التّراث/الهويّة/الأغنية

2018-06-12 10:00:00

التّراث/الهويّة/الأغنية
El-Funoun © 2009

يعرف الكثير من الفلسطينيين العديد من أغنيات التراث بشكلها المُحدّث، كإنتاجات جديدة، ويحفظ البعض الكلمات الواردة فيها ويغنّيها كما هي في هذه النّسخ، لكن لا أعتقد أنّه يسهل إيجاد من يغنّيها بشكلها الأصلي، أو بواحد من أشكالها الأصليّة، الجماعيّة، كتراث قديم لا كإنتاج فنّي جديد. يعرف أحدنا النّسخة التحديثيّة لأغاني التراث ولا يعرف أغاني التراث ذاتها.

يرتبط التراث بالهويّة الرّاهنة لأي شعب بالقدر الذي تتعرّض فيه هذه الهويّة لمحاولات فصل بين راهنها وماضيها. هنا، لا يكون التراث مجرّد صورة سابقة للهويّة الراهنة، تبتعد عنها زمانياً وحسب، بل يصير حاضراً، يصير مُستعاداً ليُقرن بشكل حي بهذه الهويّة، حامياً لها مما تتعرّض له من محاولات فصلها عنه، فيستعيد الشعب القابع تحت الاحتلال تراثه كحامٍ له ولهويّته الرّاهنة، لأصلانيّته وأحقّيته في أرضه، فلا يكون تراثه مجرّد ماضٍ.

التّراث، فلسطينياً، حارس لهذه الهويّة في صراعها اليوميّ مع احتلال يحاول جاهداً محوها وإخراجها عن سياقها التاريخي والجغرافي، بفصلها عن علاقتها بماضيها، أي فصل الهوية المعاصرة للفلسطيني عن التراث المقترن بالأرض الفلسطينية.

وفلسطينياً كذلك، يحضر التراث، أكثر ما يحضر، في الأغنيات، فالأدب والسينما وغيرها هي فنون لاحقة لمرحلة تشكّل الهويّة الفلسطينيّة.

يبقى لدينا الغناء والموسيقى، كفنون جماعيّة شعبيّة كما هي فرديّة. لكنّ التراث إجمالاً نتاج شعوب وليس أفراد، أي أنّ الأغاني التراثيّة الفلسطينية هي نتاج عموم الشعب أو مجموعات منه، قد تكون بدأت بواحد واستُكملت بآخر وزيد عليها من آخر، إلا أنّها، بعد تراكم إعادات الإنتاج لها، نتاج عموم الشعب.

وما يجعلها نتاجاً جمعيّاً هي المناسبات التي اقتُرنت الأغاني بها، أو التي كانت سبباً أو مناسبة في أن تُغنّى ويُعاد غناؤها، كالأفراح والأحزان، الزّواج والولادة والحصاد والمطر، الموت والحرب، وغيرها. وهذه كلّها مناسبات جماعيّة، تُردّد أغنياتها جماعةً، ولا يحتاج أحدهم ليكون موسيقياً كي ينفخ في اليرغول أو النّاي أو القربة أو يضرب على الدربكّة أو الطّبل، مرافقاً لهذه الأغنيات. في كل عائلة وحارة هنالك من يجيد النّفخ وهنالك من يجيد الضرب، كما أنّ هنالك من يجيد الرّقص، الدّبكة تحديداً، وهؤلاء كثر، كونها مقرونة بالأغنيات كما يُقرن بها لحنها وكلماتها، وكذلك مناسباتها.

اليوم، في حاضر الهويّة الفلسطينيّة، تُردّد بعض هذه الأغنيات، في الأعراس تحديداً، إنّما بتقشّف يتفاوت حسب المجتمع الفلسطيني الذي يتم إحياء العرس فيه، في فلسطين أو خارجها، في المخيّمات أو في الجوار، في أوروبا أو في أميركا. لكن اليوم كذلك، يتم إعادة إحياء لهذا التّراث بفعل فردي، لا جماعي كما كانت دائماً.

وإعادة الإحياء هذا ينحصر في تحديث التراث، أو نقله بشكل جديد، أو إدخال آلات موسيقيّة غريبة عليه، أو نوتات موسيقيّة، أو بتغيير الكلمات والطريقة التي تُغنّى بها، وغيرها مما يمكن أن يُسمّى تحديث التراث، أو تجديده، ما يصل إلى إدخال للجاز.

والفلسطينيّون، للظرف التاريخي الذي تعيش فيه أجيال من هذا الشّعب، يستحضرون التراث في فنّهم الرّاهن أكثر من غيرهم، وليس هذا الاستحضار سوى تأكيد (أساساً) على هويّة هذا الشعب الثقافية، وأنّ لهذه الهويّة ماضٍ، وأنّ هذا الماضي كان على هذه الأرض، وأنّها جزء طبيعي من بلاد الشّام، ثقافياً واجتماعياً، فكان التراث حاضراً حتى في أكثر النّتاجات الفلسطينية الحاليّة تجريبيّة وحداثة.

الأمثلة على ذلك عديدة، قد تكون أبرزها فرقة «الفنون الشّعبية الفلسطينية» التي تحافظ على سمة الجماعيّة في أداء أغنياتها والتي عادة ما ترفقها برقص جماعي كذلك، وهنالك العديد من الفرق الأخرى التي تعيد إحياء التراث جماعياً. لكن فردياً هنالك ريم كيلاني التي أضافت للتراث الغنائي أبعاداً جديدة في أدائها، مدخلةً الجاز إليها، هنالك أمل مرقس والراحلة ريم بنّا، تغنّيان تراثاً فلسطينياً مُحدّثاً كذلك، للتحديث لدى مرقس طابع شرقي، ولدى بنّا غربي. هنالك سناء موسى، وهي أقرب من غيرها إلى النُسخ المُغنّاة قديماً، ولإنتاجها الغنائي، كما هي الحال مع كيلاني، بعدٌ بحثيّ. هنالك فرقة «دام» التي أدخلت الأغاني التراثية إلى الرّاب، وهنالك «روح٤٧» التي استحدثت أسلوباً خاصاً جداً بها كان التراث أحد مكوّناته، وغيرهم كثر، ويصعب إيجاد مغنٍ فلسطيني لم يغنّ التّراث، بخلاف آخرين في بلاد أخرى حيث يكون غناء التّراث اختصاصاً، وليس مُعمّماً على المغنّين باختلاف نوع الغناء وجنسه لأسباب غير فنّية.

لكن لكلٍ من هؤلاء أسلوبه فيما يمكن أن يراه تحديثاً للتراث، هنالك من أدخل آلات عديدة لم تُستخدم في التراث الغنائي قديماً، مؤدياً إياها مع فرقٍ موسيقيّة، هنالك من أعاد غناءه بأسلوب خاص مدخلاً تغييراته التي تميّزه عن غيره، أمّا التراث ذاته، كما غُنّي قبل موجات التحديثات الفرديّة، فلا أحد من هؤلاء، ولا غيرهم، بعلْمنا، غنّاه كما هو، كما غنّاه شعبنا، أو نساؤنا تحديداً، على مدى عقود طويلة، كما ماتزال تحفظه جدّاتنا اليوم، ما ورثنه عن أمّهاتهن وجدّاتهن.

يمكن إيجاد تسجيلات للتراث المُغنّى في الانترنت، وهي قليلة وقديمة وبجودة منخفضة لنساء مسنّات مجهولات تغنّين، جماعةً، واحدة من أغنياتنا التّراثيّة، دون اجتهادات شخصيّة في تحديثه، تراثنا بصورته الأصليّة. يمكن الاستماع إلى هذه التسجيلات لكنّها تبقى متفرّقة وضائعة ومجهولة المصدر، تحتاج إلى الحفظ والتوثيق والدّراسة وإعادة الغناء بشكل احترافي وعلميّ يعيد إحياءها كتراث جماعي لهذا الشعب، كما هي.

يعرف الكثير من الفلسطينيين العديد من أغنيات التراث بشكلها المُحدّث، كإنتاجات جديدة، ويحفظ البعض الكلمات الواردة فيها ويغنّيها كما هي في هذه النّسخ، لكن لا أعتقد أنّه يسهل إيجاد من يغنّيها بشكلها الأصلي، أو بواحد من أشكالها الأصليّة، الجماعيّة، كتراث قديم لا كإنتاج فنّي جديد. يعرف أحدنا النّسخة التحديثيّة لأغاني التراث ولا يعرف أغاني التراث ذاتها.

تحديث التّراث ضرورة (ثقافية وجمالية)، دمجه مع الغريب عنه من أساليب غناء وأنواع موسيقيّة وآلات كذلك ضرورة. لكن أين هي النّسخة المتوارَثة؟ هل من جهة قدّمت التراث كما غنّته جدّاتنا؟ لا أعتقد. وليس هذا النّقص في الثقافة الفلسطينية، أو في النّتاج الثقافي الفلسطيني، في صالح دفاعنا عن تراثنا في مواجهة الرّواية الصهيونية التي لا توفّر فرصة للفصل بين حاضر الشعب الفلسطيني وماضيه، أو بين هويّته وتراثه.
 

 

هذا المقال هو جزء من ملف "الأغنية الفلسطينيّة، سردية الناس والمكان" إهداء لذكرى الفنانة الفلسطينيّة ريم بنّا. وهو من إعداد رشا حلوة.