خلال أيام قليلة بعدها، قُتل عصام زهر الدين، لأجد جميع دعاة فصل الرياضة عن السياسة، قد فصلوا زهر الدين عن الرياضة هذه المرة، وانتحبوا فقيدهم الحضاري والوطني، الذي نكّل بأجساد السوريين بالسكاكين قبل أن تولد داعش بسنوات.
«نحن عشرين مليون بني آدم، ما عرفنا نلاقي 11 شخص يمثلونا» صرخ مدرس اللغة الإنكليزية، محتجاً على رغبتنا العارمة بتسريع الدرس خلال دورة صيفية من أجل لعب كرة القدم، على ما أذكر.
وجدنا ملاحظته ذكية للحقيقة، فضحكنا. "هاد شي ببكي" تابع الأستاذ منفعلاً، شعرت بالإهانة، وأننا شعبٌ مُهان، لكن أكثر ما أرعبني هو أننا لم نلاحظ هذه الإهانة أساساً، لم نعتبرها خارج المألوف والاعتيادي، شعبٌ لا يحق له أن ينوب عن نفسه، ولا ممثل له، شعب ما بعد دكة الاحتياط وغرفة تبديل الملابس حتى.
لماذا لم تنجح جيناتنا المليونية حقاً بانتخاب 11 رجلاً فقط؟! بالرغم من تضحياتنا الجسام بجلدنا الرقيق على الركب والأكواع، والذي كان يتجدد مع كل لعبة جديدة في الحارات، أو في باحات المدارس التي كنا نقفز إليها من أعلى الأسوار كاللصوص، نسرق من المدارس متعتنا المرصودة كالسحر في مساحاتها الفارغة، عرّافون أطفال يستحضرون أحلامهم بكرة كاوتشوك وطقوس بسيطة.
كانت "الملاعب" التي خططناها بما ساد من أعراف بيننا، مساحتنا التخييلية الوحيدة التي جلبت الحلم مكبلاً بالطبشور إلى أرض الواقع، والتي كنا نخرج منها مهزومين أيضاً مهما سجلنا من أهداف، مهزومين في أرض أحلامنا، لم تكن رغبتنا بتحويل الحجارة وعلب المشروبات الغازية إلى كرة قدم، سوى انعكاس لرغبة أصيلة بالركل، الركل بقوة وغضب لهذا العالم الذي يضيق عن مساحة ملعب.
فوز إيطاليا بكأس العالم عام 2006، كان أشبه بثورة للمهمشين أمثالنا، انتصارٌ على كأس ”سيريتاتيل“، الذي سأل منظموه اللاعبين عن واسطتهم قبل اختبار أدائهم لأنهم لا يريدون ”تضييع الوقت“، انتصارٌ إنساني بأحذية أجنبية على كؤوس الوطن جميعها، وبطولات طلائع البعث.
دوماً كانت إسقاطات أحلامنا بالمتعة تقع خارج حدود الوطن، أردت في طفولتي أن أصبح ”الكابتن ماجد“، نصيحة أحد أفراد عائلتي بأن أكون ”الكابتن علي“ كانت مملة ومنفرة للغاية، الكابتن علي، شيء شبيه جداً بالمقدم علي، شيء مفرط بواقعيته أردت الفرار منه، الفرار من اسمي وارتباطاته، اليوم حتى عندما أتذكر ”الكابتن ماهر“ أسمع صوت خفيض جداً في عقلي يهمس ”الأسد“.
خلال الثورة في سوريا نجح مونديال 2014 أيضاً بتحقيق ”منطقة زمنية عازلة“ لنا، نحن سكان العاصمة والمناطق الريفية الخاضعة لسيطرة النظام، فبفضله كنا نستطيع التحرك ليلاً في أوقات متأخرة جداً دون أن يعترضنا أحد، مرّة أخرى يجيد غرباء ركل ما نشتهي ببراعة أكثر من أحذيتنا، ولا نتمنى لـ ”مونديالهم“ أن ينتهي.
”افصلوا الرياضة عن السياسة“، بهذه الشعارات امتد النظام وموالوه كالخلايا السرطانية ليعبثوا بمونديال 2018، بدءًا من مرحلة التصفيات، دفاعاً عن منتخبـ ”ـهم“ المدني والوطني، لكن معارضة الخارج ومن بقي منهم حياً في الداخل، أصروا على تعكير الصفو العام، حتى جاء السيد الرئيس وفصل الرياضة عن المجتمع المدني برمته، ملحقاً إياه بالقوات الرديفة لبواسل الجيش العربي السوري!
خلال أيام قليلة بعدها، قُتل عصام زهر الدين، لأجد جميع دعاة فصل الرياضة عن السياسة، قد فصلوا زهر الدين عن الرياضة هذه المرة، وانتحبوا فقيدهم الحضاري والوطني، الذي نكّل بأجساد السوريين بالسكاكين قبل أن تولد داعش بسنوات.
هكذا بدأت أفهم أكثر سبب ابتعادي عن الرياضة ومتابعتها، رغم أنني لم أكن يوماً لاعباً بارعاً، وتراجع قدرتي عن الركض خلف الكرة من يوم كامل إلى ربع ساعة في أحسن الأحوال، مستبدلاً إياها بالتبغ والتنفيخ، فكلما كبر الإنسان قليلاً تقلصت مساحته المسموح فيها بالركل.
مؤخراً كنت أفكر باستخدام مباريات كرة القدم في مجال التحليل النفسي، ففي لعبة جمعتني بعدد من السوريين في إسطنبول، شاركنا بها أحد الإداريين من مؤسسة معارضة، كان هذا الشخص ”البطل“ الوحيد في اللعبة، الذي يُسدد الكرات من أي مسافة يشاؤها، ويُفضل أن يخسر الكرات لصالح منافسيه، على أن يمررها لأحد زملائه، يمكننا بهذا الشكل البسيط مثلاً أن نفهم مصير مؤسسة ”البطل الإداري“ ومصير جميع زملائه في العمل مستقبلاً.
ليست الأحذية العسكرية وحدها ما تستطيع مسح ملاعب الطبشور التي يرسمها الأطفال، هناك عقليات ستحرص على تكرار ذلك كلما تخلصنا منه.
هذا المقال هو جزء من ملف "أبطال الملاعب" وهو من إعداد تمّام هنيدي.