مقاربات حول التطهير العرقي وأساليب المقاومة في القدس

2023-04-15 10:00:00

مقاربات حول التطهير العرقي وأساليب المقاومة في القدس
SLIMAN ANIS MANSOUR, The Daughter of Jerusalem, 1978, Oil on canvas

تبحث دراسات الكتاب، في الفترة الممتدة منذ استكمال احتلال مدينة القدس قبل أكثر من نصف قرن، إثر حرب حزيران/ يونيو 1967، التي عملت فيها دولة الاحتلال على تهويد المدينة، عمرانياً وديموغرافياً. 

صدر عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" (الدوحة/ بيروت)، كتاب جديد بعنوان «القدس: التطهير العرقي وأساليب المقاومة». يضم الكتاب، الذي يقع في 583 صفحة، ويشتمل على جداول وأشكال وصُوَر وخرائط ووثائق ومراجع ببليوغرافية وفهرس عام، على ستة عشر دراسة تتناول جوانب القدس التاريخية والتعليم فيها وأدوات السيطرة عليها وأساليب المواجهة ومكانة القدس في السياسة الدولية، أنجزها ستة عشر باحثاً وباحثة في شأن القدس، من الباحثين والأكاديميين والمؤرّخين الفلسطينيين، وهم: عصام نصّار، وأنوار حمد الله قدح، وعبد الله معروف عمر، وحنين مجادلة، وموسى سرور، وأحمد جميل عزم، وأحمد عز الدين أسعد، وأديب زيادة، وأسامة أبو ارشيد، وبلال فلاح، وجاودة منصور، وجوني منصور، وراسم خمايسي، ورشيد البزيم، وسامح حلاق، ونزار أيوب". تبحث دراسات الكتاب، في الفترة الممتدة منذ استكمال احتلال مدينة القدس قبل أكثر من نصف قرن، إثر حرب حزيران/ يونيو 1967، التي عملت فيها دولة الاحتلال على تهويد المدينة، عمرانياً وديموغرافياً.

ومما جاء في مقدمة الكتاب أنه: "منذ استكمال احتلال مدينة القدس قبل أكثر من نصف قرن، إثر حرب حزيران/ يونيو 1967، عملت إسرائيل على تهويد المدينة، بشقيها العمراني والديموغرافي، من خلال شن (حرب ديموغرافية) ومكانية تهدف إلى زيادة عدد السكان اليهود فيها، وتقليص أعداد السكان العرب، بأساليب مختلفة من سياسات التوسع الديموغرافي، واستثمار ارتفاع معدلات خصوبة المرأة اليهودية المتدينة في القدس، التي تصل إلى 6.6 في المئة، مع الأخذ بسياسات التضييق على المواطنين العرب، والاستيلاء التدريجي على ممتلكاتهم بذرائع مختلفة وطرائق شتى، وإجبارهم على الهجرة." وأنّ دولة الاحتلال "استندت في ذلك إلى منظومة قانونية وإدارية ترسخ هذا التوجّه السياسي، وسعت لتفتيت النسيج الحضري والاجتماعي والاقتصادي المقدسي؛ بزرع بؤر استيطانية داخله، وعزل الشطر الشرقي للمدينة عن باقي الضفة الغربية، معتمدة بناء المستعمرات وجدار الفصل العنصري. وتُوِّجَت هذه السياسات بقرار الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، المتمثل في نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس عام 2017، والاعتراف بمدينة القدس عاصمة لإسرائيل، ما مثل تحدياً كبيراً للفلسطينيين والعرب لا يقل خطورة عن وعد بلفور عام 1917؛ لأنّ القدس في جوهر القضية الفلسطينية، ولأنّ تسوية الصراع العربي- الإسرائيلي تبقى مسألة غير ممكنة من دون إيجاد حل عادل ودائم لهذه المدينة. وقد ظهر ذلك بوضوح في انتفاضة الشعب الفلسطيني والعربي ضد القرار الأمريكي، وفي الهبّة الشعبية الأخيرة في القدس التي جاءت نتيجة للعديد من الاعتداءات من ناحية، وبسبب سياسة التطهير العرقي والمكاني والإحلال الديموغرافي الممنهجة التي تتّبعها إسرائيل في المدينة من ناحية أخرى".

الصراع على المقدّسات

يأتي هذا الكتاب، كما ورد بالمقدمة، "ليبرز ساحات الصراع على المدينة المبنية على التطهير العرقي، وآليات مقاومتها الفلسطينية التي تتجلّى في الصراع على المقدّسات، والصراع الديموغرافي والتطهير العرقي المكاني والبيئي، والحرب على الوعي من خلال تزوير المناهج التعليمية، والمواقف الدولية، ومستقبل الصراع على المدينة". مع بيان أنه في جانب الصراع على المقدّسات، "تتوالى حرب إسرائيل على المقدّسات الإسلامية والمسيحية في المدينة، متمثلة في حماية اقتحامات اليهود المتطرفين الاستفزازية المتكررة للمسجد الأقصى. فقد تكثفت خلال الأعوام الأخيرة هجمات المستوطنين وزعمائهم السياسيين، خصوصاً الصهيونيين الدينيين، على المسجد الأقصى وساحاته، واقتحاماتهم المتكررة من أجل تقسيمه مكانياً وزمانياً، كما حدث في الحرم الإبراهيمي في مدينة الخليل، إضافة إلى نهب الأماكن المقدّسة وتهريب محتوياتها".

ويتطرق الكتاب في بعض دراساته، كما تشير حمدان، "إلى الأوضاع الاقتصادية داخل مدينة القدس. فالفقر والبطالة وتردّي الأوضاع الاقتصادية ما هي إلّا نتائج للسياسات الاستعمارية التي تفرضها إسرائيل على الفلسطينيين؛ إذ يرزح الفلسطينيون تحت ثقل الاحتلال الذي يحاصرهم بنظام يعيد إنتاج التطهير العرقي، مستعملاً أدوات اقتصادية أهمها الضرائب المرتفعة، من دون تلقي المقدّسيين خدمات ملائمة. وقد استخدمت إسرائيل السياحة، أيضاً، لترسيخ نظامها الاستعماري الاستيطاني. وهذا الوضع ليس عرضياً، بل هو نتيجة للبنية الاستعمارية التي تستخدم السياحة للترويج لروايتها الأيديولوجية عن المكان، وكذلك لسلب مداخيل السياحة من التجار والفنادق الفلسطينية داخل المدينة؛ ما يؤدي إلى إغلاق العديد من المتاجر والفنادق نتيجة لعدم الإقبال السياحي عليها، كما وضح ذلك الفصل التاسع".

كما يقدم الكتاب، "قراءة نقدية متمثلة في أحد مظاهر التطهير العرقي الأخرى التي مارستها إسرائيل في حق الأرض والمواد الطبيعية، واستغلالها ذلك كله للترويج لـ (إنجازاتها البيئية)، و(جعل الصحراء تتفتح) وفق رؤية دافيد بن غوريون؛ إذ يرى بعضهم أنّ إسرائيل نجحت في بناء نموذج عالمي لتطبيق التكنولوجيا الحديثة، في التقدم الزراعي البيئي ما بعد الكيبوتسي الاستيطاني الزراعي العسكري، وأنّ هذا النموذج من الممكن تطبيقه عالمياً في أرض صحراوية قاحلة كانت تتفشى فيها أمراض مثل الملاريا والتيفوئيد والكوليرا".

ويختتم الكتاب بإبراز التحديات التي تواجهها المدينة من جهة السياسة الدولية والقانون الدولي؛ ذلك أنه عكس تحديات أخيرة متعلّقة بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس، ومواقف دولية من هذا القرار. وأنه تعرض كذلك للقانون الدولي وموقع المدينة فيه؛ فالقانون الدولي واضح بشأن وضع مدينة القدس، بوصفها مدينة محتلة؛ فقد استكمل احتلال المدينة - القدس الشرقية - في حزيران/ يونيو 1967، ولم يتغير وضعها في هذا القانون، على الرغم من تصريحات الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، واعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل، ونقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس. لكن بخلاف ما ينص عليه القانون الدولي، فإنّ ما تحاول إسرائيل تثبيته على الأرض هو الوجود المطلق للاحتلال بوصفه نظاماً مهيمناً يميز تمييزاً جذرياً بين مجتمع المستوطنين والشعب المحتل، فضلاً عما تحاول إسرائيل فرضه على واقع المدينة".

القدس: حرب هوية

جاء في دراسة المؤرّخ عصام نصّار (رئيس قسم التاريخ في "معهد الدوحة للدراسات العليا")، أنّ "الاستعمار بالمُخيّلة: القدس في الصورة الفوتوغرافية المُبكرة" تمثيل القدس في الصور الفوتوغرافية المُبكرة التي أنتجها مصوّرون غربيون زاروا القدس. معتبراً أنّ الصورة الفوتوغرافية ليست لقطة محايدة، بل أنها إنتاج تقني وفني وتمثيلي اختير موضوعها بعناية، وأُنتجت بهدف توزيعها في الأسواق الأوروبية، وعليه فهي مستندة إلى رغبة المشاهد الأوروبي في رؤية ما هو متوقع بالنسبة إليه عندما يكون الأمر مرتبطاً بالمدينة المقدّسة، فلم يظهر الفلسطيني فيها جزءاً من الطوبوغرافيا الاجتماعية للمدينة، بل من جهة استدعاء ذاكرة جماعية دينية مُتخيّلة ترى فلسطين أرضاً بلا شعب، حتى قبل أن تُطلق الحركة الصهيونية هذا الشعار بعقود. ويخلص نصّار إلى أنّ القدس استُعمرت بالمُخيّلة والنص أولاً، فيما الآن تُستعمر في الواقع.

وترى الباحثة أنوار حمد الله قدح، الحاصلة على شهادة الماجستير في التاريخ العربي الإسلامي من جامعة بيرزيت، في دراستها المعنونة "تحريف المناهج الفلسطينية في القدس: حرب هوية" أنّ الحرب على المنهاج في القدس ليست خلافاً بين مدارس فكرية تتبنّى رؤى ومناهج متباينة فحسب، بل هي أيضاً شكل آخر من أشكال الحرب غير المتكافئة التي تمارسها سلطات الاحتلال في حق شعب محتل يحاول جاهداً الإبقاء على وجوده، مبينة أنّ عملية محاربة المنهاج والسعي لتهويده كلياً جاءت على مراحل، فكان تزوير المناهج يتمثل في الاستبدال والطمس والتغيير في المتن، والتحريف.

أما الباحث عبد الله معروف عمر، المتخصص في علوم القدس والمسجد الأقصى، فيؤرّخ في دراسته الموسومة بـ "قراءة في النظرة الصهيونية إلى المنطقة الشرقية في الأقصى ومشروعات السيطرة عليه وتقسيمه" لظهور فكرة التقسيم ومحاولات تطبيقها إسرائيلياً، إذ أكّدت انتفاضة موسم النبي موسى [1920] وثورة البراق [1925] أنّ المسجد الأقصى هو المحرّك الأساسي للانتفاضات الإسلامية في المنطقة ضد الاحتلال على الدوام، ما أوجد نوعاً من الحاجز النفسي أو الردع الذاتي لدى بريطانيا وحليفتها الحركة الصهيونية، إلاّ أنّ فكرة تقسيم المسجد ظهرت إثر توقيع اتفاقية أوسلو [1993]. وفي عام 2000 عندما اندلعت الانتفاضة الثانية حين بدأت جماعات يهودية متطرفة باقتحامات جماعية ذات طابع ديني للمسجد.

قضايا فاعلة ومؤثرة على الساحة الفلسطينية

الباحثة حنين مجادلة، المحاضرة في أكاديمية القاسمي، سلطت الضوء في دراستها "نحلم بخليل السكاكيني: عن المعلّمين المقدّسيين وكلاء للتغيير المجتمعي" على التحديات التي يعانيها قطاع التعليم في شرقي القدس من الجوانب البنيوية والبيئية والبشرية، لافتة إلى دور المعلّمين المقدّسيين في مواجهة سياسات الطمس والمحو التي تمارسها إسرائيل، عارضة المصادر البديلة التي اعتمدها المعلّمون والمعلّمات لصقل هويّتهم المهنية والقومية، من منطلق فخر بالذاكرة الجمعية، فالتعليم بالنسبة إليهم معركة صمود وبقاء.

بدوره شارك أستاذ التاريخ والآثار في جامعة بيرزيت، موسى سرور، بدراسة بعنوان "إشكالية السياسي والديني في العلاقة بين الدولة السلطانية والأوقاف المسيحية في القدس العثمانية"، التي يشير فيها إلى أنّ منحَ الفرمانات السلطانيّة البطاركة في الولايات العثمانية حقّ "التولية" على أوقاف طوائفهم الدينية مكّن دولاً أوروبية ليس الإشراف عليها فحسب، بل كذلك من تحويل مؤسسات وقفية إسلامية إلى ملكيات غير وقفيّة لمصلحة دول أجنبية، ومؤسسات وقفيّة مسيحية أيضاً بطرائق قانونية وشرعية، ما أدّى إلى تسريب العديد من الأوقاف إلى حركة الاستيطان الصهيونية، وخصوصاً ما كان منها تابعاً للبطريركية الأرثوذكسية، على الرغم من حصانة الأوقاف المسيحية في القانون العثماني وقوانين السلطات الانتدابية البريطانية، أو السلطات الأردنية.

وعن دراسته هذه يقول سرور: "تشكّل هذه الدراسة إحدى مخرجات الحقل البحثي الكبير الذي أعمل عليه منذ سنوات طويلة حول الوقف وأحكامه وتطبيقاته في القدس وإشكالية العلاقة بينه وبين الدولة السلطانية العثمانية وأنظمة ما بعد العثمانية؛ كإحدى تفرعات الملكية العقارية وإشكالياتها في ظل تكالب استعماري وصهيوني على الاستحواذ عليها لتحقيق المشروع الاستعماري الاستيطاني". وأردف: "يأتي ذلك انطلاقاً من التنقيبات الأرشيفية من محلية وإقليمية وعالمية والتي تساهم بالكشف عن المستور في تاريخ هذه العلاقة فيما يتعلّق ليس فقط بالأوقاف الإسلامية وإنما أيضاً بالأوقاف غير الإسلامية من مسيحية ويهودية. وقد أصبحت هذه الأوقاف (غير الإسلامية) إحدى تجليات اهتماماتي البحثية الجديدة وذلك نظراً لقلة الدراسات التي تعالج موضوع الأوقاف المسيحية واليهودية في القدس بشكل خاص وفلسطين بشكل عام من جهة، ومن جهة أخرى لارتباطها بقوى دولية فاعلة على الساحة الفلسطينية واستخدام هذه الأوقاف كأدوات لتحقيق أجنداتها السياسية، الأمر الذي يخرج هذه الأوقاف من طابعها الفقهي والخيري لتحمل مضامين سياسية وتستغل من قبل قوى استعمارية".

وأضاف سرور: "لهذا لا تعالج هذه الدراسات قضايا تاريخية أصبحت نسياً منسياً، وإنما قضايا ما مازالت فاعلة ومؤثرة على الساحة الفلسطينية وتفاعلاتها الدولية. ويمكن أن تكون مرجعاً لأصحاب القرار السياسي وذلك لاعتمادها على وثائق قانونية ذات مصداقية عالية مثل سجلات المحاكم الشرعية ومخرجات قرارات المحاكم الإسرائيلية والمراسلات الدولية بهذا الخصوص خاصة الفرنسية منها. ومن هنا أشير إلى كيف أصبح الوقف أداة مقاومة للاستعمار وهذا كان محور عديد الدراسات الجديدة التي سبق وأن نشرتها بالفرنسية والعربية في مجلات دولية وفلسطينية وانطلاقاً من الأرشيفات الفرنسية حول أوقاف مغاربة القدس والنزاع الفرنسي الإسرائيلي عليها. والأوقاف اليهودية التي استخدمت كأداة للاستعمار؛ والأوقاف المسيحية محور هذه الدراسة تلك الأوقاف التي تمتعت بحصانة عبر الحقب الإسلامية المختلفة على العكس من الأوقاف الإسلامية ولكن اليوم وفي ظل النظام الاستعماري الاستيطاني أصبحت تنتهك من قبل حماتها وتباع وتشترى".