في التناقض ونفي النفي

2017-03-03 01:00:00

في التناقض ونفي النفي
"علب حساء كامبل" . للأميركي آندي وارهول . ١٩٦٢

التناقض هو أسّ الجدل، ونقطة البداية في الصيرورة، التي هي "الحركة الدائبة" التي تشكّل المطلق الوحيد كما تشير الماركسية. حيث أن أي ظاهرة تتشكّل من بنية متناقضة أصلاً. وهذا التناقض هو المؤسِّس للحركة الدائبة، للصيرورة. لهذا فإن غيابه يعني الفناء.

هذا ما اكتشفه هيغل، وأصبح أسّ الجدل الماركسي. لكن لا بد من التمييز بين الجدل والمنطق الصوري، حيث أن المنطق الصوري يقوم على "التناقض" كذلك، وهو التناقض الذي يفصل بين الأشياء، ويجعل التعادي هو أسّ العلاقة بينها. إن منطق أرسطو يبدأ من تبسيط يقول: هناك أ وهناك ب، حيث أن أ لا يمكن أن تكون ب، بل هناك أ أو لا أ. التناقض هنا خارجي، حيث أن أ هي ثابت، وكذلك ب، وهما كذلك دون أي علاقة بينهما. لهذا ليس من وجود إلا لـ أ أو لا أ. وهذا المنطق يرفض الحركة بل يقوم على عنصرين: الشكل والسكون. وبالتالي يصبح المنطق الحاكم هو مبدأ: إما/أو (أو خير/شر).

بينما قام هيغل، الذي اعتبر أن المنطق الصوري هو الشكل الأولي لعمل آليات الذهن (التي هي بحسبه جدلية)، حيث لا بدّ من تحديد أ وب (مثل البرجوازية والبروليتاريا) قبل الدخول في فهم الصيرورة، قام بخطوة مهمة بدأت باعتبار أن التناقض هو تناقض داخلي، أي داخل البنية (أي بنية)، وأن التناقض بين أ و ب، والذي يفضي إلى نفي أ إلى ب (أي الفريضة والنفي) يفضي بالضرورة إلى تضمّن أ لـ ب، وهو ما أُسمي نفي النفي. بالتالي فقد أسقط أحد عناصر منطق أرسطو القائل بأن هناك أ أو لا أ، ليكون هو أ ولا أ في الوقت ذاته. فـ أ هي أ ولا أ في الوقت ذاته بعد أن تتضمن ب.

الآن، يمكن القول بأن الماركسية اعتمدت جدل هيغل كما أشار ماركس في المقدمة الثانية للجزء الأول لرأس المال، وهو ما عمل على شرحه إنجلز في كتاب "ضد دوهرنغ". ولهذا أشار إنجلز (بمعرفة ماركس) إلى ثلاثة عناصر هي "أسس" الجدل المادي. والعناصر هي التناقض، والتراكم الكمي والتغير النوعي، ونفي النفي. وهي العناصر ذاتها التي شكلت جدل هيغل. بالتالي فإن الجدل المادي يقوم على فهم الواقع من خلال فهم آليات هذه العناصر معاً، وليس الفصل بينها، لأنها معاً تشكّل الصيرورة.

لكن يبدو أن فهم الجدل قد أصابه التشوش بعد إنجلز. حيث وجدنا أن بليخانوف يركّز على مبدأ وحيد (أو عنصر واحد) من هذه المبادئ، وهو التراكم الكمي والتغيّر النوعي. بينما قام ستالين بشطب نفي النفي كما فعل بليخانوف. وركّز ماو تسي تونغ على التناقض، ليكون هو العنصر الوحيد الذي يحكم الجدل. ورغم أهمية التناقض في الجدل، حيث أنه أسّ الجدل كما أشرت قبلاً، فإن فصله عن مجمل العناصر الأخرى يقود حتماً إلى تحكُّم المنطق الصوري. حيث سيعود الأمر إلى مبدأ: إما/أو، وأن أ لن تكون ب، حيث هناك أ أو لا أ. وبهذا يعود التناقض شكلياً، أي خارج بنية الظاهرة، ولا يؤسس لفهم الصيرورة، بالضبط لأنه يقطع بين طرفي التناقض. والقطع يعني: إما/أو، أي إما هذا أو ذاك، وبالتالي لا يفضي إلى تركيب يتضمن طرفيه. وهي الحالة التي تؤسس لنقلة نوعية إلى الأمام. وبهذا لا تكون هناك صيرورة، أي حركة إلى الأمام. والصيرورة هي عملية تقدّم وتحوّل معاً. بل ينفي طرف الطرف الآخر ليستقلّ بذاته، ويبقى في مكانه دون تقدم إلى الأمام.

إن التناقض هو محفِّز التقدم إلى الأمام، لكن هذا التقدم يخضع للعنصرين الآخرين. حيث أن حسم التناقض يفرض تحقيق التراكم في طرف أكثر من الآخر، وبالتالي وصول الصراع إلى لحظة تجعل هذا الطرف قادراً على نفي الطرف الآخر. وهنا لا يكون هذا النفي هو نهاية المطاف، بل يكون خطوة تفرض تضمن الطرف الأول لكي يكون ممكناً الانتقال إلى حالة نوعية جديدة. هذا الأخير يسمى نفي النفي، حيث تعود الحركة إلى الأصل متضمنة النفي، وهي بذلك تحقق التقدم. وبهذا تتحقق الصيرورة.

إن التمسك بمبدأ التناقض فقط دون المبدأين الآخرين يعيد إلى المنطق الصوري، حيث لا تراكم في كل من طرفي التناقض لكي يتحقق الحسم، ومن ثم لا إمكانية لتحقيق نفي النفي الذي هو ما يشكّل النقلة النوعية في الصيرورة. بالتالي تنتفي الحركة التي هي المطلق حسب الماركسية، ويسود المنطق الصوري، حيث الشكل والسكون. فيصبح كل تحليل شكلياً، و"ثابتاً" منقطعاً عن طابعه التاريخي، وعن حركية الواقع، عن انتقال الواقع من ماضٍ إلى راهن إلى مستقبل. وبالتالي يصبح التحليل بحاجة إلى مسبقات لكي يقيس الواقع عليها، هذه المسبقات التي تصبح هي القوانين التي لا بد للواقع من أن ينحكم لها، وتكون مستمدة من نتائج تحليل ماركسي ما بمعزل عن المنهجية الماركسية التي تُنحّى جانباً. وفي هذه الوضعية يعود مبدأ التناقض إلى وضعيته في المنطق الصوري، حيث تقاس الأمور وفق: إما/أو كما شرحت الأمر قبلاً. هنا تسقط الماركسية ويسود المنطق المثالي، ويتكرّس منطق أرسطو بمعزل عن كل التطور الذي أتى به هيغل ثم ماركس وإنجلز، هذا التطور الذي حقق النقلة النوعية في علم المنطق، حيث جرى تجاوز منطق أرسطو، لكن مع تضمنه. ولقد عنى التضمن هنا اعتبار المنطق الصوري هو الأولولية التي يبدأ التحليل منها، لأنه يعني تحديد الأشكال في سكونها. وحيث أن الجدل المادي يبدأ من تحديد الأشكال في سكونها لكي يصل إلى الجوهر (أو المضمون). إنه يبدأ من الأشكال ليتوغّل إلى العمق، وهو في هذا المسار يكشف الواقع بكل تناقضاته.

في المنطق الصوري التناقض بين أ وب هو تناقض أبدي وخارجي، حيث هناك أ وهناك ب، ومن ثم هناك أ أو لا أ. لكن في الجدل المادي فإن التناقض بين أ وب هو تناقض داخلي، يؤدي إلى نفي ب لـ أ، ومن ثم لتعود أ متضمنة ب، بالتالي هناك أ ولا أ معاً. وكما أشرت فإن هذه الصيرورة من حسم التناقض بين أ وب لمصلحة ب، ثم إعادة بناء العلاقة بحيث تتضمن ب في أ، تفرض متابعة عنصر (أو مبدأ) التراكم الكمي، لأن التراكم يتحقق في طرفين، لكن لكي يحسم يجب أن يتحقق في ب بشكل أكبر، ومن ثم يعيد التراكم ذاته تحقيق نفي النفي. هذه هي الصيرورة التي تعبّر عن مجمل فاعلية الجدل المادي بعناصره الثلاث. هي حركة الواقع المجرَّدة (في الفكر) في العناصر الثلاث، هذه العناصر التي بدورها تساعد على فهم حركة الواقع، هي مؤشّر فهم حركة الواقع، أي الصيرورة.

إن اختزال الجدل في عنصر التناقض فقط يعني البقاء في حظيرة المنطق الصوري، وبالتالي البقاء بعيداً عن هيغل وخارج الماركسية. فقد صاغ هيغل قوانين الجدل، حيث مَحوره حول: فريضة - نفي - تركيب (أو نفي النفي)، فهذا هو مسار ارتقاء الفكر، وهو مسار ارتقاء المجتمعات. وبالترابط مع ذلك كان التناقض في جوهر هذه الصيرورة، وكذلك التراكم الكمي الذي يفضي إلى تغيّر نوعي. ولقد أوضحها إنجلز في كتاب "ضد دوهرنغ" الذي قرأه ماركس وأسهم فيه، وصدر وماركس على قيد الحياة، حيث بلور الجدل في ثلاثة قوانين (أو عناصر)، وهي: التناقض، التراكم الكمي والتغير النوعي، ونفي النفي. ولقد شرحت قبلاً طبيعة الترابط بين هذه القوانين (أو العناصر)، وهو الترابط الذي يشكّل الصيرورة، التي هي حركة المجتمع.