"مكتوب": مفارق الترجمة في الحيّز الكولونيالي

2022-12-21 11:00:00

مجموعة من الكتب الصادرة عن سلسلة مكتوب ومنها رواية ستيلا ماريس\نجمة البحر, للأديب الياس خوري

رغم أنّ الأدب يخسر كثيراً في معارك الترجمة في الحيّز الكولونيالي، وتصبح الترجمة أداة للنضال أو الاستحواذ. لكنّ الجدل يبقى مفتوحاً، فالتحدي ليس في فعل منجز الترجمة كفعل مقاوم فقط، ولا يتوقّف عند الانتهاء من ترجمة النصّ، فالترجمة جزء من نظام أدبي واسع

يُعرّفُ مشروع سلسلة "مكتوب" عن هويته ورسالته الأدبية الثقافية، في موقعه الإلكتروني، بأنه "المشروع الوحيد في العالم، في الوقت الحالي، المُخصَص لترجمة الأدب العربي إلى اللغة العبرية" وأنه يسعى إلى "التخلّص من النظرة الاستشراقية الإسرائيلية تجاه العرب والمنطقة العربية، من خلال قناعة راسخة أنّ بإمكان الترجمة أن تُساهم في مقاومة نظام الفصل بين اليهود والفلسطينيين ومبنى القوة الاستعماري بين اللغتين، وذلك عبر تطبيق نموذج السيادة المشتركة في مجال الترجمة، إذ أن عمل مكتوب مؤسّس على عمل مشترك بين يهود وفلسطينيّين، بشكل يتحدى نموذج الترجمة السائد". مبرزاً أنه "مشروع ثقافيّ مستقلّ غير تجاري ولا يتوخّى الربح، ولا تربطه أدنى علاقة مع أية جهة رسمية أو حكومية".

"رمان الثقافية" سعت من خلال هذا التحقيق إلى التعرّف أكثر على تفاصيل هذا المشرع الساعي لإتاحة الأدب العربي والفلسطيني لقراء العبرية بعيداً عن مؤسّسات دولة الاحتلال وأكاذيبها، لتوضيح الكثير من النقاط الهامة حول ترجمة النصوص الأدبية لكتّاب عرب وفلسطينيين إلى العبرية، والتي تشوبها عدة مغالطات، وذلك في نقاش فلسطيني/فلسطيني قديم جديد.

كفاح عبد الحليم: يافا وليس "يافو", اللد وليس "لود"

بداية حديثنا كانت مع المسؤولة الإعلامية في "مكتوب"، المترجمة كفاح عبد الحليم، التي سألناها عن الغايات المُشتهاة من ترجمة الأدب الفلسطيني والعربي إلى العبرية، من منظور "مكتوب"، فأجابت قائلة: نحن في "مكتوب" ننظر إلى فعل الترجمة كفعل مقاومة أو "اشتباك ثقافي" كما وصفه أديبنا الراحل سلمان ناطور الذي كان من مؤسّسي "مكتوب". يتأثر اختيارنا للكتب بهذا المنطلق، فعدا عن القيمة الأدبية للعمل، نحاول اختيار أعمال أدبية تتحدى النظرة السائدة في إسرائيل تجاه الفلسطينيين والعرب، وتنقل السرديّة الفلسطينية حول تاريخ وثقافة البلاد للقرّاء الإسرائيليين، في مواجهة سياسات التغييب والمحو التي تمارسها المؤسّسة الإسرائيلية. هناك تجهيل متعمد للإسرائيليين من قبل الدولة والإعلام وجهاز التربية حتى، وليست صدفة بأنّ غالبية الإسرائيليين ما زالوا يتبنون السرديّة الصهيونية الرسمية حتى اليوم خاصة وأنهم لا يتحدثون العربية ويعتمدون في معلوماتهم على المصادر العبرية. قبل تأسيس المشروع بفترة وجيزة، قمنا بدراسة أظهرت بأنّ أقل من ١٪ من الإسرائيليين قادرين على قراءة كتاب بالعربية (!!)، وأدركنا بأنه من واجبنا كمترجمين فلسطينيين، ومترجمين إسرائيليين مناهضين للاستعمار، أن نفتح، من خلال الأدب، أمام القرّاء الإسرائيليين باباً للاطّلاع على سرديّة مغايرة ليسمعوا صوت الفلسطيني من الضفة وغزة والداخل والشتات، وصوت الكتّاب العرب كما هو دون تشويه واستشراق وأفكار نمطية وعنصرية. 

وبسؤالها: هل أنّ مثل هذه الترجمات قادرة على اختراق الوعي الإسرائيلي؟ تقول: لا يوجد فعل واحد ومحدود قادر على اختراق الوعي الإسرائيلي، خصوصاً في ظل الانغلاق الديني-القومي-اللغوي والجهل العميق، لكنّنا نأمل أن يساهم تراكم الكتب في السلسلة والاختيار المدروس لمحتواها الأدبي والتاريخي، والاهتمام بإتاحتها للنخب وللجمهور الواسع، في اختراق الوعي الإسرائيلي ولو قليلاً، وأن تكون الترجمة بالفعل أداة ناجعة تقربنا من هذا الهدف.
 

يهودا شنهاف-شهرباني، المحرر الرئيسي لمكتوب، ولؤي وتد، باحث ومترجم، في أمسية لمكتوب عن الأدب الشعبي لمنطقة الشام


في السؤال عن رؤية "مكتوب" تجاه معايير حركة المقاطعة (BDS) التي تشترط في الترجمة للعبرية للكتّاب الفلسطينيين والعرب، خشية الوقوع في شباك التطبيع الثقافي، أن تكون جهة النشر الإسرائيلية مناهضة للاحتلال والاستيطان علانية، وأن تعترف بحقوق الشعب الفلسطيني المشروعة وفق القوانين الدولية. تجيب كفاح عبد الحليم بأن: مشروع "مكتوب" هو مشروع سياسي بأساسه وليس مجرد مشروع ترجمة لأجل الترجمة. لهذا، وبطبيعة الحال، فجميع العاملين في "مكتوب" هم أناس مسيسون معروفون بمواقفهم المناهضة للاحتلال وللعنصرية داخل إسرائيل. إن كان البروفيسور يهودا شنهاف-شهرباني، المحرّر الرئيسي لـ"مكتوب"، وهو مفكر وكاتب من أصل عراقي، له مؤلفات ومساهمات كثيرة في نقد الصهيونية ونظام الفصل العنصري، والذي ترجم حتى الآن ثماني روايات للأديب الياس خوري إلى العبرية، أو كان يونتان مندل، المحاضر الناشط الذي يكتب عن مكانة اللغة العربية في إسرائيل وكيف عملت المؤسّسات الإسرائيلية بشكل منهجي على تحويلها للغة عدو. ذلك عدا عن المشاركة الفعالة لمترجمين ومحرّرين فلسطينيين من مناطق ٤٨، مثلي ومثل الكاتب إياد برغوثي نائب المحرّر الرئيسي، في كافة جوانب المشروع من إدارته، مروراً باختيار الكتب، وحتى مراجعة الترجمة التي عادة ما يقوم بها مترجمون ومحرّرون عرب. حيث يعمل المشروع وفق نموذج ترجمة خاص، على مستوى العالم، وهو نموذج ثنائي القومية واللغة، فبدلاً من مترجم واحد، يعمل على كل كتاب طاقم ترجمة يشمل المترجم ومحرّر الترجمة إلى جانب المحرّر الأدبي والمحرّر اللغوي. ولا يسعى هذا النموذج إلى التدقيق اللغوي بالضرورة بل بالأساس إلى تخطي الحواجز اللغوية والفكرية وإعداد نسخة موازية عن الكتاب تنقل روح النصّ وهويته بحساسية ثقافية ووعي سياسي. ومن المبادئ التي نعتمدها في "مكتوب"، مثلاً، أننا نحافظ على أسماء الأماكن الفلسطينية، فنكتب بالعبرية يافا وليس "يافو" واللد وليس "لود". يهمنا جداً بأن تكون العربية حاضرة في النصّ وقد نختار ترك كلمات أخرى بالعربية عن قصد لنكشف القارئ الإسرائيلي على اللغة ونحثه على تعلّمها، لا سيما ونحن نشهد منذ سنوات حملة لإلغاء مكانة العربية في إسرائيل ومحوها من الحيّز العام.   

سألنا عن مدى اهتمام "مكتوب" بمسألة موافقة الكتّاب الفلسطينيين والعرب على ترجمة نتاجهم إلى العبرية؟ وهل حصل وتُرجم -ضمن مشروع "مكتوب"- لكاتب ما، نصّ أدبي دون أخذ موافقته على ذلك، بخاصة في الأنطولوجيا القصصية الموسومة بـ"بلسان مبتورة"؟ وماذا عن حقوق الكتّاب المادية من عائد الترجمة؟ تجيب كفاح عبد الحليم: منذ بداية المشروع، قلنا بأننا لن نترجم أي نصّ، إن كان رواية أو حتى قصة قصيرة أو قصيدة، دون موافقة الكاتب أو الكاتبة. وقد نجحنا بدرجة كبيرة بفرض معايير جديدة، بعد أن كانت دور النشر هنا تنتهك حقوق الكتّاب العرب وتطبع كتبهم دون أن تسألهم عن رأيهم أصلاً. لقد حصلنا على موافقة على كل ما نشرناه في "مكتوب"، إن كان من خلال التواصل مباشرة مع الكاتب أو مع طرف ينوب عنه. في معظم الأحيان، اختار الكتّاب الاكتفاء بموافقة مبدئية دون التوقيع على عقد رسمي أو الحصول على مستحقات مادية. بعضهم طلب منا التبرع بالمستحقات لجمعيات فلسطينية وهكذا فعلنا. ونحن نتفهم حساسية هذه المسألة وقد طوّرنا نموذج عملنا على مدار السنوات الماضية ليتلاءم مع معايير المقاطعة قدر الإمكان. من الواضح لنا جميعاً بأنه لن يكون هناك تطبيع للعلاقات ما دامت إسرائيل مستمرة في احتلالها وعدوانها ضد الشعب الفلسطيني وغيره من الشعوب. لهذا، فنحن لا نطلب من الكتّاب شيء باستثناء الحصول على موافقتهم، أخلاقيا ومهنياً، ولا نفرض عليهم المشاركة في أية أمسيات أو إجراء مقابلات مع الإعلام الإسرائيلي، فليس هذا ما نصبو إليه إطلاقاً.

أخيراً، سألنا المسؤولة الإعلامية في "مكتوب"، عن حقيقة ما يشاع من أنّ دار "مكتوب" للنشر التي تتبع معهد "فان لير"، من دور النشر الممولة من اليانصيب الإسرائيلي "مفعال هبايس"؟ فأجابتنا بأن تمويل المشروع: يأتي بالأساس من معهد "فان لير" في القدس، وهو مؤسّسة بحثية مستقلة تنشر أبحاثاً اجتماعية وسياسية وإصدارات نقدية. لا تحصل المؤسّسة على أي دعم من مؤسّسات إسرائيلية رسمية بل تعتمد في تمويلها على صندوق هولندي خاص يحمل نفس الاسم. حصلنا في الماضي على دعم من "مفعال هبايس" استمر لمدة ثلاث سنوات، لكن هذا الدعم توقّف ولا نحصل على دعم منه اليوم لمشروع ترجمة الأدب العربي إلى العبرية. 

علي حيدر: مرافعة عن الحقوق الفلسطينية

نتابع حديثنا ونجريه مع الناشط الثقافي المحامي علي حيدر، عضو هيئة التحرير المصغرة بمشروع "مكتوب"، والذي سألناه: كيف يمكن للترجمات الصادرة عن "مكتوب"، أن تتخلّص من النظرة الاستشراقية الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين والعرب، وتُساهم في مقاومة نظام الفصل بين اليهود والفلسطينيين ومبنى القوة الاستعماري بين اللغتين؟ فأفادنا بأنّ الحُكم والحسم في مسألة الترجمة من لغة المستعمَر إلى لغة المستعمِر، وخصوصاً عندما يكون الاستعمار مازال قائماً وموجوداً، بل يزداد تغولاً وشراسةً وسيطرةً، هي مسألة مركبة، شائكة ومعقدة. فإذا كان التعاطي مع هذه المسألة يتطلّب توفر رؤية شاملة ومروحة واسعة من الشروط والاعتبارات من جانب، فإنّ التعاطي معها يُلزم من جانب آخر طرح أسئلة أخرى حول طبيعة المجتمعات، بنيتها وديناميكية الحركة داخلها، والمضامين المرجو ترجمتها، وسيرورة عملية الترجمة، ومن المستفيد من العمل المُترجم، ومن المخوّل بالاختيار، وما هي دوافع ومنطلقات المعنيين بالترجمة، ومن جمهور الهدف، ومن الجهات المموّلة وما هي مرجعيات المؤسّسات المؤتمنة على الترجمة، موضحاً أنّ ما ذكره ليس مجرد تنظير وتجريد ومحاولة للمفهمة فقط، بل هو واقع نعيشه في حالة الكولونيالية والعنصرية الاستعمارية الإسرائيلية لفلسطين، وينبع من إقدام مجموعة من المثقفين اليهود وفلسطيني الداخل من عرب ٤٨ من المناهضين للاحتلال والمناصرين لحقوق الشعب الفلسطيني، على ترجمة أعمال أدبية لكتّاب عرب وفلسطينيين وتقديمها لقرّاء اللغة العبرية. يُردفُ محدثنا: أعتقد أنه من الأهمية بمكان الترجمة من أجل كشف المجتمع في إسرائيل على المضامين والقضايا واللغة والخطاب والموضوعات التي تشغل الكتّاب العرب والفلسطينيين، ومن أجل اطّلاعه من مصادر أوّلية ودون وساطات إعلامية إسرائيلية مجندة لصالح الرواية الصهيونية ودون تدخل عوامل استخباراتية واستشراقية.

وفي السياق يبيّن حيدر، أنه من خلال متابعته لمشروع "مكتوب" يستطيع القول بأنه يُفَعِّل نموذج عمل استثنائي ومقاومة فعلية للاستعمار ونظام الفصل العنصري في فلسطين التاريخية، ويعمل من أجل المرافعة عن الحقوق الفلسطينية. ومن يعمل على اختيار وترجمة الكتب هم كتّاب ومترجمون فلسطينيين مناهضون للاحتلال ومناصرون للقضية الفلسطينية. مشدّداً أنه في مقابل محاولات المحو والإقصاء والتغييب ونزع الشرعية عن الرواية الفلسطينية هنالك واجب أخلاقي وسياسي لاستحضار وتثبيت السرديّة الفلسطينية، وإيصال الحقيقة دون مواربة. ولذلك فعملية الترجمة إذا ما قام بها أناس مهنيون، ملتزمون ومنتمون، تعتبر فعل سياسي بامتياز يضاف إلى إستراتيجيات النضال الأخرى التي تزعزع وتخلخل البنى المعرفية والفكرية المهيمنة وتثير الشك والتساؤل حولها من أجل تغيير الفكر والسلوك لدى المستعمِرين. وينهي علي حيدر حديثه قائلاً: إنّ حضور السرديّة الفلسطينية لدى قرّاء العبرية نوع من أنواع الاشتباك الذي يجسد المعرفة والوجود وهو علامة قوة ويساهم في خلق آفاق جديدة.

عايدة فحماوي-وتد: الترجمة في الحيّز الكولونيالي أداة للنضال أو الاستحواذ

"رمان الثقافية" تحدثت أيضاً، مع الدكتورة عايدة فحماوي-وتد الباحثة والمحاضِرة الأكاديمية في الأدب الحديث، في "أكاديمية القاسمي"، في مدينة باقة الغربية، وسألتها عن مدى مساهمة ترجمة الأدب الفلسطيني والعربي في مقاومة نظام الفصل بين اليهود والفلسطينيين ومبنى القوة الاستعماري بين اللغتين والتخلّص من النظرة الاستشراقية الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين؟ وإلى أي حدٍّ كانت هذه الترجمات -على قلتها- قادرة على اختراق الوعي الإسرائيلي؟ فأجابت: لستُ مخولّة للحديث عن ترجمة الأدب العربي إلى العبرية لأنّ دوافع الترجمة، السياق الجدليّ، والتراتبية بين اللغتين العربية والعبرية في العالم العربي ليست ذاتها كما هي في الحيّز الفلسطيني، حيث يسود الأبرتهايد الأدبي بشكل شبه كامل، لذا فحديثي هنا يقتصر فقط على ترجمة أدب فلسطينيي 48. هذا الجدل بين الموافقة على الترجمة ورفضها يعود بالأساس إلى خطاب له علاقة بإستراتيجية إدارة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، يمكن لفعل الترجمة أن يكون إستراتيجية كفاح تسعى لهدم الفكر الصهيوني الكولونيالي وسرديّاته. أما الترجمات التي لا تقع في هذا السياق يمكن رؤيتها كترجمات مبيّتة الغايات، وقد تتنوّع هذه "الغايات مسبقة البرمجة والأدلجة" بحثاً عن "الصورة النمطية"، ابتداءً من الترجمة كملاحقة سياسية تسعى لاغتيال الصوت الفلسطيني داخل لغته، وصولاً إلى نظرة استشراقية متعالية تسعى لتعزيز صورة سلبية عن الثقافة الفلسطينية. لذا فالسؤال برأيي هو: ماذا نترجم وكيف نترجم ومن يقوم على الترجمة حتى تكون الترجمة خطاباً يسهم في الخلخلة الفكرية واختراق وعي الثقافة العبرية؟

تتابع عايدة حديثها قائلة: من الهام أن يكون على رأس الترجمة من يؤمن بالحق الفلسطيني كاملاً غير مجزوء، وأن يكون واعياً لتقنيات الترجمة التي تقوم على أساس الفعل المقاوم، كما أنّ اختيار النصوص يجب أن يكون في إطار السرديّة الفلسطينية بالأساس، وعلى الفلسطيني أن يقوم بذلك أو يكون شريكاً فاعلاً وأساسياً في ذلك. فالترجمة في هذا السياق لا تسعى لـ "المصالحة والتعايش"، على العكس، هي ترجمة خطابها المقاومة الفكرية والنضال ورفض التطبيع الفكري والأسرلة.
 

يهودا شنهاف-شهرباني، المحرر الرئيسي لمكتوب، في أمسية لمكتوب عن اللجوء في الأدب الفلسطيني


بهذا التوجّه يتحوّل استعمال العبرية كلغة ترجمة إلى ما يشبه ممارسات اللغة في الأدب الأقلي (minor literature) بالمعنى الديلوزي (Deleuze & Guattari) بمعنى أن يُترجم أدب سياسي وجمعي يتناقض مع رسمية الأدب العبري السائد، مما يفرض حدّاً على معايير اللغوية للعبرية الرسمية، ولكي تكون الترجمة قادرة على فعل ذلك، على تلك الترجمة أن تكون قادرة على كتابة السرديّة الفلسطينية بـ"عبرية" ليست على "مقاس" القارئ العبري. وهي ما يُعرف في نظريات الترجمة ما بعد الكولونيالية باستراتيجيات التوطين والتغريب، يمكن النظر إلى استراتيحية التغريب على أنها شكل من أشكال الكفاح ضد التمركز الإثني والتمييز العنصري والنرجسية الثقافية لصالح علاقات سياسية ديمقراطية. كما يلعب هذا النوع من الترجمة دوراً حيوياً في إعادة بناء الهوية الوطنية ومقاومة الهيمنة الثقافية وهدم الأيديولوجيا الكولونيالية الاستيطانية. يمكن باستراتيجية التغريب سحب الجمهور إلى النصّ ووضع القرّاء وجهاً لوجه مع واقعية الاختلاف ومساءلة سيادة اللغة القياسية. بالتالي، يتم موضعة هذه النصوص كصوت أدبي أقلي داخل الثقافة العبرية، شرط أن تبُقي على العربية روحاً أساسية في تركيبة النصّ العبري المترجم، فتتحوّل العبرية من لغة إخراس إلى لغة تسرد الحكاية الفلسطينية، ومن لغة محو للمكان الفلسطيني (Toponymy) إلى لغة تعيد استحضاره. وتتحوّل من لغة السيادة والأكثرية، إلى لغة تفسح المكان للسياسي الجمعي النقيض والأقلي. وبذا يُفرض على العبرية أن تحوي داخلها العربة لغة وثقافة دون امتلاكها، بل  عبر هدم  الحدود اللغوية للعبرية "الصافية" المتّبعة واختراق الحيّز المريح للقارئ العبري وزعزعته لغوياً وفكرياً، فالترجمة التي ليست على "مقاس القارئ العبري" لا يمكنها ابتلاع النصّ الفلسطيني وهضمه وامتلاكه، بل يصبح النصّ الفلسطيني العلامة الأبرز لها، كصبّارة أصيلة، فيصبح القارئ العبري هو الغريب، المنفي داخل لغته، ويتبادل الأدوار مع الفلسطيني، فيصبح  السارد الفلسطيني عبر الترجمة (رغم منفويّته داخل العبرة) صاحب اللغة.

وتؤكد الباحثة والمحاضِرة الأكاديمية في الأدب الحديث، على أنه رغم أنّ الأدب يخسر كثيراً في معارك الترجمة في الحيّز الكولونيالي، وتصبح الترجمة أداة للنضال أو الاستحواذ. لكنّ الجدل يبقى مفتوحاً، فالتحدي ليس في فعل منجز الترجمة كفعل مقاوم فقط، ولا يتوقّف عند الانتهاء من ترجمة النصّ، فالترجمة جزء من نظام أدبي واسع؛ لذا يكمن التحدّي في اختراق النصّ الفلسطيني المترجم لهذا النظام، حاملاً معه سرديّة تتعارض بشدّة مع الأفراد والمؤسّسات والجماليّات المهيمنة ضمن هذه المنظومة التي تسيطر عليها المؤسّسة الكولونياليّة، لذا فالتحدي أيضاً في اجتراح آليات لاختراق سطوة المؤسّسة التي تصمّم الوعي تربوياً وإعلامياً في كل ما يخصّ السرديّات التي تتعارض مع هيمنتها. وهذا سؤال آخر جدير بالبحث على المدى الطويل.

من أبرز العناوين التي أصدرها "مكتوب" للكتّاب والكاتبات العرب والفلسطينيين حتى الآن؛ «أولاد الغيتو-اسمي آدم» و«ستلا ماريس» (نجمة البحر) وهي الجزء الثاني من «أولاد الغيتو»، و«مجمع الأسرار» للروائي اللبناني الياس خوري، و«زمن الخيول البيضاء» للفلسطيني إبراهيم نصرالله، و«النبيذة» للعراقية إنعام كجه جي، و«ذاكرة الجسد» للجزائرية أحلام مستغانمي، وقصة قصيرة للسوري زكريا تامر بعنوان «الأولاد يضحكون». كما صدر عنه كتاب «الرسائل» للراحلين محمود درويش وسميح القاسم، وكتابي «ابن رابعة» و«ماش على الريح» للراحل سلمان ناطور، وكتاب «مشية نعومي كامبل"، و«روتين» (مجموعة قصص قصيرة) للمقدسي محمود شقير. ومن أبرز إصدارات "مكتوب" أيضاً، كتاب بعنوان «بلسان مبتورة: أدب فلسطيني مترجم إلى العبرية» والذي جمع ثلاثاً وسبعين قصة من تأليف سبعة وخمسين كاتباً وكاتبة فلسطينيين من الداخل، ومن القدس المحتلة، والضفة الغربية، وقطاع غزة، والشتات الفلسطيني.

نقرأ في الموقع الإلكتروني لـ"مكتوب"، بتاريخ 29/08/ 2019، تصريحاً لالياس خوري، صاحب رواية «باب الشمس»، أوّل رواياته التي تُرجمت إلى العبرية، في حديث له (عبر السكايب) عن مشروع "مكتوب"، خلال ندوة حول "معاني الترجمة من العربية إلى العبرية"، مفاده أنه يعتقد أنّ "ترجمة هذا النوع من الكتب هي استراتيجية مناهضة ومقاومة، وخصوصاً الآن، في الفترة التي يسيطر فيها اليمين العنصري الفاشي في إسرائيل". 

محمد البيروتي: كيف أوصل لعناتي للصوص؟

رأيٌ أثنى عليه الأسير المحرّر الكاتب والروائي محمد البيروتي (رام الله)، الذي سألته "رمان الثقافية" بداية عن رأيه في مسألة ترجمة الأدب الفلسطيني إلى العبرية، وما هي فوائدها على صعيد الثقافة الوطنية الفلسطينية، وتحفظاته عليها إن وجدت؟ وما هو ردّه على من يرى أنّ في موافقة الكتّاب على ترجمة أعمالهم وإصدارها عن مشروع "مكتوب" وغيره من مشاريع ترجمة الأدب الفلسطيني والعربي، التي يعمل عليها أدباء الداخل المحتل بالتعاون مع شخصيات ثقافية يهودية، تأييداً للتطبيع الثقافي مع دولة الاحتلال؟ فقال: بداية، أثني على الرأي الشجاع الذي ورد على لسان الياس خوري بقوله: "أعتقد أنّ ترجمة هذا النوع من الكتب هي إستراتيجية مناهضة ومقاومة، وخصوصاً الآن، في الفترة التي يسيطر فيها اليمين العنصري الفاشي في إسرائيل". ويضيف صاحب رواية «مليحة»: المثقف هو ضمير الشعب وهو حارس الذاكرة والرواية وزارع الأمل ومثبت الصمود، وهو من يشدّ على يد من يحمل البندقية. وهو أيضاً، وهذا مهم، أداة الشتيمة والتحدي والمواجهة. هو من يكيل اللعنات. كيف أوصل لعناتي لهؤلاء اللصوص الذين سرقوا أرضي وتاريخي وحياتي وأحلامي، كيف أعرفهم بحقيقتهم، كيف أقول لهم بأنّ ما يأكلونه ويشربونه ويلبسونه مسلوب مني؟ كيف أقضّ مضاجعهم (إن تمكنت) بأنّ ذلك البيت الذي يأويك أيها اللص قد أوى أجدادي لعشرات القرون وربما بضعة ألفيات من السنين؟ أليس الفن صنعة؟ أليست الرواية والقصيدة صنعة؟ وأنّ هذه الصنعة كغيرها من سائر الصنع، تحتاج إلى الإتقان والمزيد من الإتقان. ومن ثم التسويق؟ يسأل محدثنا ويتابع مجيباً: هذه عين الحقيقة. نحن هنا في فلسطين ليس لنا سوى موضوع واحد تدور حوله كافة أعمالنا الأدبية، موضوعنا هو الوطن، نحن نطرقه بأشكال عدة، الحياة البسيطة في قرية عادية هي مقاومة، زراعة الزيتون والحفاظ عليه في مواجهة المستوطنين مقاومة، استعادة مياهنا بالخفاء من الأنابيب التي تغذي المستوطنات مقاومة، تمجيد المقاومين الفلسطينيين مقاومة، السير على الشوارع تحت تهديد التعرّض لإطلاق النار مقاومة، المشاركة في جنازات الشهداء اليومية مقاومة، الانطلاق في حافلات الصليب الأحمر الساعة الثالثة صباحاً لزيارة الأسرى مقاومة. تهريب نطفة لأسير كي يجدّد نفسه في عالم الحرية هذه أيضاً مقاومة. أدب السجون (وهو أدب وفير) مقاومة.

يتابع الروائي محمد بيروتي حديثه قائلاً: ربما لا أكون قد جافيت الحقيقة عندما أقول، إنّ كتّاب الأعمال الأدبية وبالذات الشعر والرواية في فلسطين يزيدون عن عدد القرّاء. وجميعهم بشكلٍ أو بآخر، يسعون بمستوياتهم المختلفة إلى تثبيت المقاومة. بقي أن أقول إن هناك فارقاً كبيراً بين صهيوني يعترف بحقوق ما لي كفلسطيني وبين صهيوني يتمنى أن يفيق في الصباح التالي ولا يجد فلسطينياً واحداً بين النهر والبحر. غير أنه علينا أن نتذكر، بأنّ كليهما، اليساري المتعاطف، واليميني الحاقد، هما في واقع الأمر معتديان. أحدهما لص شريف، يريد مشاركة الضحية ببعض ما سلبه منها، والآخر لا يرتاح ضميره إلّا إذا تخلص منها. اليساريون الإسرائيليون الحقيقيون، تركوا فلسطين وهاجروا، كالمؤرخ إيلان بابيه والمحامية فيليسيا لانغر. نحن بحاجة إلى أن نوجه كتابتها بصفتها رسالة ليس لهم، بل إلى أولئك العنصريين البغيضين. وأكرر ما ذكره إدوارد سعيد في النصّ المنسوب لإلياس خوري، "الترجمة هي فعل ثقافي فكري، وفعل مقاومة".