نهاية العالم حسب اكزافييه دولان

2016-10-17 05:35:26

نهاية العالم حسب اكزافييه دولان

بعد فيلمه الأخير المأخوذ عن نص المسرحي الفرنسي جان لوك لاغارس "نهاية العالم ليس إلا"، يبدو أن مزاج دولان الإخراجي الاستثنائي في تشكيل صورة ما عن العلاقات الإنسانية أوصله إلى مرحلة ناضجة لفهم وتشكيل صورة فريدة، ترجمها مرة أخرى بأكثر حالاتها استعصاءً  لتتمحور حول كل ما لا يقال.
فدولان قرر اكتشاف المسكوت عنه. هذا ما تبوح به مشاهد الفيلم التي تتراكم تباعاً مع مراحل تطور الشخصيات والحكاية، حكاية لوي، الكاتب الذي قرر العودة إلى بلده لزيارة عائلته التي لم يرها منذ ١٢عاماً، عاد ليودعها معلناً موته الذي لا يعرف متى يكون، ولكن قبل الموعد المحدد لزيارته عادت لمخيلته صورة طفل يحب اللعب حتى لو كانت لعبته هي الكبار، وهذا ما جرى له في الطائرة عندما أغمضت عينيه يدان صغيرتان كانتا تلعبان أيضاً، فكانت عتبة مفترضة لنهاية عالم لوي المبتعد عن ماضيه وعائلته.

هي حكاية الطريق إلى البيت بكل تفاصيلها الحسيّة والفيزيائية، إذ أن المخرج الكندي دولان يهوى المناظر الخارجية ويتفنن برسمها وجعلها متناغمة مع الحالات النفسية للشخصيات، ويرفقها بموسيقا من وحي الأجواء، فعلى إيقاع أغنية "Home is where it hurt" بدا الطريق في عينيّ  لوي وكأنه إمساكاً باللحظة الحاضرة، يعرف ماذا سيفعل بها وكيف ستكون.
تشكل هذه الزيارة الخط المحوري في النص المسرحي والفيلم السينمائي، ليُبنى عليها عالم الأسرة بين الماضي والحاضر، وتدور حولها كل الأحاديث التي يتطور على إثرها هذا الفعل. 

ضمن طريقة السرد الشعرية التي اعتمدها لاغارس لكتابة النص، وجد دولان معادلات تقابلها في تصوره الإخراجي للنص الذي يعتبر، إلى حد ما، من نوع خاص ومعقد لخصوصية السرد المرمز ورصده لإحدى صعوبات التواصل بين الأفراد وعجز اللغة عن التعبير. أربعة أطراف مقابل الزائر الجديد القادم للوداع، غير مدركين لسبب زيارته، يكتفون بما يقولونه وكل الذكريات المستحضرة الآن وهنا، وقد تلعب الذكريات هذه دوراً تشتيتياً بين ماضي لوي وحاضره، في مقابل عالم الأسرة الموجود فيه الآن.

شعرية النص والصورة

تتكلم الشخصيات وتفكر بنفس الوقت، تخاطب بعضها بأسلوب خاص، بشعرية النص المكتوب التي تتجاوز ما يجب أن يقال وترسم لنفسها حالة خاصة، فإذا أجاد أبطال النص الثرثرة فإن أبطال الفيلم احترفوا رسم كل ما لا يقال في تعابير الوجه وحركة الجسد. ولهذا يُعتبر الجسد في عالم دولان، وفي هذا الفيلم بالتحديد، معطى هام وحامل للأفكار والمشاعر، منه استطاع تكوين صورة لكل شخصية حلّت محل المسكوت عنه في النص المسرحي، أشبه بأن تكون بورتريه بداخلها ملامح تتحرك وتتفاعل مع ما يحدث رسمتها اللقطات القريبة والألوان الدافئة مرة والغامقة مرات كثيرة وحددت أبعادها كمساحة تقول الشخصيات من خلالها ما يجب عليها قوله. تختبر لغة الحياة اليومية التي تخذلها، تتحرك وتقوم بأفعال تعبر بها عن كل ما يخطر لها من اللحظة الأولى لدخول لوي وحتى مغادرته، ما عدا مشهد واحد، أثناء العشاء، عندما تجتمع العائلة حول الطاولة في الخارج. ابتكر دولان هذا المكان المفتوح لتتنفّس الأحداث قليلاً، وقد بدأت الأجواء تنضغط شيئاً فشيئاً مع كل القول والترميز داخل غرف البيت الصغيرة، حيث تعرف لوي على البعض وفاجأه البعض الآخر. إلاّ أن المساحة البيضاء في الخارج لم تكتمل مهمتها لأن أنطوان، الأخ الأكبر، سريع الغضب والفوران، فسرعان ما يراكم الكثير من العدوانية ويخلق صراعاً ما مع الموجودين ومن بينهم لوي.

يكون قد قطع اكزافييه دولان شوطاً هاماً بتكوين شخصية معاصرة أراد المسرحيّ لاغارس لها أن تكون، محاولاً في الوقت نفسه إثبات أن التواصل غير ممكن، فاللغة غير قادرة على إفراغ مخزوننا العاطفي، أو حتى احتوائه، فالذي لا نقوله غالباً ما يكون أكبر بكثير مما نقوله.


أمّا حضور كاترين الرقيقة، وهي زوجة الأخ، أمام  كل الشحن العاطفي والفقدان الذي اتسمت به شخصيات كل من الأم والأخت، مقابل عصبية الأخ، فتبدو لحظات التعارف الأولى بينها وبين لوي الأكثر لطفاً وانبهاراً واسترخاءً بعد الصدمة الأولى بالتعارف المتوتّر بين أفراد الأسرة.
لقطات قريبة بين وجه لوي وكاترين بألوان معتمة قليلاً تميل إلى الأحمر والأصفر غالباً ما تدل على بهجة التعرف الأول فالنظرات مرتاحة رغم كل الاختلاف والغموض الذي يقعان تحت تأثيره. تبدو كاترين أكثر رفقاً على لوي من نفسه، وجودها بينهم كان ضرورياً لتنفيس حالة الصراع المخفي بين لوي وأخيه، وبين الجميع والماضي. هذا الغريب الذي حلّ اليوم على العائلة لم يقل لماذا أتى، اكتفى بنظرة خاصة على ماضيه ورحل.

فضاء البيت

فوضى الزيارة التي ألقت بظلالها على فضاء البيت الأنيق الضيق ذي الألوان الرتيبة والفاقعة غالباً، أضفت أبعاداً رمزية تقتحم إطارات الصوّر لدى دولان فتلوّن الشخصية والمشهد. حين قام برصفها بكل أناقة، بدايةً من ألوان الملابس والمكياج وتفاصيل الشخصيات التي تفاوتت بين الأخت والأم بالتحديد. وشمُ الزهور الكبيرة الملوّنة على الكتفين أضاف ليدين سوزان بعداً رومنسياً بقي مكبوتاً وظهر على شكل انفجار بكائي، حين أرغم أنطوان أخاه على الرحيل، بينما اتسمت باللامبالاة في البداية ووصلت للبوح التدريجي، رغم عطب مفهوم الأخوة الذي خففت منه البطاقات الملونة والرسائل القصيرة التي كان يرسلها لوي لأخته.

أمّا الأحمر على الشفاه وعلى الأظافر فطبع صورة الأم في ذهن لوي كما تريد لها أن تكون، فهي باتقاد دائم أمام الكثير من الخيبات. لم يتعبها الفقدان ولا حتى الحضور، تتحرك بشكل آلي تحضّر الطعام، تضعه أمامه، لا مشكلة إن لم يأكل، فهي سعيدة بزيارته. لم تخفِ أية ابتسامة أو أية محاولة لإظهار الشوق والعطف.

أمّا ذكريات لوي فحملها فضاء البيت واستعادها بشكلها النقي العفوي لتكون مركز تفريغ الذكريات والتوتّر، لا مجال للندم إذ أن لوي لا يفكر به،  يعطي نفسه فرصة ليستمع للموجودين دون مقاطعة، يراقب، يتأمل، ويودّع دون كلمات، ويستعيد ماضيه في البيت الريفي بصمت أيضاً، هناك حين خلق اللون الأخضر مساحة أمله ورغبته بالاكتشاف والعيش، وفي حالة تذكُّر أخرى يملأ الأزرق عيناه، خلال استذكاره لإحدى تجاربه الجنسية المثلية، وفي الحالتين يكون الرّجل أساس ذكرياته، مرة على صورة الأب ومرة العشيق. تحيط بلوي هالة المحتضر وتبرر له صمته أحياناً كثيرة أمام انفجارات عائلته بالغضب والعطف.

تطور شخصية الابن عند دولان

لطالما حاول دولان خدش المفاهيم الجاهزة المصنعة حول العلاقات الأُسرية، وخلق تصوره الخاص عما يراه ويدور حوله، رؤيته لتفاصيل العلاقة الحميمية والنافرة بين الأم والابن، ودراسته لطباع شاب صغير في محاولاته التخلي عن أمه، وأخرى لحالات تحول أكثر تنوع وفرادة. بكل الأحوال كانت تلك التفاصيل ومحاولة رصدها تشكل جوهر مختبر دولان السينمائي، الذي بدا لنا بعد "نهاية العالم ليس إلا" متكاملاً مترفعاً وجديراً بالمعاينة والاعتراف بفرادته. يضعك أمام تجربة متطورة عن حالة التخلي والتحول، هو الآن في مكان المواجهة، بطله أكثر استرخاءً من مرّاته السابقة. لا شيء سيثبته ولا شيء يريد تغييره، فقد أنهى كل ما يريد فعله، ليصبح الفعل الوحيد هو ما يحدث الآن. يتم تجريد كل هذا بهدوء، ليصبح الصمت والذكرى أبطالاً آخرين يتحركون في الفضاء أيضاً، وحين يفضل لوي التأمل على الكلام والتكتم على الصراخ، مدركاً أهمية مفاصل الكلام وجدواه، يكون قد قطع اكزافييه دولان شوطاً هاماً بتكوين شخصية معاصرة أراد المسرحيّ لاغارس لها أن تكون، محاولاً في الوقت نفسه إثبات أن التواصل غير ممكن، فاللغة غير قادرة على إفراغ مخزوننا العاطفي، أو حتى احتوائه، فالذي لا نقوله غالباً ما يكون أكبر بكثير مما نقوله.

حاز الفيلم على الجائزة الكبرى في مهرجان كان السينمائي الأخير، وهي ثاني جائزة هامة بتاريخ دولان السينمائي بعد جائزة النقاد عن فيلمه "أمي".