من الفصل الأول: حول بنية وكيف تشكّلت تنظيمات القاعدة وفروعها؟

2016-10-16 01:00:57

من الفصل الأول: حول بنية وكيف تشكّلت تنظيمات القاعدة وفروعها؟

لقراءة خبر صدور الكتاب، وأجوبة كيلة على أسئلتنا

 

1) صور الجهاد

نقصد هنا الدوافع التي كانت في خلفية تشكّل "الجهاديين" والظاهرة "الجهادية"، والتي هي متعددة، وفق ما يظهر في الواقع، ووفق ما "يتسرّب" أو ينقل. بمعنى أنه من الضروري البحث في الأسباب التي تدفع "الجهاديين" إلى الالتحاق بالتنظيمات "الجهادية". أو البحث في طبيعة الفئات التي التحقت بـ "النشاط الجهادي"، والأسباب التي فرضت ذلك. إن التحاق فئات بـ "الجهاد" يفرض البحث في الجذور التي دفعت إلى ذلك، والأسباب التي جعلت فئات مجتمعية تسعى للالتحاق بالتنظيمات الجهادية، من تنظيم القاعدة إلى داعش. وهنا يجب لمس أثر التهميش وانعكاسه على الأفراد، سواء تعلق الأمر بالهوس الجنسي أو الشعور بالهامشية، أو التمرُّد على حالة التهميش، أو الانسياق خلف أوهام محاربة الإمبريالية. لكن كذلك كيف تُصنع ظاهرة "الجهاديين" من قبل قوى تريد استغلالها لتحقيق مصالح معينة؟ وما هو الدور "الخارجي" في صناعتها؟

أثر التهميش: الهوس الجنسي

فربما ما يلفت هو موقع "الحوريات" في إشارات الكثير من "الجهاديين"، وما يلفّ الخطاب الديني الذي يدعو إلى "الجهاد"، وما يختزنه الخطاب الأيديولوجي الوهابي عموماً. سيبدو أن الخطاب الديني "الشعبوي"، خصوصاً ذاك الذي يُتلى كخطب يوم الجمعة، محملاً بالكثير من الإشكالية الجنسية، لأنه يتركز هنا بالضبط في غالبه. وهذا هو جوهر "الخطاب الأخلاقي" الذي يتضمنه، وهذا ملفت. لا شك في أنه يدلّ على أزمة جنسية، سواء عبر التحذير أو عبر الترغيب. ولهذا نجد بأن الحل يتمثل في "حوريات الجنة" التي تصبح هي عنصر الترغيب. هذا ما يترك تأثيره على البيئات المغلقة والمحتقنة جنسياً، حيث الكبت الجنسي الذي يؤدي في حالات إلى "زنا المحارم" وانتشار اللواطة. لكنه يؤسس لحالة من الهوس الجنسي لدى قطاع من الشباب المهمش، هوس يوصل إلى التعلق بـ "حوريات الجنة"، وهو ما يجعل الخطاب "الجهادي" الذي يربط "الجهاد" بحوريات الجنة مقبولاً، بل ومرحّب به، وبالتالي يحوّل هؤلاء الشباب إلى استشهاديين.

هنا يكون الاستشهاد هو الوسيلة لممارسة اللذة، حيث أنه الطريق للوصول إلى آلاف الحوريات فائقات الجمال كما يصبح متصوراً في ذهن الاستشهادي. وليكون الخطاب الديني الخاص بذلك هو التصعيد لحالة الهوس إلى مداها الأقصى، أي القتل أو الموت. وهنا ليس مهماً المكان الذي يجب أن يستشهد فيه الشاب، بل أن حالة الاستشهاد هي الأمر الجوهري، استناداً إلى "فتوى شيخ".

هذا ما شهدناه في الحرب العراقية الإيرانية في الجانب الإيراني، حيث زُجّ بمئات آلاف الشباب المفقر والمهمش في هجومات هي في الواقع انتحارية. وكانت صورة الحوريات ماثلة فيها. حيث كانت التعبئة الأيديولوجية تقوم على هذه النقطة. ربما كان أمراً مقبولاً من النظام الأصولي الإيراني أن يدفع بهؤلاء الشباب إلى المحرقة دفاعاً عن ذاته، أو لتحقيق سيطرة على المنطقة عموماً (سيطرة إقليمية)، لكن لا بد من لمس أن هؤلاء الشباب الذين ضُحي بهم هم من المفقرين والمهمشين، الذين فرض التفارق الطبقي من جهة، والحداثة من جهة أخرى، عليهم التهميش بالمعنى الاقتصادي والمعنى النفسي معاً. وهو التهميش الذي يؤسس لنشوء حالة "الهوس الجنسي".

هذه الحالة تكررت في ظاهرة "الجهاديين"، حيث طرحت قضية أيديولوجية كبيرة، مغلّفة بالدين، وتتعلق بالصراع ضد الإلحاد، ومن ثم إقامة دولة الخلافة، في سياق الصراع السياسي الذي يخدم مصالح أخرى. وبالتالي أصبح الدين وفق منظور هؤلاء الذين يجندون الشباب يتمحور حول الجنة والحوريات لكي يلمس هذا الهوس الكامن نتيجة التهميش والفقر. الأمر إذن لا يتعلق بالدين بل من جهة برغبة سياسية لتوظيف "مرتزقة" في حرب مصالح، ومن جهة اخرى حل لحالة هوس جنسي لفئات مهمشة. والخطاب "الديني" (الوهابي حصراً) هو اللاحم بين هذا وذاك، كما سنرى الأمر فعلياً في فقرة تالية.

أثر التهميش، ظهور الصورة

ربما ليس الهوس الجنسي هو كل ما يحرّك قطاع من الشباب المهمش، وهذا صحيح، حيث نلمس "أثر الصورة". حيث يؤدي الاهتمام الإعلامي العام بظاهرة إلى أن تصبح محط تأثير، خصوصاً إذا لمست واقع فئات اجتماعية، أو أسست لما يعاكس وضعها. أي أسَّست للخروج من الهامش إلى المتن، من الهامشية إلى مركز الاهتمام. وحين أصبح تنظيم القاعدة صورة تتناقلها كل الأجهزة الإعلامية، ويتحدث بها كل زعماء العالم، وتبدو كحالة تمرّد عامة، أصبح مجال جذب لتلك الفئات المهمشة، المأزومة، والمسحوقة. فهي بهذه النقلة تنتقل إلى الضوء، وتصبح في مركز الحدث بعد أن كانت على هامشه، في العتمة.

هذه هي الحال حينما كان اليسار يقود الثورات في العالم، حيث اندفع المهمشون لكي ينخرطوا في "الحرب ضد الإمبريالية"، فهم بذلك اصبحوا يعتقدون أنهم قوة تأثير وفعل وليس هامشاً مهملاً. آلاف الشباب المهمش، والذي لا يعرف لا اليسار ولا الثورة، اندفع للانخراط في النشاط الثوري. ليظهر في صورة بطل ثوري. وهو التعبير المقابل للفرد الهامشي الملقى في العتم. الذي يعيش أزماته في ركن لا يلتفت إليه أحد، أو يعتبر أحد أن فيه أحد. لقد بات في المتن، في المركز، مركز الحدث الذي يتناقله العالم كل لحظة، ويشيرون إليه في كل وقت، ويتخوفون منه كحالة رعب.

وربما هي الفئات ذاتها التي باتت تنخرط في العمل "الجهادي"، الذي بات هو الذي يستحوذ على كل اهتمام. وأصبح، مع انتشار الفضائيات، يملأ الشاشة في كل لحظة. يرتعب منه البعض، ويقدره البعض الآخر، ويتشكك فيه كثيرون. أصبح العالم منشغلاً به، في سياسة أسميت "الحرب على الإرهاب"، وباتت تضخّم من هذا الخطر إلى الحدّ الذي يجعل أي كان يعتقد بأنه سوف يهزم الإمبريالية، وكل النظم، وكل القوى الجبروتية، ليقيم "دولة الخلافة". ليس المهم، هنا، هذا الهدف الأخير بالنسبة لذاك الهامشي ربما، لكنه حين ينخرط في الحدث يعتقد بأنه أصبح في مركز الصورة، وفي المركز الذي يخيف كل هذا العالم الذي كان يخيفه، ويزدريه، ويلقي به في "القرون الوسطى".

الصورة هنا هي العنصر الجاذب، هي فعل التأثير في فرد هامشي يعيش في عزلة وتوتر وفقر، ولا ثقافة. هي فعل التحويل من الهامش إلى المتن. لقد أصبح هؤلاء قوة تأثير، وتخويف، وبات لديهم قدرة البناء، لكن بناء "دولة الخلافة" كما يظنون. هنا انتهى التهميش الداخلي في سياق الفعل الموضوعي. انتهى العدم الذي يتلبس الفرد لمصلحة وجود فعلي. لكنه يحمل أوهام الله التي تلقنها من "أمير" هامشي يكرر بشكل سيئ فتاوى ابن تيمية أو ابن قيم الجوزية، أو محمد ابن عبد الوهاب، أو أميره هو بالذات. وهي كلها سذاجات، وأفكار سطحية، "عامية"، لكنها بالنسبة له ذخيرة فكرية هائلة القوة. فهو هامش الهامش فيما يتعلق بالمعرفة، وحتى في هامش "الوعي التقليدي". لقد أصبح يعرف، وهذه نقلة كذلك من الهامش إلى المتن.

إذن، الصورة هي التي تحدث هذه النقلة لفئات "خارج التاريخ" لكي تصبح "صانعة التاريخ". كان يمكن أن يكون لها ذلك حينما كان اليسار هو الذي يلعب الدور المحوري، الذي كان يجعله في مركز الحدث، نتيجة الوعي العالِم الذي تقيمه الماركسية. لكن هنا يفضي "الفكر الوهابي" إلى أن يتحوّل هؤلاء الشباب إلى فعل تدميري، إلى قوة قتل وتفكيك وتدمير، في سياق سياسات لا يعرف هؤلاء عنها شيئاً، ولا تستطيع مخيلتهم تصورها أصلاً، لأنها لا تزال في الهامش.

مسلسلات تاريخية

ولا شك في أن المهمشين سيرون في المسلسلات التاريخية نموذجاً خاصاً، فهذا التاريخ يقارب المرحلة التي يعيشونها، لأنهم لازالوا في القرون الوسطى. ولهذا من الطبيعي أن يأخذ هؤلاء ثقافة وشكل وبيئة هذه المسلسلات لكي تصبح هي المثال الذي يريدون تطبيقه. فهي تُظهر هؤلاء الذين يعيشون كل ذلك "التخلف" (رغم أنه لم يكن تخلفاً حينها) يصنعون كل هذه المعجزات، وبالتالي يقدمون لهذا المهمش الثقة التي تجعله، عبر تمثيل هذا الماضي، يصنع المعجزات الآن. المقاربة الشكلية هذه هي التي تدفع هؤلاء إلى تمثّل الماضي وتمثيله، عبر محاولة فرضه في الواقع الآن. بالتالي دون حساب الزمن، والفارق الحضاري بين ذاك الزمن ونحن الآن. وبالتالي الانطلاق من أن هذه المسلسلات هي محاولة لتوضيح الماضي وليست مشروعاً للراهن والمستقبل، محاولة لإظهار شكل الماضي، وربما تقديم بعض العبر، لكنها ليست الصيغة التي يتطلبها الحاضر.

لكن "التكوين القروسطي" الذي يلفّ المهمش، بلا ثقافة أو منظور يتجاوز ذاك الذي تشكّل بعيد انهيار الإمبراطورية، يجعل من ذاك التاريخ الذي تعرضه المسلسلات التاريخية ملهماً. يجعله كما أشرنا المثال الذي يجب أن يفرضه هو، هو بوعيه وتكوينه وهامشيته. ولكي يحقق ذلك ينخرط في "الجهاد" الذي يتخيّل أنه هو هو التاريخ الإسلامي ذاته الذي يراه في المسلسلات التاريخية. بهذا يصبح تقبله للمنظومة الأيديولوجية التي تعممها القوى "الجهادية" متحققاً، خصوصاً وأنها لا تقدّم إلا ما يطابق ذاك "العقل" القروسطي، لأن كل الفتاوى المستخدمة هي نتاج هذا "العقل" أصلاً، هي مبسطة وسطحية، وحاسمة، وتنفيذية. وبالتالي تطابق مقدرة الفرد الهامشي. وبهذا فهو يحصل على شكل يستمده من المسلسلات التاريخية ومضمون يقدمه "شيوخ" و"أمراء"، معتمداً فتاوى ابن تيمية وابن قيم الجوزية ومحمد ابن عبدالوهاب، ومستنداً إليها. ليقيم في الواقع ذلك الشكل الذي رآه في المسلسلات، سواء في الملبس أو في شكل السلطة، أو في استخدام الأدوات القديمة، والعقوبات القديمة. يتخذ شكل "الفاتحين"، أو لباس الخليفة، أو بساطة العيش، حتى الراية التي ترافق الغزوات رغم أن الأمر بات هزلياً، واستخدام اللغة الفصحى التي ترد في المسلسلات. وربما كان يبحث عن شكل البيوت التي كانت حينها لولا توفّر بيوت قائمة، وربما يميل إلى استخدام الأحصنة والجمال بدل سيارات الدفع الرباعي (والغريب أن هذه التنظيمات تستخدم فقط هذا النمط من السيارات).

لنعيش مسلسلاً جديداً لكنه هذه المرة ليس تمثيلياً بل أن الممثلين هم من فئات مهمشة زحفت لكي تمثل في الواقع ما رأته في المسلسلات. وهي تسعى، كما فعل الممثلون، لكي تعلي "راية الإسلام"، وتقيم دولة الخلافة. إنه مسلسل من دم، وفعل يفضي إلى التدمير وفرض ماضٍ تلاشى على واقع جديد، الأمر الذي يؤدي إلى تفكيك الحاضر وتدميره لكي يفسح المكان لهذا المسلسل، أي لكي يستوعب "حضارة" تجاوزها الزمن بعمر طويل، وعبر تراكم معرفي ومجتمعي جعلها تبدو لقرون خاوية، وجاهلية بعيدة.

الصورة هنا تحولت إلى مسلسل، والمسلسل بات ممارسة فعلية من أجل استعادة التاريخ الذي كان صورة وبات يحتاج إلى كل هذا العنف لكي يتحوّل إلى واقع.

التهميش الغربي: الإسلامفوبيا

ربما لا يجري توقع أن يكون في الغرب مهمشين، لكن من الواضح أن البلدان الأوروبية تشهد وجود مهمشين عرب، هم من الجاليات المغاربية خصوصاً، وإن كانت تشمل آخرين. خصوصاً هنا الأجيال التي ولدت ونشأت في تلك البلدان. لقد فرضت حاجة أوروبا بعد الحرب الثانية استقدام عمالة من أجل إعادة البناء، وهو الأمر الذي نقل جاليات كبيرة من الجزائر والمغرب، وتونس إلى فرنسا وألمانيا وبلدان أخرى. لكن بعد أن تحقق البناء، وأخذت الأزمات الاقتصادية تفرض تشغيل المواطنين وليس الأجانب، جرى إهمال هؤلاء من حيث التعليم والعمل والخدمات والصحة، الأمر الذي أوجد الضواحي المفقرة والمهمشة. حيث البطالة المرتفعة والفقر وضعف الخدمات. وكذلك التهميش الثقافي، مما جعل الضواحي تعيش بيئة "الوطن الأصلي".

ومع تصاعد الأزمات الاقتصادية في البلدان الأوروبية زاد الضغط على هؤلاء، فاصبح الخطاب الإعلامي يركز على أنهم أجانب طارؤون، وأن الأزمة الاقتصادية ونقص فرص العمل هي نتاج وجود هؤلاء. بالتالي تصاعد الخطاب العنصري ضدهم محملين أزمة مجتمع بأكمله، رغم أن الرأسمالية هي سبب نقص العمل وانخفاض الأجر فيه. بهذا باتت الضواحي مفقرة، وتشهد تزايد أعداد العاطلين عن العمل، وكذلك التهميش في الخدمات والتعليم. وهو وضع كان يظهر السحق الطبقي الذي يعانيه هؤلاء، رغم أنهم باتوا يحمّلون وزر نقص العمل وتراجع الأجور. وكان يظهر "الفارق الثقافي" واضحاً على ضوء ذلك، فهذه أحياء متجانسة عموماً، لها ثقافتها و"دينها" وتقاليدها، في مواجهة مجتمع مفتوح، متحرر، بثقافة أخرى، وتقاليد مختلفة.

لكن الأخطر ظهر بعد ذلك، حين أصبحت "الحرب على الإرهاب" تعني الحرب ضد الإسلام، وحيث انتشرت الاسلامفوبيا لتطال كل هؤلاء. لقد بات ينظر إلى هؤلاء من منظور ديني، على انهم مسلمون متعصبون، وإرهابيون.

بهذا كان يظهر التهميش الاقتصادي، والثقافي والجنسي، والديني، ليميل قطاع من الشباب إلى التعصب الديني، والنظر إلى كل هذا التهميش من المنظور الديني، الضيّق. ومقابل "حضارة الغرب" بات يسعى لبناء "حضارة الإسلام". وفي مواجهة التعصّب القائم بات يتعصّب دينياً ضد هذه المجتمعات. لهذا استهوت قطاعاً من الشباب التنظيمات المتطرفة، خصوصاً تنظيم القاعدة بعد أن أصبح "نجماً" إعلامياً، ومسلسلاً مستمراً، وقوة كان يبدو أنها معادية للغرب، كما يقول خطابها على الأقل. وهذا ما فرض انخراط مئات الشباب في تنظيم القاعدة وفروعه المتعددة. وحيث باتت داعش هي هذا "النجم" الآن.

مهمشون

إن حالة التهميش والفقر كانت توجد حالات "انحراف" اجتماعي، مثل الميل إلى الجريمة والتحلل والهروب نحو السكر والحشيش. ولقد ظهر أن كثير ممن يلتحق بـ "الجهاد" هو من هذه الفئات، حيث يتأسلم ويلتحق بـ "الجهاد". وهذه ظاهرة نشأت بعد نشوء تنظيم القاعدة، وأصبحت تلحظ بشكل مستمر، ليبدو أن هذا الميل هو شكل الانتقام من البيئة التي دفعت إلى التهميش، أو حتى من المجتمع عموماً. ويكون "الدين" هنا هو المبرر الأيديولوجي لممارسة هذا الانتقام، وبالتالي ليست سمة "أصيلة" في هذا النمط من "الجهاديين". لقد ظهر أن كثير ممن التحق بتنظيم القاعدة، ومن ثم إلى داعش هم من الفئات التي "انحرفت"، أي التي عاشت حياة الجريمة والحشيش والجنس، الذين كما يبدو عملوا على استغلال الظاهرة، أو الاندفاع إلى الجريمة بشكل جديد يتخذ طابعاً دينياً، بالتالي ليبدو مبرراً نتيجة ذلك.

لقد عملت بعض النظم على إرسال "مجرمين" كما أشرنا، لكن كان العديد من الفئات المهمشة التي انحرفت في طريق الدعارة والحشيش، وربما الجريمة، ينخرط في هذه التنظيمات، وهذا أمر يشير إلى فعل التهميش ذاته، الذي يدفع إلى الجريمة بغض النظر عن الشكل الذي تتخذه. وهذه مسألة بحاجة إلى تحليل نفسي وليس الاكتفاء بتحليل سسيولوجي فقط، فهي فئات مهمشة انحرفت  نحو الجريمة، لكن يبدو أنها تريد تغطية ذلك بمنظور ديني لكي تبرر لذاتها ممارستها تلك. وربما يسمح الانخراط في تنظيم بات هو المستهدف عالمياً، بما يعنيه ذلك من التركيز الإعلامي والاهتمام العالمي، بأن تمارس الجريمة في شكل "مقدس"، وبالتالي مبرر ويحظى بتأييد ديني. فيصبح ما هو مرفوض أخلاقياً وقانونياً مقبول دينياً. وهذه تغطية على ممارسة الجريمة بحجة الدين.

هذا ما يدفع كثير من الذين يعيشون حالة "انحراف" اجتماعي إلى الانضمام إلى هذه التنظيمات، من تنظيم القاعدة إلى داعش.

منظور سياسي معادي للغرب

بعد كل هذه الأسباب التي تأسست انطلاقاً من واقع التهميش الذي تعيشه فئات في "العالم الإسلامي"، وحتى لدى المسلمين في الغرب، حيث كان الفقر والهامشية الثقافية عنصرا الانخراط في هذا الشكل من التنظيمات الأصولية، يمكن أن نشير إلى عنصر آخر، سياسي هذه المرة. لكنه يتعلق بالسحق والتهميش كذلك، لكن من منظور السيطرة الإمبريالية الأميركية على العالم، وسحقها الشعوب، وتهميش مجتمعاتها، ونهبها وإفقارها، وتكريس نظم مستبدة مافياوية فاسدة فيها.

لا شك في أن السيطرة الإمبريالية كانت تحرّض الشعوب ضدها، ولهذا نشأت المقاومات من أجل هزيمتها. وسيبدو أن مواجهتها كانت تنظلق من منظور ديني، كونها "دولة مسيحية"، هذا ما أشار إليه بن لادن، وتحدث به خطاب تنظيم القاعدة: الغرب الصليبي. وبالتالي كان يجري الانخراط في الصراع ضدها انطلاقاً من ممارساتها، لكن التي باتت تعلل بأنها نتاج الطابع الديني لها، رغم أن الدول الغربية هي دول علمانية وليست معادية لأي دين. هذا الخطاب سيطر بعد تشكيل تنظيم القاعدة بداية تسعينات القرن الماضي، وظهورها كقوة "تحارب" أميركا بعد العمليات التي قامت بها (أو نسبت إليها) في مركز التجارة العالمي سنة 1994، وضد السفارات الأميركية في أفريقيا، وغيرها. لقد بدا أن تنظيم القاعدة تشكّل خصيصاً للصراع ضد أميركا، وجرى تفسير التحوّل الذي طال "الجهاديين" الذي كانوا في صفّ الإيمان ضد الإلحاد، بأنه انفلات نتيجة اختلاف المصالح، حيث استغلّ هؤلاء أميركا لهزيمة السوفيت، ومن ثم انقلبوا الآن لهزيمتها هي. طبعاً تفسير ساذج كما سيبدو، ولا شك سوف نلمس سذاجته تالياً، أي بعد البحث في دور المخابرات في صناعة الظاهرة. فهؤلاء "المجاهدين" ليسوا بهذه الحنكة أصلاً.

في كل الأحوال ظهر أن تنظيم القاعدة يخوض الحرب ضد أميركا، وخصوصاً بعد استهداف مركز التجارة العالمي في سبتمبر سنة 2001. وأصبح ينظّر له على أنه البديل عن اليسار الذي خاض صراعاً طويلاً ضد الإمبريالية الأميركية، وهزمها في فيتنام ومناطق أخرى. ولم يكن بلا معنى أن تعمم صورة بن لادن في هيئة صورة جيفارا، ولقد كان الأمر مقصوداً، ومدبراً. وبهذا باتت جموع من الشباب تنخرط في الحرب ضد "الغرب"، أو ضد أميركا. فباتت هذه التنظيمات محط فئات من الناقمين على أميركا، والذين يريدون هزيمتها. ولاشك في أن الأسلمة العامة التي كانت تحدث خلال العقود الماضية، وتراجع دور اليسار سواء ضد النظم أو ضد الدولة الصهيونية أو ضد أميركا، في مقابل تصاعد دور الإسلاميين سواء ضد النظم (تنظيمات الجهاد التي انخرط كثير من أعضائها في تنظيم القاعدة) أو ضد الدولة الصهيونية (حماس والجهاد الإسلامي)، كل هذه العناصر كانت تهيئ لأن ينخرط متدينين (أو حتى من لم يكونوا متدينين) في هذه التنظيمات.

وإذا كان انهيار الأحزاب اليسارية والقومية، وانهيار التعليم، قد أسسا لغياب فعلي للوعي السياسي، وللسياسة بشكل عام، وحتى للثقافة، فمن الطبيعي أن يكون "الوعي التقليدي" الذي يتخذ مسحة دينية أو يقوم على الدين (مع الإنغلاق العام الذي شهدته المنطقة) هو الذي يسيطر على قطاع من الشباب المفقر والمهمش الذي يريد قتال أميركا. وهؤلاء هم الذين استهواهم الصراع ضد أميركا، ليكونوا من المنخرطين في "الجهاد". هنا كانت "المسألة الوطنية" هي المعبر الذي أوصل هذه القطاعات إلى "الجهاد"، كما أوصلتهم من التدين الشعبي إلى الأصولية الوهابية. رغم أن الوهابية لا تعترف بالوطن، بل تعترف بالإسلام وبديار الإسلام، وهدفها دولة الخلافة وليس هزيمة الإمبريالية. وهذا الأمر هو الذي يجعلها تذهب بعيداً عن فلسطين، ولا تعتبر أنها قضيتها، لأن أولويتها هي "قتال المرتدين والمنافقين". أولويتها قتال "الروافض والمنافقين والملحدين والمارقين".

بالتالي يمكن القول بأن ظهور تنظيم القاعدة كقوة تحارب أميركا قد أسّس لاجتذاب فئات معادية للإمبريالية، وصهرها في بنية إيديولوجية أصولية مغرقة في تخلفها. وربما هذه المسألة أثرت كذلك على الفئات التي أشرنا إليها قبلاً، لكن ما أردنا قوله هو أن السبب المباشر لانخراطها هو ذلك المشار إليه نتيجة التهميش المجتمعي. وهذا ما يفسّر تحوّلها للصراع مع مجتمعها أولاً، وليس مع أميركا أو الدولة الصهيونية (التي تبدو أنها خارج كل حساب لهذه الجماعات). وسنلمس هنا أن "منظري" هذه الجماعات يؤدلجون الأمر من خلال القول بأولوية "تنظيف البيت" من الروافض والمارقين والملحدين والفاسقين، على أساس أن الصراع مع أميركا أو الدولة الصهيونية سيكون بعدئذ. وهذه فتوى خطرة لأنها تحوّل فعل شباب بسيط يريد الصراع ضد الإمبريالية إلى "شرطي قتل" محلي، مهمته "إقامة الشريعة" وفرض الحد، وقتل "الأقليات الدينية والطائفية" وكل "المارقين والملحدين". وهي السياسة التي تؤسس لتفكيك وتفتيت المجتمعات، وتحويل الصراع ضد كل قوى التحرر والتطور والحداثة.

تصدير المجرمين

كل ما أشرنا إليه إلى الآن يتعلق بـ "إندفاع ذاتي" لدى فئات اجتماعية، وهذا جزء من "صور الجهادي"، لكن لهذا "الجهادي" صور أخرى عادة ما يجري إغفالها. فمثلاً العربية السعودية تصرف مليارات على نشر الوهابية في العالم، وتقوم بدعم كل شيخ أو مجموعة ترغب في "التوهبن" (أي التحوّل إلى الوهابية)، كما تطبع وتدعم طباعة آلاف الكتب والنشرات التي تخدم هذا التوجه. فهي تعتقد بأن أفضل طريق لسدّ الباب على انتشار الفكر الحداثي عموماً هو نشر الوهابية. ولقد نشطت بشكل كبير في هذا المجال منذ اندياح المد القومي، وسقوط النظم "الرجعية"، والخوف من أن يصل الأمر إليها. وتركّز نشاطها أكثر بعد بدء انهيار "المشاريع القومية" وتفكك اليسار، وبعد أن تدفقت الأموال النفطية بعيد حرب أكتوبر سنة 1973. فإرتأت أن عليها استغلال الظرف لتعميم الوهابية وتعزيز الأصولية في المجتمعات كي لا تعود قادرة على النهوض، وطلب التحرر والحداثة. أي عملت على استباق أي تطور بتفكيك المجتمعات وتخليفها عبر تعميم الفكر الوهابي.

لكن، سنلمس "الدور العملي" في تكوين "الجهاديين". لقد أشرنا إلى دورها الكبير في إرسال هؤلاء لقتال السوفيت، حيث ضخت مليارات الدولارات. ما ظهر واضحاً فيما بعد هو أنها عملت على "تجنيد" ذوي السوابق الكبيرة في سجونها، حيث كانت تعرض على الجنائيين المحكومين بالإعدام أو المؤبد، بأن "يذهبوا للجهاد" على شرط ألا يفكروا في العودة إلى السعودية. ومن ثم كانت تدخل القابلين بدورة إعداد أيديولوجي، هي خلاصة الفكر الوهابي، والذي يجب أن يخدم الدور المحدَّد لهؤلاء "الجهاديين"، ثم "تصدّرهم" إلى أحد البلدان التي يتركز نشاط "الجهاديين" فيها، أو يجب أن يتركز نشاط "الجهاديين" فيها. هنا سنلمس أنها تدعم هذه الظاهرة ليس مالياً فقط بل كذلك بـ "الرجال"، وهي كذلك التي تلقنهم الفكر الذي يعتنقونه ويمارسون على أساسه، والذي هو فكر معادٍ للمجتمعات، ويلعب دور تدميرها وتفكيكها. هذه عملية مستمرة منذ عقود، ولا زالت. وهي رافد مهم من روافد تضخيم حجم "الجهاديين". لكن السؤال هو، كيف يمكن أن يمارس هؤلاء المجرمين تحت غطاء الدين؟ أي وهم يغلفون كل ممارساتهم باسم الدين؟

وهل من الصعب أن ينتظم هؤلاء مع المخابرات السعودية؟

الأمر ذاته مورس من قبل أجهزة مخابرات متعددة، من الأردن إلى سورية ومصر والمغرب، وغيرها.

رجل المخابرات كجهادي

أخيراً نلمس، ربما، أخطر حلقة في تكوين "الجهاديين". السؤال هو، هل يمكن لأجهزة الأمن التي أرسلت كل هذه الأعداد من "الجهاديين" ضد السوفيت ألا تعمل على تنظيم أفراد منهم؟ ثم أيمكن أن تقوم أجهزة المخابرات الباكستانية والأميركية بتدريبهم دون أن تخترقهم؟ أي دون أن تنظم أفراد منهم؟

هذه أسئلة ساذجة، لأنها تتجاهل طبيعة المخابرات وطبيعة نشاطها. وهي أكثر سذاجة حين نلمس طبيعة "الجهاديين"، وآليات ارسالهم إلى أفغانستان، وماذا يعني أن تشرف السي آي إيه على تدريبهم. بالتالي من السذاجة عدم توقّع أن المخابرات التي أرسلت هؤلاء، والمخابرات التي تشرف على تدريبهم لم تنظّم مفاصل في بنية تبنيها هي. ولا الشك أن أجهزة المخابرات هذه لم ترسل "عملاء" منها لاختراق هذا التنظيم الذي تبنيه. إن طبيعة هؤلاء "الجهاديين" التي أشرنا إليها قبلاً تسمح باختراق بنيتهم، كما تسمح بتنظيم أفراد منهم بالضرورة. فهم فئات بسيطة، تعيش الماضي، وتمتلك من السذاجة الكثير، الأمر الذي يسمح لأن "تضلل"، أو "تورط". أجهزة المخابرات أرسلت عملاء مدربين، وهؤلاء نظموا من بنية "الجهاديين" آخرين، هذا أمر حقيقي وليس نتيجة عقل مؤامراتي. وهذا ما ظهر في أكثر من حالة، آخرها الكتاب الذي نشره ضابط في السي آي إيه في أميركا، يشرح فيه كيف أصبح أميراً في "دولة العراق الإسلامية"، أي كيف تدرب على آليات هؤلاء، وكيف قرأ الوهابية (فالتنظير الأساسي سعودي)، وكيف اتخذ اسماً لبنانياً؟.

وإذا كانت أميركا، ومخابرات السعودية والأردن وغيرها، قد اخترقت هؤلاء منذ البدء، فقد وجدنا أن المخابرات الإيرانية والسورية تخترقها كذلك. في سورية هذا موثق في الاتهامات التي كانت تكال لدور النظام السوري في التفجيرات في العراق (تصريحات المالكي)، لكن أيضاً في الشكر الأميركي للمعلومات القيمة التي قدمها النظام السوري (شكر بوش سنة 2004)، كما في معايشة هؤلاء في سجن صدنايا، حيث أشار بعض الذين عايشوا هؤلاء إلى الاختراق الأمني السوري لهم.

 في العراق من إطلاق المالكي سراح عناصر داعش وإرسالها إلى سورية (تصريح وزير العدل في حكومة المالكي)، والإشارات لتمويل إيراني لداعش، وأيضاً تصريحات داعش عن أن قرارهم ألا يحتكوا بإيران (تصريح الناطق الإعلامي أبو محمد العدناني). وربما كثير من المعلومات التي وجدت في مراكزهم حين سقطت بيد الكتائب المسلحة في شمال سورية (والتنسيق العملي ضد المعارضة المسلحة).

بالتالي ليس من الممكن أن تكتمل صورة "الجهاديين" إلا بتلمس دور أجهزة المخابرات المختلفة. فهي من صنع الظاهرة منذ البدء خلال الحرب ضد السوفيت، حيث تم التدريب العسكري وتمت الأدلجة، وكذلك تم الاختراق. وخصوصاً أن هذا هو أهم عنصر في الصورة، بالضبط لأن بساطة "الجهاديين" وسذاجتهم تجعل الأشخاص المدربين هم الأقدر على توجيه العمل وقيادته. والأقدر على الفتوى بما يخدم الهدف السياسي الخاص بالدولة التي يتبعها "المفتي". رغم أن الأيديولوجية العامة التي جرى بناؤها تسمح بالتوجيه ضد المجتمع بالأساس، وهذا ما تريده كل الأجهزة الأمنية. وأقصد بالضبط التأكيد على أولوية الحرب ضد الروافض والمارقين والكفرة والمرتدين، أي الحرب في إطار الدين وليس في المستوى السياسي.

ولا شك في أن "نفخ" الظاهرة، وتعميمها بشكل واسع إعلامياً، كان يهدف إلى أن تُجلب الفئات المهمشة تلك لكي تصبح أداة "مخابراتية"، تحقق في الواقع أهم من كل عمليات التدخل الخارجي، أو تمهّد له. من هنا لا نستطيع أن ننظر لهذه الظاهرة كظاهرة محلية فقط، بل لا بد من فهمها انطلاقاً من آليات تكوينها والهدف منها، ودور القوى الإمبريالية والنظم الإقليمية في تشكيلها وتوظيفها.