أربعة أفلام من لبنان ومشاهَدة واحدة

2016-10-18 05:07:48

أربعة أفلام من لبنان ومشاهَدة واحدة
دارين حمزة في

كان الأمر مجرد فضول حين بدأت أحضر فيلم "حبة لولو"، ولكن بعد أن انتهى لم أستطع الخروج من جو الفيلم اللبناني فأحببت أن أشاهد فيلماً آخر فاخترت فيلم "عصفوري"، وبعدها فكرت؛ لماذا لا أحضر فيلماً ثالثاً، وأكتب مقالاً عنوانه "ثلاثة أفلام من لبنان"، فحضرت فيلم " فندق بيروت"، وبعدها وجدت نفسي لا أستطيع مغادرة هذه البيروت، فحضرت فيلم "قصة ثواني" وما كان يجب علي أن أفعل ذلك على الإطلاق، فقد وقعت في الفخ..!

الأفلام الثلاثة الأولى جميلة، ويمكن القول بأنها تحمل خروجاً عن النمطية السينمائية للأفلام العربية الروائية الحالية، فالجرأة التي يقدمها الفيلم اللبناني تجعله يتغلب على العديد من التفاصيل الدرامية الساذجة التي تجدها في السينما المصرية لترقيع ازدواجية أخلاق المجتمعات العربية، في حين أن الفيلم اللبناني متناسق مع بيئته ومجتمعه وصورته، ولا يعتبر الغسيل القذر لمجتمعه قذراً بل جزءاً من حياة بشرية يجب إظهارها سواء على مستوى السيناريو أو الصورة أو الحبكة.

وعلى الرغم من الاختلاف بين فيلم "حبة لولو" و"عصفوري" وفيلم "فندق بيروت"، لكن هناك تفاصيل متكررة تسري بين الثلاثة كالحارة والجيران والأصدقاء، فتشعر أن أصل الحميمية العربية لبناني حتى في خضم الحرب.

"حبة لولو"

إن الهارموني في هذه الأفلام متسقة مع الحياة دون تجمّل أو مبالغة أو أيديولوجيا طارئة على السينما، ففيلم كـ"حبة لولو" (2013)، للمخرجة ليال راجحة، يقدم خلطة عجيبة من تابوهات مجتمعية؛ فالبطلة "ابنة غير شرعية" تعيش مع والدتها، وجارتهما تعمل كـ "مومس" ما يجعل المتلقي محتاراً إذا كان عليه تقبّل ما يراه، خاصة أنه يحمل ذاكرة عربية نمطية مما قدمته السينما عن هذين النوعين من النساء، لكنك تكتشف أنك وحدك غير المتقبل لهذا الأمر، فجيرانها يتقبلونه، وبائع الفاكهة تحت منزلها، وأصحاب المحال في المنطقة.

ربما يكون هذا المسار الطبيعي إذا كانت البيئة تحترم الحرية الفردية وتقدم الخيار ذاته للجميع، لكن لا أريد أن أحمل "حبة لولو" أكثر مما يحتمل، فهو أيضاً ذو طابع كوميدي، وشخصية "المومس" التي قامت بها الممثلة لورين قديح، لا تثير فيك سوى الضحك وأنت تشاهدها سواء وهي تستعرض جسدها، أو تبتز أحد الرجال أو لاحقاً حين تصيبها المأساة العجائبية فتموت على سلم العمارة بسبب آلام المخاض.

هل النساء الحقيقيات في المجتمع اللبناني ـــ لسن اللواتي في الكتب أو الأفلام ــ يستطعن مواجهة عنف النظرة النمطية للمرأة أم أنهن ضحايا للجريمة والعادات والمال؟ بمعنى آخر، إذا كان الفكر أثّر بالسينما، فهل تترك السينما أثرها على الواقع أم أنها في عالم آخر؟!

البطلة وهي الممثلة زينة ملكي كانت ثقيلة قليلاً على الدور، ومع ذلك قدمت المطلوب منها كممثلة، أما والدتها في الفيلم، فاتن عبدالله، وهي الممثلة القديرة تقلا شمعون فقد لعبت دور المتسلطة التي تحاول ضبط الأمور بإخفاء الكثير من الألم داخلها في مجتمع ظلمها بعد أن رفضت إجهاض حملها نتيجة اغتصابها في الحرب الأهلية بلبنان.

وهنا يعرض الفيلم قضية شريحة مهمة من أطفال الحرب مجهولي الآباء ولكنها ليست القضية الأساسية على الإطلاق، بل يركز الفيلم على المجتمع المطحون الذي يفرح بعلبة عطر مقلدة.

"عصفوري"

فيلم "عصفوري" (2013)، لا يغمرك بأجواء النساء المحبَطة من خذلان الرجل كما سابقه، فهو يناقش قضية سياسية عامة تتعلق بإعادة إعمار بيروت بعد الحرب، ولكنه يحمل التفاصيل الحميمية ذاتها للجيران، وتتبع مصائرهم على مر الأعوام.

 لذلك فبطل الفيلم، كريم، ويلعب دوره الممثل وسام فارس الذي يأتي من أمريكا حاملاً الكاميرا ليصور الناس والمدينة، لا يشكل الشخصية الرئيسية في الفيلم، بقدر ما كان حلقة الوصل ليجمع بين الماضي والحاضر لهؤلاء الجيران وهذه العمارة التي هي مرتكز الحبكة، لكن الجميع يريد التخلص منها واستبدالها باسمنت بيروت الجديدة، وإزاحة عائلة كريم المتمسكة بعمارتها على عكس الجيران الذين باعوا شققهم، وانتقلوا لمكان أكثر حداثة. 

ويقدم الفيلم الذي أخرجه فؤاد عليوة ما تقدمه جميع الأفلام اللبنانية؛ علاقات الحب المنفتحة التي يباركها الجميع وعلاقات الجنس من أجل المصالح وهي غير محاربة مجتمعياً، بَيد أن هناك استحقار واضح لها.

إنها ذاتها الدعوة التي تضمنتها كتب أغلب الروائيين اللبنانيين فترة السبعينات والثمانينات، "نعم للحب ولا للجنس من أجل الجنس"، إن هذه الأفلام تعيد إنتاج فكر وأدب له ثقله ومدرسته، لذلك لن يكون هذا النوع من الأفلام المستقلة الواعية ماراً، حتى لو كان بخفة "حبة لولو".

 طبعاً نهاية فيلم "عصفوري" تشبه نهاية معظم الأفلام التي يلعب فيها الوعي السياسي والاجتماعي دوراً كبيراً، فلا نعرف كيف انتهى الأمر بالعمارة سوى أن كريم لا يزال مع حبيبته يشربان القهوة في البلكون، والعصافير مهاجرة في السماء.

فهل الصورة الأخيرة تعني أن وحوش المقاولات تكالبوا على هذا المبنى الذي يحمل روح المكان وذكريات العمر، وقصة أول سيجارة بالسر؟ وحكاية الزوج المسلم الذي قاتل ليتزوج محبوبته المسيحية لكنهما لم يعيشا "بتبات ونبات"، والشاب الذي لم يحقق أحلامه، فسافر إلى فرنسا وكان يستمع في الطريق لوداع أفراد عائلته المسجل على شريط تسجيل.

"فندق بيروت"

أما فيلم "فندق بيروت" (2011)، وفي رواية أخرى "بيروت بالليل" للمخرجة دانيال عربيد، فقد كان من الصعب فهم جميع حواراته، فقد اهتم القائمون عليه بأن يحوي ترجمة الحوار باللغة العربية إلى الفرنسية ولكن ليس العكس، ما يترك سؤالاً هاماً؛ مَن الجمهور الذي صُنع لأجله الفيلم؟

وهو فيلم جريء على الرغم من أنه ينطلق من النمطيات ذاتها للفيلم اللبناني؛ المرأة والحرية والحرب وما فعلته الأخيرة بتركيبة المجتمع، فهو يسرد قصة هذه المغنية المغمورة "زُهى" والتي تغني بالفصحى في ملهى ليلي، ويعجب بها محامي فرنسي وتبدأ بينهما علاقة حب أثناء انفصالها عن زوجها الخائن الذي يبدأ بمراقبتهما، ولكن ليس وحده، فالأمن اللبناني يعتقد بأن الفرنسي جاسوس إسرائيلي، وهكذا تتفتح عيون كثيرة على قصة حبهما التي تشهدها إحدى الغرف بفندق بيروت.

يستعرض الفيلم حياة الليل لفتاة تغني، وليس أكثر من ذلك، فهي ليست عاهرة، لكنها تعاني من طمع الرجال بها والفهم الخاطئ لمهنتها حتى في المجتمع اللبناني الذي كان ولا يزال حاضنة للفن والمطربات ونقطة انطلاق المواهب.

 إن الفيلم يستعرض تناقضات المجتمع الذي يستحقر فنانة من الطبقة المتوسطة، ويحاكم خياراتها في الحياة وسط رقابة والدتها وزوجها وعمها والأمن والدولة فكل هؤلاء يعيشون معها قصة حبها.

إنه فيلم صريح ليس فقط بمشاهده العاطفية التي كانت سبباً في منع عرضه داخل لبنان وبلاد عربية أخرى، ولكن أيضاً في عمق طرح قضية المرأة وحريتها في اختيار شريكها ونظرة المجتمع إليها خاصة حين تكون المرأة فنانة.

 وهذا الوعي في طرح صورة المرأة في السينما اللبنانية، لم يأتِ مصادفة بل يعود لتراث أدباء وأديبات ونضال طويل لنصرة قضايا حقوقية، فالسينما الجيدة تصعد من الورق الجيد وليس العكس.

إلا أن هذا النوع من الأفلام يترك تساؤلاً مهماً؛ هل النساء الحقيقيات في المجتمع اللبناني ـــ لسن اللواتي في الكتب أو الأفلام ــ يستطعن مواجهة عنف النظرة النمطية للمرأة أم أنهن ضحايا للجريمة والعادات والمال؟ بمعنى آخر، إذا كان الفكر أثّر بالسينما، فهل تترك السينما أثرها على الواقع أم أنها في عالم آخر؟!

"قصة ثواني"

لا ينتمي الفيلم الرابع "قصة ثواني" للمخرجة لارا سابا إطلاقاً إلى الأفلام السابقة، فمن الواضح أنه فيلم تجاري درامي، يهدف إلى جذب أكبر عدد من المشاهدين بالتركيز على المأساة ووحشية العشوائيات الفقيرة في لبنان، وأن "لبنان من فوق غير لبنان من تحت"، وهي رسالة مهمة لكن الفيلم لم يقدم أي معالجة سينمائية سوى عرض هذه الحالات التي أحيانا تجرح المُشاهد بأقدارها المتعثرة، فهو يعرض ثلاث حكايات تتقاطع في أول الفيلم بحادث سيارة. زوجان غنيان يعشقان بعضهما لكنهما يتمنان طفلاً، وأم تعتاش من الدعارة وتستغل في مهنتها جسد ابنها الطفل، وفتاة جامعية يموت والدها ووالدتها في الحادث وتبيع جسدها بعد أن تفشل في إيجاد عمل، وتتوازى هذه القصص وصولاً ليوم الحادث.

لم ينجح الفيلم بإقناع المُشاهد بقصصه الثلاث، فمن الصعب وصفه بأنه يحمل قضية، كما أنه لا يؤثر بمتلقيه رغم مآسي أبطاله الكثيرة والكبيرة، فقد ركز على التكنيك والذي كان عبارة عن تقليد باهت للفيلم المكسيكي العبقري الذي أنتج عام 2000 Amores Perros.