من أجل ميسي وأغنية "مارادونا أفضل من بيليه" سأتجاهل بورخيس وأبجّل بيجاليا

2023-04-03 10:00:00

من أجل ميسي وأغنية

أما الآخر. ميسي. فلم أستطع يومًا أن أراه إلا بصفته معجزة، أي فريق يلعب ميسي لصالحه يتحول إلى عشرة رجال جيدين + كائن فضائي، هكذا استقرت المعادلة في وجداني طوال سنوات متابعتي للكرة العالمية.

1

هناك واقعة طريفة تُروى عن موقف خورخي ليوس بورخيس من كرة القدم (1899 – 1986)، فقد ذهب ذات يوم من خمسينات القرن الماضي إلى الإستاد رفقة صديقه الكاتب الأورغوياني إنريكي أموريم (1900 – 1960) لحضور مباراة تجمع منتخبي بلديهما، الأرجنتين ضد أورغواي، واحدة من كلاسيكيات أميركا الجنوبية. في الواقع لم يكن أي منهما مهتمًا باللقاء، وشعرا بالملل بعد وقت قليل وهمّا بالانصراف، وعندها نبههم الحضور من الجماهير بأن المباراة لم تنتهِ بعد وأن ما انتهى ليس سوى الشوط الأول، لكنهما غادرا رغم ذلك. يقول بورخيس إن صديقه أخبره بأنه يتمنى فوز منتخب الأرجنتين لكي يرى بورخيس سعيدًا، وبورخيس تمنى فوز الأورغواي ليرى أموريم سعيدًا! ولم يهتم الاثنان بمعرفة نتيجة المباراة أبدًا.

وعندما أراد بورخيس أن يدلي بدلوه عن كرة القدم قال: "كرة القدم، ذلك الشيء الإنجليزي الممل، ليست بهذه الروعة، مصارعة الديوك أكثر إثارة منها. إن كرة القدم لعبة شعبية لأن الغباء أمر شائع".

2

في 1988، نشر الكاتب الأرجنتيني ريكاردو بيجاليا (1941-2017)، مقالًا بعنوان "فرضيات حول القصة القصيرة، يشرح فيه بعض الأنماط السائدة في كتابة القصص، ويفكك في مساحات منه بعض الفنيات والتقنيات والخلطات السردية القصصية إلى عناصرها الأولية.

كتب بيجاليا في مقاله: "في أحد دفاتره سجّل تشيخوف النادرة التالية: "رجل في مونتي كارلو يذهب إلى كازينو للقمار، يربح مليونًا، يعود لمنزله، ينتحر." في تلك النواة لقصة مستقبلية لم تُكتب، يتكثف الشكل التقليدي للقصة القصيرة. فعلى عكس المتوقع والمتعارف عليه (مقامر /  يخسر /  ينتحر)، الخدعة هنا تتمثل في المفارقة. في هذه النادرة تنقطع الصلة ما بين قصة المقامرة وقصة الانتحار. ويُعد هذا الانقطاع أساس تحديد الطبيعة المزدوجة لشكل القصة. الفرضية الأولى: دائماً ما تحكي القصة القصيرة قصتين اثنتين.

*

القصة القصيرة الكلاسيكية – على طريقة إدجار آلان بو وهوراشيو كيروجا - تسرد القصة الأولى (حكاية المقامرة) في الصدارة، وتبني القصة الثانية (حكاية الانتحار) خلسةً. ويكمنُ الفن الخاص بكاتب القصة القصيرة في كيفية تشفير القصة الثانية داخل فواصل وصدوع القصة الأولى. قصة مرئية تخفي حكاية سرية مروية بصورةٍ مضمرة ومتشظية. ويحدث تأثير المفاجأة عندما تظهر نهاية القصة السرية على السطح.

3

في نهايات 1999 أو مطلع العام 2000، سافر مواطن إسباني يدعى كارلس ريكساش إلى ولاية سانتا في الأرجنتين، ليباشر مهام عمله ككشّاف لحساب نادي برشلونة الإسباني، وهناك، وتحديدًا في مدينة روساريو التي تقع على بعد 310 كم من العاصمة بوينس آيرس، التقطت عينا ريكساش موهبة لولد ضئيل الحجم يدعى ليونل ميسي، وكان ينتسب لنادي نيولز أولد بويز الأرجنتيني، يبدو شديد الموهبة ويستطيع رغم ضآلته الدخول بالكرة بين الكثير من اللاعبين والمرور من بينهم بسهولة تثير الاستغراب.

ريكساش أخطر ناديه برشلونة بالولد الموهوب، وأبلغهم أنه يعاني عوزًا في هرمون النمو، فعلى الرغم من أنه كان يبلغ في تلك الفترة نحو 12 عامًا إلا أنه كان يبدو كما لو أنه في الثامنة أو التاسعة.

على الفور وجّه النادي الكتالوني قطاعه الكشفي نحو ميسي، ولم يحتج الفتى الصغير لوقت كبير ليقنعهم بموهبته، فتعاقدوا معه وتعهدوا بدفع ثمن حقن هرمون النمو، الذي كان يجب أن يأخذه ميسي بمعدل إبرة كل يوم، علمًا أن سعر الإبرة في تلك الفترة يبلغ تقريبا 1500 دولار. لقد تبنى برشلونة موهبة الأرجنتيني الضئيل وراهنوا عليها.

في 17 سبتمبر من العام 2000 وصل ميسي إلى برشلونة، لينضم لأكاديمية "لا ماسيا" التي تفرّخ ناشئين وأشبال كرة القدم للفريق، وهناك برهن ميسي على موهبة عظيمة، وتدرج في قطاع الناشئين إلى أن خاض مباراته الأولى مع الفريق الأول لنادي برشلونة في 2004، ومنذ تلك المباراة تحول إلى معبود جماهير برشلونة والأرجنتين.

لقد مضى ليونل ميسي في مساره بالطريقة التي رسمها ريكاردو بيجاليا، كانت كل المعطيات تشير إلى موهبة على حافة المدفن. قدمان خارقتان ورأس عبقري وجسد عليل لفتى ينتمي لأسرة لا تعنينا طبقتها الاجتماعية قدرما يعنينا حقيقة عدم قدرتها على المضي قدمًا في معالجة ابنها الضئيل.

بحسب مقال بيجاليا، فإن المسيرة المتوقعة للبرغوث كانت كالتالي (موهبة / مرض /  فشل)، إلا أن "حكاية مضمرة" كان يجري نسجها من السماء لصالح ميسي وأسرته، كان بطلها كارلس ريكساش، الذي رصد الموهبة اليافعة وعبر بها الأطلنطي عائدًا إلى إقليم كتالونيا ليقدم لبرشلونة أعظم لاعب في تاريخ الفريق ولتتحول المعادلة إلى (موهبة /  مرض + معجزة /  بطل).

4

كبرت على حب كريستيانو رونالدو، لم أكن يومًا من أنصار ميسي، بالنسبة لي، رأيت رونالدو وهو يبني نفسه خطوة بخطوة ومباراة بمباراة، رأيت مرحلة المهارة والسرعة (صاروخ ماديرا) في مانسشتر يونايتد، ورأيت مرحلة القوة الهائلة والشخصية القيادية (الدون) في ريال مدريد، ثم رأيت قفزته الخارقة في يوفنتوس. لقد كبر رونالدو أمامي، كبر وهو يضرب درسًأ في كيفية الوصول إلى القمة والحفاظ عليها أيضًا لسنوات. 

أما الآخر. ميسي. فلم أستطع يومًا أن أراه إلا بصفته معجزة، أي فريق يلعب ميسي لصالحه يتحول إلى عشرة رجال جيدين + كائن فضائي، هكذا استقرت المعادلة في وجداني طوال سنوات متابعتي للكرة العالمية.

لقد قرأت أبحاثًا أكاديمية، ومقالات نقدية، وشاهدت وثائقيات ومقاطع فيديو على مواقع التواصل الاجتماعي، تتناول كلها "مخ ميسي" كموضوع لها، قيل إنه يستطيع إبطاء الزمن، وآخرون قالوا لا بل هو يسبق كل من حوله بأجزاء من الثانية تصنع له الفارق، فريق آخر يقول إن الأمر فطري تمامًا وخارج من اللاوعي ولا يحتاج من البرغوث إلى إعمال عقله أصلًا. لقد أخافني ذلك. لا بد أن من يواجهون ميسي في الملعب يتساءلونك هل منافسي خارق؟ هل يتمتع بمواهب شيطانية؟ قلت لنفسي إنه يشبه الدول القوية المستبدة التي تنكل بنا طوال الوقت. لم أستطع أن أتعاطف معه أبدًا.

5

في أحد أحياء الدوحة، غالبا في نوفمبر 2022، احتشد مئات الأرجنتينيين في مشهد مثير وجميل ليدعموا منتخب بلادهم في كأس العالم 2022، وراحوا يتغنون بهتافهم الشهير:

برازيل.. بماذا تشعرين الآن؟

لقد وصل أبوكِ إلى البيت

أقسم أننا رغم مرور السنين لن ننسى أبدًا

دييغو تلاعب بكم

وكانيجيا أحرز في مرماكم

منذ موقعة إيطاليا لم تتوقفوا عن البكاء

والآن ستشاهدون ميسي

وهو يجلب لنا الكأس..

مارادونا أفضل من بيليه

محبو كرة القدم، يحبون هذا النوع من المعايرة والمناكفة والتشفي، وبين الأرجنتين والبرازيل تاريخ حافل بالعداء، لا يقتصر على كرة القدم فحسب، لقد خاضت البلدان حروبًا منذ كانتا مجرد امتدادين للاستعمارين الإسباني والبرتغالي، هذا بخلاف حروب كرة القدم. فوز منتخب التانغو بأي مباراة يسعد الأرجنتينيين، وهزيمة البرازيل أيضًا تسعد الأرجنتينيين بنفس القدر، والعكس صحيح.

6

وعلى الرغم من خسارة الأرجنتين مباراتها الافتتاحية في كأس العالم 2022 أمام المنتخب السعودي، إلا أن توافد الجماهير الأرجنتينية إلى الدوحة لم يتوقف، حتى وصل عددهم إلى 70 ألف أرجنتيني، يسلّمون بعضهم مناوبات لحضور المباريات وتشجيع ميسي ورفاقه.

لقد كان مشهد جماهير الأرجنتين في الدوحة وهم يغنون "مارادونا أفضل من بيليه" واحدًا من بشائر النصر الذي بدأ قبل المونديال بفترة، وكانت بادرته الأولى تتويج ميسي ورفاقه بكأس الكوبا أميركا 2021، وعلى حساب البرازيل نفسها، بل وفي عقر دارها. أعقب ذلك تتويجهم بكأس "فيناليسيما" الذي يجمع بين بطل أمريكا الجنوبية وبطل اليورو، عندما اجتاحت الأرجنتين إيطاليا بثلاثية نظيفة.

لقد أعادت الجماهير شحن بطاريات المنتخب الأرجنتيني، غسلوهم من مأزق الهزيمة الصاعقة أمام المنتخب السعودي، فانطلق الأرجنتينيون يطيحون بكل منافسيهم، تغلبوا على بولندا ثم المكسيك العنيدة، وفي ثمن النهائي هزموا أستراليا، ثم هولندا في مباراة مثير في ربع النهائي شهدت تمريرة خالدة لميسي صنع بها هدفًا حاسمًا، ثم أطاحوا بوصيف مونديال 2018 المنتخب الكرواتي قبل أن يصنعوا المعجزة، ويتغلبوا في المباراة النهائية على المنتخب الفرنسي المدجج بالمواهب.

لقد ارغمتني هذه المسيرة على التعاطف مع ميسي. وعلى الرغم من أنني كنت أتوقع فوز فرنسا، إلا أن المسار الخرافي للأرجنتين في البطولة، واللمسات شديدة العبقرية لميسي، أهدافه، تمريراته، التفاف الفريق حوله، وقبل كل شيء مشواره الطويل والعجيب والمذهب مع كرة القدم، كل ذلك جعلني أدخل إلى المباراة النهائية وأنا أتمنى لهذه المعجزة أن تكتمل، معجزة الفتى، المصاب بالتقزم ونقص النمو، والذي تحول بفضل موهبته والقليل من التوفيق والحظ، إلى أهم لاعب في تاريخ كرة القدم.