاجتماعية والسياسية وكثير من ماء العاطفة الغضة الطرية. وأول مقالة كتبتها ولم تلق النشر في الملاحق الثقافية المغربية، وعنوانها "أنطولوجيا القراءة: مقالة في كتاب الكينونة والزمان لمارتن هايدغر". ربما لم يكن اسمي معروفاً كفاية، أو لم يتوقع أحد أن أكتب في تلك السن المبكرة مقالة في هايدغر والكينونة والزمان لصعوبتهما. لكن حظيتْ كتاباتي النقدية والتنظيرية في الأدب اهتماماً في صفحات الشباب (وقد اخترت بوعي البداية من هذه الصفحات لأنني لم أكن مدعوماً بأي انتماء حزبي أو طلابي أو نقابي) وكانت مرحلة مهمة جداً في تكويني النقدي وشحذ وعيي الفكري والأدبي، لأنها جعلتني على صلة وثيقة بكل الأقلام الشابة الحيوية والمعروفة تحت مسمى جيل الثمانينيات من القرن المنصرم. هناك من حاولوا الالتفاف على المرحلة بعدما رفضهم جيل السبعينيات ولم يستطيعوا مواكبة جموح جيل الثمانينيات خاصة في تجاوزه الأشكال الأدبية السائدة وثورته على الإيديولوجيات الضيقة. هكذا كانت البدايات في مسيرة النقد الأدبي.

أما الترجمة فكانت عندي شخصية جداً ومرتبطة أساساً بالنصوص الفلسفية، وكنت أترجمها لي شخصياً أستفيد منها في دراستي الجامعية وفي تطوير خبرتي في النقد الأدبي والمعرفي. وكان أهم ما ترجمته بجد قصة لماكسيم غوركي في كتاب له بعنوان «في السجن» بعنوانها اللافت ومحتواها المثير "ما كان يفكر فيه تشيخوف" نوع من السيرة الغيرية والشهادة الأدبية والإنسانية. لتأتي بعدها ترجمات الشعر ومن أهمها ترجمة ديوانيْن نشرا وقتئذ بالملاحق الثقافية الوطنية «نشيد البراءة» لويليام بليك و«المتواليات» لفيديريكو غارسيا لوركا. طبعاً لم أنشرهما ورقياً وهما متوفران إلكترونياً على الشبكة، لأنهما ينتميان لمرحلة الشباب والبدايات.   

هل هناك اعتبارات ما لاختيارك للأعمال التي تترجمها، وما هي آخر الترجمات التي نشرتها، وماذا تترجم الآن؟

أمران أساسيان أعتقد أنهما وراء ذلك الاهتمام: ترجمة مقاطع أضمنها مقالاتي ودراساتي النقدية وميلي العاطفي والشخصي جداً، حالياً وضعت كتابين للنشر الأول بعنوان «عزف منفرد بصوتين» وهو حوارات لأوكتافيو باث، والثاني بعنوان «مناهج تحليل النص التخييلي وغير التخييلي». طبعاً الترجمة عندي تأتي في خدمة كتاباتي النقدية.

عادة ما يكون المترجم كاتباً، وصاحب إنتاج وأسلوب في ترجمته، كيف هي العلاقة بين الكاتب والمترجم في داخلك؟

من بين أهم أسباب عدم نشر ترجمتي ديوان «نشيد البراءة» لبليك ورقياً، أنني جعلت محتوى الرسالة الشعرية عند بليك رسالة شعرية عربية إسلامية (تصرفت فيها كثيراً). لذلك الترجمات التي أرتاح لها هي المتعلقة بالكتب النقدية لأنها غير ذاتية وتكون عقلانية وعلمية أكثر من الأعمال الإبداعية التي تفرض عليك التدخل ذاتياً في صياغة بعض الجمل لتناسب الجملة العربية والمعرفة والثقافة العربيتين.

هناك من يرى من الكتّاب أنّ "حركة النقد في وطننا العربي لا تواكب حركة النصوص السردية". برأيك ما هو المطلوب من النقد وما هي ضرورته أصلاً للروائي/ة؟

النقد والنقد الأدبي ضرورة حضارية إنسانية، والمطالبة بترقيتهما دليل على ارتقاء الوعي الفكري والثقافي والسياسي في المجتمع، إنّ كل من يُشَكّكُ في القيمة الجمالية والوظيفية للنقد الأدبي ويقوم بتسفيه وظيفته المعرفية والعلمية والحضارية يكون خارج المتن التاريخي. أي على الهامش، ويكون ممن يُهَدِمُ لا مَنْ يَبْنِي. لم تتطور الرواية الحديثة والمعاصرة في الغرب إلا بفضل الدراسات النقدية وخاصة عندما تبنت الجامعات الكبرى الدرس النقدي الأدبي (السردي والشعري والمسرحي والثقافي)، فارتقى وعي القراء وتجاوز مرحلة الطفولة الأدبية القائمة على الانفعال العاطفي والانطباع الذاتي غير المبرر فكرياً وعلى أحكام القيمة. لقد كان للدرس النقدي الروائي عندنا في البلاد العربية وفي المغرب مثل ذلك الفعل إضافة إلى أنه كسر الحلقة الضيقة التي انحصر فيها الوعي النقدي تقليدياً في مسألة اللفظ والمعنى والنقد البلاغي والبعد الإيديولوجي والضجيج المصاحب له الذي يتستر على ضعف إبداعيٍ وافتقارٍ إلى التجربة الإنسانية والصدق في تشريح الواقع وحسن توظيف الأدوات المنهجية في قراءة وفهم وتحليل النصوص.

بذلك يكون النقد الأدبي ضرورة للكشف من جهة على حقائق الإبداع والابتكار الجمالي والفني في الرواية الحديثة والمعاصرة، ومن جهة أخرى فتّحَ عيون المبدعين وكتّابِ وكاتباتِ الرواية على تجاربَ روائيةٍ عالميةٍ أبدعت على مستوى الموضوعات والقضايا التي تناولتها كمحتويات ومضامين، وعرفهم على تجارب قامت بإعطاء الشكل (البناء=الصيغة=الخطاب=النص) إمكانيات التعبير الجمالي بعد أن كان الشكل قالباً جامداً وقيداً للأفكار الجديدة المحدثة والمبتكرة.  

برأيك هل يختلف تقييم الناقد للعمل الروائي باختلاف الزمان والمكان؟

لا يختلف باختلاف الزمان والمكان في حد ذاتهما، ولكن يختلف باختلاف زاوية النظر، والمنهجيات النقدية المتبعة، فالناقد التاريخاني مثلاً، لا ينظر إلى النص بالطريقة ذاتها التي ينظر بها الناقد البنيوي إليه، وتختلف نظرة الناقد الذي يعتمد على القراءة النقدية التفكيكية للنص عن نظرة ناقدٍ يعتمد رؤيا هيرمينوطيقيّة تقليدية أو فلسفية. ومثال ذلك اختلاف التحليل البنيوي لرولان بارث للنص المقدس عن تحليل إريك فروم النفساني الماركسي أو تأويل القساوسة ورجال الدين وهكذا هي الحال عند اعتماد المناهج الحديثة والمناهج المجددة للدرس النقدي البلاغي القديم عندنا مِمّا يدرس تحت مسمى تحليل الخطاب أو السيميائيات والتأويلية العربيتين. 

برأيك هل استطاعت الرواية المغربية المعاصرة إنطاق المسكوت عنه؟

هناك فعلاً روايات قامت بذلك خاصة الرواية النسائية، والناظر المتفحص لمسيرة الرواية النسائية المغربية يمكنه الانتباه إلى التطور المُطّرِدِ في أعداد الكاتبات مع تجاوزهنّ مرحلة التردد والتخَفّي وراء القضايا الاجتماعية والسياسية الكبرى التي يلتبس فيها صوت الرجل والمرأة وإلى تحقّق التطور في الوعي والكتابة كما أبرزته في كتابي الجديد «المرأة وتطوير السرد العربي» عَبْرَ المفاهيم الثلاثة المحورية: الكتابة "النسائية" و"النسوية" و"الأنوثة". لقد استنطقت الكتابة الروائية النسوية والأنثوية الكثير من التابوهات الاجتماعية والسياسية والعقدية كما كشفت عن مناطق كثيرة ظلت معتمة إلى عهود قريبة جداً من تحوّل المغرب اجتماعياً وسياسياً وثقافياً وحقوقياً. أما كتابة الرواية عند الذكور فقد عرفت هذا التحوّل منذ مطلع سبعينيّات القرن الماضي وانقسمت إلى اتجاهين: رواية تاريخانية اجتماعية ورواية تجريبية، وكلاهما كشف عن المسكوت عنه السياسي والاجتماعي قبل الانتباه إلى المسكوت عنه الذاتي.  

أين تراها الرواية المغربية الآن في المشهد الأدبي العربي، وهل هناك روائيون مغاربة يستطيعون إيجاد مكان لهم عالمياً؟

رغم أنني لست من أنصار النبوءات واستقراء المستقبل إلّا أنه يمكنني التصريح بأنّ العالم العربي ثقافياً وهو انعكاس مرآوي للعالم العربي سياسياً غير واضح وفيه كثير من النفاق والمداهنة والتصريح الخطابي الواعد والواقع الفعلي المحبط. ولا أدل على ذلك الجوائز رغم أنها ليست مقياساً علمياً ونقدياً في رأيي، ولكنها خطاب يمكنه تضمّن إشارات اللاواعي الجمعي العربي، أريد أن ألفت انتباهكم إلى أنّ الرواية المغربية اليوم متنوعة ومتعددة المشارب والمرجعيات وتكتب بلغات العالم، وتقارب جل قضايا العالم والإنسان والفرد، إلّا أنّ حظها من الجوائز العربية ضئيل جداً جداً، مما ينبئ بأنّ هناك موقفاً عربياً تقليدياً يقوم على الأحكام المسبقة والتوجيهات المغالِطة للحقيقة والمغرضة لإبراز أحكام قيمة سلبية على الرواية المغربية وكذا النشاط الأدبي والإبداعي المغربي.

لكن ما يشفع للرواية المغربية أنها تواكب التطور الإنساني وتنمو عبر الحفر في محليتها المغربية وتبني متخيلها الجديد إلى جانب روائيين عرب في مختلف البلاد العربية. وهناك روايات يمكن أن تنجح عالمياً إذا تم ترجمتها إلى اللغات الحية والترويج لها إعلامياً مثل روايات ذات خصوصية محلية كروايات محمد زفزاف، وأيضاً هناك روايات عالجت موضوعات إنسانية وفكرية كروايات عبد الكريم غلاب، ثم روايات تطرقت إلى موضوعة الهجرة القانونية وغير القانونية والفردية والجماعية وهي ظاهرة إنسانية من جهة وظاهرة اجتماعية وسياسية وثقافية من جهة أخرى. وكتابة المرأة يمكنها أن تكون عالميةً بإنسانيتها دون شك. لكنّني لست حالماً، لأنني أعرف جيداً أنّ هناك حزاماً صارماً وخطوطاً حمراء تمنع الفكر العربي والسرد العربي والطاقات العربية الفاعلة من الظهور وتمنع تجلي إبداع العقل العربي الخلاق.

كيف ترى المُنجَز الروائي العربي عامة، والمغربي خاصة، من حيث الأسلوب واللغة وبنية وحداثة النص والرؤى والمقاربة للواقع؟

ما يقلقني في الخطاب الروائي العربي والمغربي تلك الروايات التي تكتب تحت الطلب طمعاً في الحصول على الجوائز أو التهافت وراء النماذج التي نسميها اليوم "شعبوية" وهي ثقافة سطحية تملأ المتون الروائية بالكثير من الحشو وبكلام المقاهي العامة ومواقع التواصل الاجتماعي وتأثيراتها على العقول المحدودة وتلك التي لا تؤمن بالخصوصية المحلية والثقافية أو المتخيل الخاص وبالهوية والكينونة...

أما الكتّاب والكاتبات الحق الذين يجتهدون في بناء أفق جمالي سردي يستنطق الكينونة العربية الإسلامية ويسعى بجد نحو الارتقاء بالذوق الجمالي وبالوعي الفردي والجمعي والمنافحون على الحقوق الإنسانية العامة انطلاقاً من التركيز على الاختلاف كصفة مميزة ويرفضون الذوبان في التماهي والتطابق والتماثل والذيلية العمياء، فهم المعول عليه. لأنّ الرواية في نهاية المطاف نوع من أنواع التعبير عن الذات والمجتمع والوجود في مرحلة وجودها التاريخي.