رهاب المشابهة: القرآن والشعر الجاهلي (Homoiophobia)

2022-11-24 15:00:00

رهاب المشابهة: القرآن والشعر الجاهلي (Homoiophobia)
مصحف من هرات، أفغانستان، من الحقبة التيمورية، 1434. متحف اسطنبول للفنون التركية والإسلامية

ولهذه الظواهر بالطبع أشباه ونظائر عند قدامى العرب كالاستعارة والتجانس والمطابقة والالتفات وحسن الخروج والرجوع وتجاهل العارف وردّ العجز على الصدر وغيرها من أصناف البديع كما ترد عند ابن المعتز وطوّرها فيما بعد حازم القرطاجني بعمق وفطنة لا مثيل لهما. 

في البدء لا بد من تعريف مصطلح "رهاب المشابهة" كي يستقيم الكلام اللاحق إذ ان هذا المصطلح بمثابة الركيزة الفكرية التي يستند إليها بحثنا هذا. تعود بي الذاكرة إلى حديث شيق جرى قبل ثلاثين عاماً بيني وبين عزيزٍ لا داعٍ يدعو لذكر اسمه، فلعله لم يعد اليوم يرى في هذا المصطلح ما أراه أنا من فائدةٍ تحليلية. على كل حال، نجم المصطلح من حوار طويل بين شخصين سعى كلٌ منا وعلى امتداد الحديث أن يشذّب ويصقل المصطلح لنجعل منه فكرةً قابلة للنقاش والتمحيص.

لاحظنا في البداية وجود ما أسميناه ظاهرة المتشابه ( أو المثيل أو الصنو أو البديل) وهي جميعها مترادفات لكلمة The Double بالانجليزية لكننا سرعان ما ميّزنا هذا المفهوم عن مفهوم The Double في قصص ادغار الن بو ودوستويفسكي الشهيرة بهذا العنوان، فقد اتفقنا أن ما نجده في هذه القصص هو نوع من انفصام الشخصية تحت وطأة الحداثة والذي يتردد صداه في بعض قصص كافكا. أما المتشابه الذي أردناه أن يكون محور اهتمامنا فهو الآخر أو الآخرون، وعرّفناه مبدئياً على النحو التالي: هو الشخص أو الأشخاص الذين يرى فيهم الإنسان تشويهاً خُلُقياً أو فكريا لذاته أو ما قد نسميه كاريكاتوراً له. وهذا المتشابه أو البديل قابل للتكيّف وليس ثابتاً عبر الزمن إذ قد ينقلب من شخص إلى آخر تبعاً لتقلب الأحوال. وكثيراً ما يكون هذا المتشابه أو المثيل أو البديل زميلاً أو شريكاً لنا في حقلٍ من حقول العمل أي أنه ينتمي إلى نفس الحِرفة أو الجماعة التي ننتمي إليها نحن. لكن بوسعنا أن نطرح تعريفاً إضافياً له وهو أنه الشخص (أو الأشخاص) الذي نشمئزّ أكثر ما نشمئز إذا خلط شخص ثالث بيننا وبينه ثم أثنى عليه فوضعنا نحن وهو في نفس المقام أو حتى في نفس سياق الكلام. وحينئذ ننتفض ونقول، جهاراً أو سراً، "أنا لست فلان الفلاني!!!" أو "أنا لست قريباً أو زميلاً له!!!" أو "أرجوك أن لا تخلط بيني وبينه!!!" ونجد في اللاحق أن احترامنا لعقل ذاك الإنسان الثالث والذي أبدى إعجابه بالشبيه قد زال أو كاد. وكثيراً ما يكون الشبيه هو الشخص الذي نطرب أيما طرب إذا سمعنا أنه تعرض للهزء والسخرية في مكان عام. لكن لا يعني ذلك أننا نفرح إذا أصابه أذى أو ضرر جسيم بل على العكس قد يصاحب شعورنا نحوه نوع من الشفقة أو التفضّل الآتي من أفضلٍ إلى مفضول، ولكن إلى حدٍ ما. فالنفي القاطع والغضب والاشمئزاز من جانبنا لأي مقاربة أو تشبيه بيننا وبين ذاك الشخص أو الأشخاص هو في الواقع ما قد نسميه رهاب المشابهة.

انتهى الحوار بيننا عند هذه النقطة وطفقنا فيما بعد نتساءل إذا كان تحديد الشبيه له أية فائدة طبية مثلاً، فلربما من شأن تحديد الشبيه أن يساهم في تخفيف حدة النفور منه وإلى إعادة التوازن والاستقرار النفسي إذا اضمحلّ تأثيره علينا. لم نعرض هذا المفهوم على أي عالمٍ نفسي لتقييمه ولم نتكلّف عناء البحث عنه في أدبيات علم النفس لنرى إذا كانت له سابقة أو إذا كان من الظواهر النفسية المعروفة، بل اكتفينا بطرحه على العديد من المعارف والأصدقاء عبر الزمن ووجدنا لديهم تقبلاً واسعاً له بل واعترافاً بوجوده عند الكثيرين منهم. وكان ذلك بمثابة حافزٍ لنا لتطوير هذا المفهوم من المستوى الشخصي إلى المستوى الجمعي: هل يا ترى نجد ما يماثله بين الأمم والحضارات والسلالات؟ هل كان الامويّون بمثابة الشبيه أو البديل للعباسيين؟ هل كانت حضارة بيزنطه بمثابة الشبيه أو البديل لحضارة الإسلام؟ هل الكاهن أو الشاعر هو شبيه أو بديل النبي؟ عند هذه النقطة تركني محاوري كي أتابع وحدي تقصي هذا المفهوم حيث أراه مفيداً ولعله كان حكيما فيما فعل، والله أعلم.

***

ماذا عن رهاب المشابهة في الحقل الأدبي؟ في العام ١٩٧٣ صدر كتاب هام للناقد الأدبي الأمريكي الشهير هارولد بلوم بعنوان The Anxiety of Influence أي «قلق التأثير» والذي أحدث دوياً واسعاً في أوساط النقد الأدبي في الغرب إذ كان من أوائل الكتب التي سعت إلى تحليل مفهوم التأثير الأدبي من خلال استخدامٍ متقن لنظريات نيتشه وفرويد على وجه الخصوص. غير أن الحقل الذي صال فيه المؤلف وجال كان حقلاً ضيقاً في الزمان والمكان وهو حقل الشعر الرومانتيكي الإنكليزي في القرن التاسع عشر تحديداً. وخلص المؤلف إلى تحديد وتعريف ستة ظواهر "لقلق التأثير" أطلق عليها أسماء لاتينية ويونانية، ولعله كان يبغي ربطها بعلم البديع عند اليونان والرومان كما عرّفه كوينتيليان الروماني ( ت. حوالي ٩٥ م.) مثلاً. وإذا أردنا مجاراة هارولد بلوم تلك التسميات فقد نطلق على رهاب المشابهة اسماً يونانياً هو "هومويوفوبيا".

ولهذه الظواهر بالطبع أشباه ونظائر عند قدامى العرب كالاستعارة والتجانس والمطابقة والالتفات وحسن الخروج والرجوع وتجاهل العارف وردّ العجز على الصدر وغيرها من أصناف البديع كما ترد عند ابن المعتز وطوّرها فيما بعد حازم القرطاجني بعمق وفطنة لا مثيل لهما. 

ما هي هذه المظاهر الست التي طرحها هارولد بلوم لأنماط التأثير بين المتأخر والمتقدم من الشعراء؟ وهل من بينها ظاهرة تُشبه رهاب المشابهة؟ الظاهرة الأولى هي "الانحراف" أي أن يأخذ المتأخر شعر المتقدم ثم "ينحرف" به جانباً في الاتجاه الذي كان على المتقدم أن يتّجه صوبه لكنّه لم يفعل. والثانية هي أن "يتمّم" المتأخر وبشكل تناقضي شعر المتقدم بحيث أنه يحافظ على ألفاظ المتقدم لكنه يسبغ عليها معانٍ أخرى. والثالثة هي صنف من "الانكماش" عند المتأخر وكأنه قد استنفد شاعريته، ثم يطبّق هذا الانكماش على المتقدم لكن انكماشه هو ليس انكماشاً بالمطلق. والرابعة هي أن "ينفتح" المتأخر على قوة الوحي عند المتقدم لكنه يرى أن هذه القوة تقع خارج نطاق المتقدم مباشرةً فينفي الفرادة عن شعر المتقدم. والخامسة هي أن "يتخلّى" المتأخر عن جزءٍ من موهبته التخيّلية كي يعزل نفسه عن الآخرين، بمن فيهم المتقدم، بحيث يخسر المتقدم أيضاً جزءاً من موهبته. والسادسة هي "عودة الموتى" حيث يشعر فحول الشعراء المتأخرين أن المتقدمين هم الذين يحاكونهم وليس العكس، وفحول الموتى يعودون لكنهم يتكلمون "بأصواتنا نحن." ويعقد المؤلف فصلاً خاصاً لكل ظاهرة من هذه الظواهر حيث يجري تفصيلها وتعزيزها بالشواهد الشعرية. 

وتجدر الإشارة هنا إلى أن النقد الأدبي عند العرب القدامى اهتم ايضاً بمسألة التأثير إذ نجد على سبيل المثال، وفي كتاب "الصناعتين" لأبي هلال العسكري (ت. حوالي ١٠٠٥ م.)، فصلاً معقوداً لما يسمّيه العسكري "حُسن الأخذ" وفصلاً آخر لـ "قبح الأخذ." يقول العسكري: "ليس لأحدٍ من أصناف القائلين غِنَى عن تنأول المعاني ممن تقدّمهم والصبّ في قوالب من سبقهم ولكن عليهم إذا أخذوها أن يكسوها الفاظاً من عندهم… ويوردوها في غير حِلْيتها الأولى… فاذا فعلوا ذلك فهم أحقُّ بها ممن سبق اليها." ثم يستشهد بقولٍ لعلي ابن ابي طالب : "لولا أن الكلام يُعاد لنفد." فالمعاني عند العسكري مُتَدأوَلة بين المتقدمين والمتأخرين فليس فيها عيب لأحد إلا إذا أخذه بلفظه حرفياً. والحاذق هو الذي " يُخفي دبيبه إلى المعنى يأخذه في سُترةٍ فيُحكَم له بالسبق اليه مَن يَمرُّ به". ثم يأتي العسكري بالشواهد الشعرية لأنماط حسن الأخذ وهي: الدبيب إلى المعنى وستره، ونقل المعنى من صفةٍ إلى أخرى (كالغزل إلى الخمر)، وزيادة المعنى في الأخذ زيادةً حسنه، والأخذ مع تحسين اللفظ والسبك والرصف، والأخذ الذي هو أبْيَن في المثل السائر، والبيت الواحد عند المتأخر الذي يختصر معاني أبيات عدة عند المتقدم، والأخذ مع تحسين التقسيم، والزيادة الحسنة من خلال الإتيان بضدّ المعنى. ويورد العسكري الكثير من الأشعار التي تُبيّن ما ذهب إليه في باب حسن الأخذ، أما قبح الأخذ فهو على النقيض من ذلك ولا داعٍ يدعو لتفصيله.

نعود الآن إلى سؤالنا المطروح أعلاه: هل في كل ما سبق ما يشبه رهاب المشابهة؟ قد نقول وبوجه عام إن الظاهرة الثانية من ظواهر هارولد بلوم، أي الإتمام بشكل تناقضي، والنمط الأخير من أنماط أبي هلال العسكري، أي الإتيان بضد المعنى، كلاهما يحومان حول رهاب المشابهة لكن لا يقعا عليه مباشرةً، الأمر الذي يشجع على الاستمرار بالتنقيب عن فائدته التحليلية. لكن من المفيد أن نشير في ختام هذا المقطع من البحث إلى أن العلاقة بين المتقدم والمتأخر من الشعراء عند أبي هلال هي علاقة لفظية لغوية فيما هي علاقة نفسية في الغالب عند هارولد بلوم مما يعني أن رهاب المشابهة هي أقرب إلى ظواهر بلوم منها إلى أنماط أبي هلال.

***

طالت هذه المقدمة بعض الشيء قبل الوصول إلى موضوعنا الرئيسي أي القرآن والشعر الجاهلي وهو موضوع يعلم الخاصة والعامة أنه كالبحر الزاخر الذي يرمي بنا إلى شواطئ لا حصر لها، إلى التراث الأدبي بكامله وإلى تفاسير القرآن وإلى كتب إعجاز القرآن وإلى علم الكلام وإلى كتب البلاغة على أنواعها وإلى التراث القاموسي وغيرها من علوم العرب، قديمها وحديثها. وإذا كان لهذا البحث أن ينتهي عند حدٍ معقول لا بد من الإيجاز ولو على حساب الدقة. 

قد نوجز علاقة القرآن بالشعر كما نجده في معظم الأعمال المذكورة أعلاه أن البلاغة القرآنية لا تضاهيها أية بلاغة، شعرية كانت أم نثرية، مهما سمت. هذا لا ينفي وجود بعض الآراء من هنا أو هناك التي شككت في هذا الأمر، بل و"عارضت" القرآن، لكن علماء الأمة في غالبيتهم المطلقة ينبذون أصحاب تلك الآراء ويصفونهم بأنهم هراطقة مارقون. ولعل المثل التالي يوضح ما ذهب إليه جمهور العلماء في هذا الصدد. ففي خضم تعريفاته لحُسن الأخذ يستشهد صاحبنا العسكري بأبيات الخنساء الذائعة الصيت في رثاء أخيها:

ولولا كثرةُ الباكين حَولي     على إخوانهم لقتلت نفسي

وما يبكون مثلَ اخي، ولكن     أُعزي النفس عنه بالتأسّي

ويضيف العسكري، وفي استشهاده الوحيد لآية من القرآن، أن الخنساء في شعرها هذا قد "قصّرت عن قول الله تعالى {ولن ينْفَعَكم اليوم إذ ظَلمتُم أنكم في العذاب مُشتَرِكون}." لا أدري ما العلاقة بين أبيات الخنساء وما جاء في هذه الآية ولا كيف "قصّرت" الخنساء اللهم إلا إذا كان رأي أبي هلال هنا هو بمثابة ما نسمّيه اليوم "تسجيل موقف" من جانبه، وهو موقف لاهوتي يتخلل كافة كتبه ويشاركه فيه معظم أدباء وعلماء الأمة: البلاغة القرآنية لا تسمو إليها أية بلاغة أخرى حتى ولو كانت بلاغة الخنساء.

***

آن الأوان أن ندخل في صلب موضوعنا والبداية لا بد من أن تكون ما جاء في القرآن عن الشعر والشعراء، وما "الشبيه" الذي قد نلمحه من وراء تلك الآيات. والشاهد الكلاسيكي والأول هو بالطبع الآيات ٢٢٤ إلى ٢٢٧ من سورة (الشعراء) ثم تليه الآية ٦٩ من سورة (يس) ثم تليه ثلاث آيات أخرى من ثلاث سُوَرٍ مختلفة تربط الأولى بين الشعر والجنون، أيّاً يكن معنى الجنون في تلك الآية، وتردد الثانية كلام أعداء النبي من أنه شاعر {نتربّص به ريبَ المنون} والثالثه تنفي الشعر عن كلام الله { وما هو بقولِ شاعرٍ قليلاً ما تؤمنون}. هذه إذاً هي الآيات التي تشير إلى الشعر والشعراء بالتحديد، غير أن فضاء المعاني قد يكون أوسع بكثير ليشمل مثلاً لفظة "شياطين" في القرآن والتي لعلها الصدى ولو من بعيد للشعر والشعراء. على كل حال، دعنا نلتفت أولاً إلى بعض الآيات المذكورة أعلاه ثم نلجأ لاحقاً إلى الفضاء اللغوي الأوسع حيث يمكن تبرير ذلك.

يبدو لي أن الاشمئزاز القرآني من الشعر والشعراء واضح وجليّ في كافة هذه الآيات التي تذكر الشعر بالتحديد، مع وجود نوع من المسامحة والتفضل للبعض منهم {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيراً وانتصروا من بعد ما ظُلِموا}. ويأتي النفي القاطع لايّ تشابه بين كلام الله والشعر في آياتٍ كمثل {وما هو بقولِ شاعرٍ قليلاً ما تؤمنون} ولعل الأقرب إلى النفور الشخصي هو ما جاء في الآية {وما علّمناه الشعرَ وما ينبغي له إن هو إلا ذِكرٌ وقرآن مبين}. وإذا تأملنا قليلاً {وما ينبغي له} نجد أن معظم كُتُب التفسير تفسّرها على أنها تعني أن الشعر لا يليق بالنبي ولا يصلح له. لذا فهو امرُ يتصل بمكانته وكرامته الشخصية من جهة وبصياغة وإبلاغ رسالته الإلهية من جهة أخرى. أما الآيات المتبقية للتأمل هنا، أي ما جاء في وصف سلوك الشعراء {ألم ترَ أنهم في كلِ وادٍ يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون} فثمة من يفسرها مجازياً أنهم حادوا عن الصراط المستقيم وأنهم كاذبون. وهذا بالطبع يشدد على التناقض الخُلُقي التام بين الشعراء والأنبياء، لكن هل بالإمكان أن نفهم هذه الآيات حرفياً ونجد لها أصداء في المعلقات مثلاً؟ يبدو لي أننا إذا استنطقنا المعلقات نجد أن الهيام في الأودية والقفار ثيمة رئيسيّة في شعرهم يوجزها لبيد في أبياته الشهيرة:

أولم تكن تدري نَوارُ بأنني....

ترّاك أمكنة إذا لم أرضَها   

أو في بيت للنابغة يعتذر فيه لأبي قابوس:

ها إنَّ تًعذِرةٌ، إلا تكنْ نفعت     فإن صاحبها قد تاه في البلد

ولا أرى حاجةً تدعو للاستشهاد بغير هذه الأبيات، فالمعلقات تزخر بوصف الشاعر الذي يهيم على وجهه باستمرار في البراري والأودية وكأنه يحاذر الموت بالتحرك الدائم. أما أنهم يقولون ما لا يفعلون فهو اتهام بالكذب بشكل عام لكنه يتضمن أيضاً في رأيي البطولات التي ينسبها الشعراء إلى ذواتهم حين يفتخرون وهي أيضاً شائعة جداً عند شعراء الجاهلية. وينبذ القرآن هذا التفاخر في آيات كمثل {إن الله لا يحب كل مختال فخور} و {اعلموا إنما الحياة الدنيا لعبٌ ولهو وزينة وتفاخر بينكم} وكأنها تصف بدقة تصرفات بعض الشعراء. والتفاخر في ذلك الزمن: أليس هو في أفدح مظاهره وأقربها إلى الحفظ والذاكرة وأكثرها شيوعاً عند أهل الجزيرة العربية ما نجده في الشعر الجاهلي؟

لذا، وفي ختام هذا الجزء من البحث لنا أن نشير إلى أن رهاب المشابهة بين كلام الله ومكانة رسوله فيه وبين المعلقات والشعر الجاهلي هو أمر نراه جليّاً فيما تقدّم، أما فضاء المعاني الأوسع فسوف نلتفت إليه أدناه.

***

ينحصر بحثنا هنا، وفي الاغلب، بالمعلقات لأنها أبعد عن التشكيك بصحتها من سائر الشعر الجاهلي رغم أن التشكيك الجذري في هذا الشعر، كما في كتابات المستشرق مارغوليوث وكتاب عميد الأدب العربي طه حسين، قد سقط اليوم على قارعة الطريق ولم يلتقطه أيُّ عالمٍ ذي شهرة. وحصرُ البحثِ بالمعلقات هو أيضاً لأجل اختصار البحث واقتصاره على مجموع معيّن من الشعر الجاهلي رغم وجود شواهد عديدة أخرى في الشعر الجاهلي الأوسع.

***

قد تكون البداية من الآيات ١١٢ـ ١١٣من سورة (الأنعام) : {وكذلك جعلنا لكلِّ نبي عدوّاً شياطين الإنس والجِنّ يوحي بعضهم إلى بعضٍ زُخرفَ القولِ غُروراً ولو شاء ربك  ما فعلوه فذَرهم وما يفترون. ولِتَصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليَقْترِفوا ما هم مقترفون}. المسألة الأولى هي أن لكلِّ نبي من الأنبياء عدو شيطان، إنسي أو جِنّي، ينتصب أمامه ويشاركه في الوحي لكن في الوحي الزائف، لذا فهم في الحقل ذاته لكن ما يأتي به النبي هو الوحي الحق بينما الذي يأتي به العدو/الشبيه هو نقيض ذلك وتشويهٌ للحق. أما لفظة "الشياطين" فلها في كتب التفاسير والمعاجم ذكرٌ طويل عريض لكن ما يهمنا هنا هما معنيان اثنان: أولاهما أن كل متمرد فاسد هو شيطان، وثانيهما هو شيطان الشعر أي الوحي الذي يأتي إلى الشاعر، وهو من نمط الإلهام الذي مصدره الجن والابالسة. والآية التي تسبق مباشرةً { والشعراء يتبعهم الغاوون} وهي {هل أُنّبِئُكم على من تنزَّل الشياطين} تربط بين الشياطين والشعراء بوجه جليّ. المسألة الثانية هي زخرفة القول والغرور، فالزخرف من القول هو ما يكون باطنه فاسداً وظاهره حسناً ومُزيّناً أما الغرور فهو استمالة أفئدة السامعين إلى قبول ذاك الزخرف. ويكفينا أن نقول في هذا الصدد ما يلي: لا جدال أن أحسن من زخرف القول هم الشعراء خصوصاً الذين لا يؤمنون بالآخرة كما في أبيات طرفة مثلاً:

ألا أيهذا اللائِمي أحضرُ الوغى وأن اشهدَ اللذات، هل أنت مُخّلدِي؟

فإن كنت لا تستطيع دفع منيتي     فدعني أُبادرها بما ملكت يدي 

فكأنه يقول لا خلود ولا آخرة ولا شيء بعد المنيّة.

غير أن النفور والاشمئزاز من الشعر والشعراء يمتدُّ في رأينا عبر آيات أكثر بكثير من آيات سورة (الشعراء) الواردة أعلاه، كما وقد نلجأ إلى الاستشهاد بين الفينة والأخرى بغير شعراء المعلقات. 

لنلتفت الآن إلى لفظة "الدهر" والتي ترد مرّتين فقط في القرآن لكن إحداهما هي التي تهمّنا في هذا المقام وهي الآية ٢٤ من سورة (الجاثية) : {وقالوا ما هي إلا حياتُنا الدنيا نموتُ ونحيا وما يُهلِكُنا إلا الدهر} ويأتي جواب هذا القول في الآية ٢٦ :{قُلِ الله يُحييكم ثم يُميتُكم ثم يَجمعُكم إلى يومِ القيامة لا ريب فيه ولكن أكثرَ الناس لا يعلمون}.

وإذا تتبعنا لفظة الدهر عند الشعراء نجد لها حضوراً كثيفاً، وهي عند العديد منهم بمثابة معتقدهم "اللاهوتي" الأبرز والأوضح والذي يرتبط بشكل وثيق بسلوكهم الشخصي أي بمطاردة اللذات الدنيوية، إذ لا حياة ولا دنيا سوى تلك التي بين أيدينا. والدهر عندهم ليس إلا الزمن الممتد بين الولادة والموت، كما في بيتٍ لطرفة:

أرى الدهرَ كنزاً ناقصاً كلَّ ليلةٍ     وما تنقُص الايّامُ والدهر ينفَدُ

والدهر عند البعض موعظة كما في بيتٍ لعبيد ابن الأبرص:

لا يعظ الناسَ من لا يَعِظ ال     دهرُ ولا ينفعُ الّتلبيبُ 

والتلبيب هو التحذير الشديد اللهجة. 

وللدهر في الشعر تجليات متعددة منها مثلاً "ريب المنون" كما في بيت الأعشى:

أإن رأت رجلاً اعشى أضرَّ به     ريبُ المَنُونِ ودهرٌ مُفْنِدٌ خَبِلُ؟

والفند والخبل بمعنى واحد أي الفساد الذي يودي إلى الحتف. أما المنون فهي المنيّة و"سُمّيِت منوناً لانها تنقص الأشياء" كما في شرح التبريزي للمعلقات العشر. 

ومن تجلياته الأخرى أنه إذا طال يُسلي وينسي كما في بيت لبشر ابن أبي خازم:

ألم ترَ أن طولَ الدهر يُسْلي     ويُنسي مِثلَ ما نُسِيت جُذامُ 

ولنا عودةٌ إلى النسيان أدناه. 

وللدهر "بنات" أي حوادثه ومصائبه كما في بيت للمُمزَّق العبدي: 

هل للفتى من بناتِ الدهر من واقِ     أم هل له من حِمام الموتِ من راقِ؟

ويصف المرقش الأصغر الدهر بأنه "غشوم" أي ظالم غاصب فيما يصفه الأسود النهشلي بأنه "يُعقِب صالحاً بفساد." وإذا سلّمنا أن المنية والمنايا وريب المنون هي من وسائط الدهر وتجلّياته نجد في بيتٍ لزهير الوصف الأكثر شهرةً لها:

رأيتُ المنايا خبطَ عشواءَ من تُصب     تُمِته ومن تُخطئ يُعمّر فيهرم

عالم الشعراء إذاً هو عالمٌ "عشوائي"، عصيّ على الفهم، يُصيب ويخطئ وكأننا في ساحة الوغى، أو كأننا نحيا تحت حُكمِ جبّار ظالم غشوم كالنعمان ابن المنذر، ملك الحيرة، الذي كان له يوم بؤس ويوم نعيم لمن يدخل عليه. والموت نهايةُ كلِّ شيء في هذا العالم، جماداً كان أم حيّاً، فكل ما عليها إلى فسادٍ مُحتّم لا رجعة فيه كما في بيتٍ لعبيد ابن الأبرص: 

وكلُّ ذي غيبةٍ يَؤوب     وغائبُ الموت لا يؤوب

والنسيان يواكب الموت كما في بيت بشر ابن أبي خازم أعلاه، إذ نحن في عالمٍ يمحي ويسحق حتى الذاكرة البشرية فلا يبقى لنا سوى هذا الحاضر المرير الغامض المتقلّب الذي يفرض على كل إنسان أن يخلق لنفسه المعنى الذي يلائمه في عالمٍ لا معنى له. 

بالعودة إلى آية الدهر، أعلاه، نجد أن اللفظة ذاتها منبوذة في القرآن فهي لا ترد سوى مرةً واحدة فحسب بالمعنى الذي يهمنا هنا. والأمر ذاته يقال في المنية والمنايا التي لا ذكر لها على الإطلاق سوى في آية وحيدة استشهدنا بها سابقاً وهي الآية ٣٠ من سورة (الطور) حيث الإشارة إلى الشعراء جديرة جداً بالاهتمام في هذا السياق: {أم يقولون شاعرٌ نتربص به ريبَ المنون}. 

فالنفور من هذا "اللاهوت" الجاهلي، الذي يجعل سلطان الدهر هو الحاكم الآمر في كافة منعطفات الحياة وهو الذي يضع حدّاً نهائياً لها، هو نفورٌ واشمئزازٌ لا يحتاج إلى توضيح. فالقرآن ينبذ لاهوت الدهر/الشبيه هذا بالكامل ويضع مكانه لاهوتاً يجعل الله هو الذي يمنح الحياة معناها وبدايتها ونهايتها: لاهوتٌ صادقٌ حق ضد لاهوت زائف مزيّن بزخرف القول. أما النسيان الجاهلي فالذكر والذكرى ترد في القرآن بكثافة ما بعدها كثافة، والذكرى القرآنية هي التي تربط الماضي بالحاضر والمستقبل كي لا ينخدع الإنسان بهذه الحياة الجاهلية الفانية. أما الأطلال التي يبكي عندها العديد من الشعراء فليس الدهر وصروفه هو الذي أودى بها بل ريحٌ {تُدمّر كلَّ شيء بأمر ربها فاصبحوا لا يُرى إلا مساكنهم} وهذا الدمار للمنازل ومن جنسه الكثير الكثير في القرآن هو عقاب الكافرين {وما أصابكم من مصيبةٍ فبما كسبت أيديكم}. 

لكن تجدر الإشارة أن مفهوم "اللاهوت الجاهلي" قد يكون أكثر تعقيداً مما ورد أعلاه ولا ينحصر بالدهر فحسب، إذ ثمة بعض شعراء الجاهلية ممن يؤمن بالدهر وبالله معاً كما مثلاً في ثلاثة أبيات لعبيد ترد في معلقته قبل بيت "موعظة الدهر" مباشرة ومنها:

من يسألِ الناسَ يحرموه     وسائلُ اللهِ لا يخيبُ

أو في بيتٍ لزهير:

فلا تكتُمُنَّ اللهَ ما في صدوركم     لِيخْفى، ومهما يُكتَمِ اللهُ يَعلَم

ثم يأتي زهير في البيت اللاحق على ذكر "يوم الحساب".

وفي القرآن أربعة آيات بداياتها جميعها كالاتي { ولَئن سألتَهم مَن خلقَ السماوات والأرض} يأتي الجواب في ثلاثة منها {هو الله} وفي الرابعة {خلقهنَّ العزيز العليم}. غير أن القرآن يصف أصحاب تلك الأجوبة في الأولى بأنهم {يُؤفَكون} وفي الثانية بان {أكثرُهُم لا يعلمون} وفي الثالثة {قُل أفرأيتم ما تدعون من دون الله} وفي الرابعة وفي أبيات لاحقة تتصل بالرحمن {ما لهم بذلك من علمٍ إن هم إلا يخرُصون}.

لا يسمح المجال هنا للخوض في مفهوم "الله" عند شعراء الجاهلية وغيرهم لكن من الواضح أن القرآن يجد في مفهومهم هذا تخبّطاً وتشويهاً للمفهوم الحق، الأمر الذي نرى أنه يتمّم ويعزّز ما جاء أعلاه حول "الدهر".

ويتصل مفهوم الدهر اتصالاً وثيقاً بمفهوم الموت عند الشعراء ونجد هنا أن الشاعر الجاهلي إمّا لا يأبه بالموت، وهو جانبٌ هام من بطولته، أو يرى فيه نهاية مطلقة للحياة توجب عليه أن يستخلص العِبَر المناسبة من تلك الخاتمة النهائية. يقول الشنفرى مثلاً:

إذا ما أتتني مِيتَتي لم أُبالها     ولم تُذرِ خالاتي الدموع وعمّتي

ويقول الأسود النهشلي ان كلَّ نعيمٍ إلى زوالٍ تام:

فإذا النعيمُ وكلُّ ما يُلهى به     يوماً يصيرُ إلى بِلىً ونفاد

وحتميّة الموت هي التي تضفي البطولة على الشاعر الذي يتجلّد ولا يجزع كما في أبيات أبي ذؤيب المشهورة:

أمِن المنون وريبها تتوجَّع     والدهرُ ليس بمعتبٍ من يجزعُ

....

وتجلُّدي للشامِتين أُرِيهِمُ     أني لرَيْبِ الدهر لا اتضعضعُ

وتقول سُعدى الجُهنية في رثاء أخيها:

أفَليسَ فيمن قد مضى لي عبرة     هلكوا وقد ايقنتُ أنْ لن يرجعوا

ولا يبقى للفارس/ الفتى سوى الأحاديث عن بطولته كما في أبيات عُروة بن الورد:

أحاديث تبقى والفتى غير خالدٍ     إذا هو امسى هامةً تحت صَيِّر

...

فإن فاز سهمٌ للمنية لم أكن     جزوعاً وهل عن ذاك من متأخرِ

ولا يبقى من الميت سوى العظام كما في بيت لأبي محجن الثقفي:

إذا مُت فادفِنّي إِلى أصلِ كَرمَةٍ     تُروّي عظامي في التراب عروقُها

وقد نضيف هنا أن للكثير من صور الموت أعلاه ومن تجلّد الأبطال في مواجهته أشباهُ ونظائر في الأدب الملحمي عند سائر الأمم.

وينبذ القرآن هذا المفهوم للبطولة والموت بالكامل. فالأبطال في القرآن هم المؤمنون والمؤمنات وشيمتهم الصبر والتوكّل والإحسان وغيرها من شِيَم الإيمان الحق. ولعل أكثر ما يميّز خطاب الكافرين في القرآن هو رفضهم المطلق للبعث من القبور: {وقالوا أإذا كنا عظاماً ورفاتاً أإنا لمبعوثون} ويأتي الجواب القاطع {قال من يحيِ العظام وهي رميم قل يُحييها الذي أنشأها أول مرة}. وهذه الشكوك حول إحياء الموتى تتكرر بأشكال عدة في القرآن.

***

أتينا أعلاه على ذكر بعض أنماط السلوك عند الشعراء وننتقل الآن لنستعرض أنماط أخرى منه والتي تثير عِيافةَ القرآن واشمئزازه. من هذه الخصال الجاهلية مثلاً تبذير المال خصوصاً على اللذات كما في بيت لطرفة:

وما زال تشرابي الخمورَ ولذَّتي     وبيعي وإنفاقي طريفي ومُتلدي

أو في بيت لعنترة:

فإذا شربتُ فإنني مستهلكٌ     مالي، وعِرضي وافرٌ لم يُكلم

أو في بيتٍ للحادرة:

ونقي بِآمن مالنا احسابَنا     ونُجِرُّ في الهيجا الرماحَ وندّعي

أو في بيت للمُثقِّب العبدي:

لا يبالي طيّبُ النفس به     تلفَ المالِ إذا العِرض سَلم           

وقد نُجمِل هنا فنقول إن بذل المال بلا حساب في ملذّات الحياة أو دفاعاً عن عِرض القبيلة وشرفها ثيمةٌ شائعة جداً في الشعر الجاهلي، الأمر الذي يثير حفيظة القرآن ونفوره إذ يرى في ذلك تبذيراً يلامس حد الكفر {ولا تُبذّر تبذيراً إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين}. وإذ قد ربطنا أعلاه بين الشياطين والشعراء فالإشارة هنا إلى الشعراء لربما نراها واضحة في هذا السياق.

ومن خصال الجاهلية الذائعة الصيت في الشعر التشبيب بالنساء ولعل أكثره فجوراً في رأي العديد من أدباء فجر الإسلام هو ما جاء في معلقة امرؤ القيس الذي ولشهرته لا يستدعي الاستشهاد به هنا. وليس من السهل أن نرسم صورةً عامةً للمرأة في الشعر الجاهلي ففيها تلوّنٌ وأطياف من المعاني لا حصر لها لكن ما يهمنا هنا هو تلك الصور التي أثارت أكثر ما أثارت نفور القرآن واشمئزازه. ويبلغ الفجور والفحش مداه في الشعر حين يصف الشاعر ادق تفاصيل الوطء كما في بيتٍ للأعشى يصف فيه الفَرْج:

نِعمَ الضَّجيعُ غَداةَ الدَّجن يصرَعُها     لِلَذّةِ المرءِ، لا جافٍ ولا تَفِلُ

ويزخر الشعر الجاهلي بأوصاف جسد المرأة: عينها وفمها واسنانها وبطنها وثديها وخدّها وخصرها وريقها وشعرها وعنقها ورائحتها وعَجُزها، كما وبزينتها وحليها ومشيتها وإلى ما هنالك. أما في التشبيهات فيُشبهها الشعراء بالبقرة والظبية والقطاة والشاة والنعجة كما وبالدرة والدمية وبالبدر والشمس إلى آخره. ولا نجد مثيلاً لكثافة الأوصاف هذه سوى حين يصف الشاعر مطيّته، أي الناقة أو الفرس.

وكثيراً ما نجد في ذلك الشعر أن المرأة بمثابة الطريدة التي تُقتَنَص كما في أبيات لعنترة:

يا شاةَ ما قنصٍ لمن حلّت له     حَرُمت عَليّ، وليتها لم تَحرم 

فبعثتُ جاريتي فقلت لها: اذهَبي     فتجسسي أخبارها لي واعلمي

قالت: رأيت من الأعادي غِرّةً     والشاة ممكنةٌ لمن هو مُرتَمي

والمرتمي هو الرامي برمح أو بسهم وهو هنا الصيّاد. والحب ذاته بمثابة الصيد كما في بيت للاعشى:

فكلنا مُغْرَمٌ يهذي بصاحِبِه     ناءٍ ودانٍ ومَحْبولٌ ومُحتَبَل

والحِبالة هي شَرَكُ الصيّاد، أي الصائد والمَصيد. فلا غرابة إذاً في "الضجيع" الذي "يصرع " الانثى حين يظفر بها كما في بيت الأعشى المذكور سابقاً. ويتكرر التشبيه بالصيد في قصائد الجاهلية ومنها مثلاً بيتٌ للمرقّش الأكبر:

فما بالي أفي ويُخان عهدي     وما بالي أُصادُ ولا أصيدُ    

وباستطاعتنا لو شئنا أن نستخلص من الشعر الجاهلي صورةً كاملة الأوصاف لجسد المرأة المثالي، فيرسم لها رسّام ٌ بارع في يومنا هذا صورةً تطابق الأصل، فهي عند العديد من الشعراء ضخمة العَجُز، رقيقة الخصر، طويلة الذراع والعُنُق، كاعبٌ بيضاءُ الثدي، خميصة البطن، كبيرة الخَلْق، حوراء العين أي شدة سوادها مع شدة بياضها، وغيرها من الأوصاف الدقيقة كالكاحل والقدم وما شابه. 

وماذا عن المرأة في القرآن؟ لا بد هنا من بعض التعميم والإيجاز وذلك بسبب تعقيدات هذا الموضوع وتفرّعاته. يخاطب القرآن بالتحديد والتصريح الجليّ وبتكرارٍ كثيف جداً الرجال والنساء على حدٍ سواء، وهذا ما لا نقع عليه في أيّ من الكتب السماوية المعروفة لديّ، ولعل أشهرها الآية ٣٥ من سورة الأحزاب: {إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات} الآية، فقد {اعدّ الله لهم مغفرة واجراً عظيما}. والوعد بالجنة يشمل الجميع فلا يبقى أدنى شك أن المساواة في هذا الوعد تامة بين الجنسين. 

ولعل العفة هي من بين أبرز خصائل المرأة الدنيوية في القرآن، أما امرأة الآخرة فهي بمثابة زوجة روحيّة إذ لا إثم ولا فحش ولا لغو في الجنة، فالجنة ليست مرتعاً للّذات الجنسية كما يحلو لبعض الجهلة، قديماً وحديثاً، أن يتخيّلوها. والأمر هنا يشبه خمر الجنة الذي يضفي اللذة على شاربيه لكن بدون أن يؤدي إلى السُكر واللغو والفحش، فهو أيضاً خمر روحي إذ هم {لا يُصدَّعون عنها ولا يُنزفون}.  ولا نجد للمرأة الدنيوية أي وصف جسدي سوى غض الطرف والحشمة في اللباس، لكن نجد لها بعض الأوصاف الجسدية في الجنة ومنها مثلاً الحور العين { كأمثال اللؤلؤ المكنون} والكواعب الأتراب والأبكار.

والنفور والانقباض القرآني من التشبيب بالنساء لا يحتاج إلى شرحٍ مطوّل إذا تأمّلنا مليّا ما ورد أعلاه، ففي كافة ما جاء عن المرأة في الدنيا والآخرة نرى الاشمئزازَ واضحاً من امرأة الشعر الجاهلي وكأننا على طرفي نقيض. وتجدر الإشارة هنا إلى أن بعض أصداء الأوصاف الجاهلية للمرأة كالحور العين والكاعب والأبكار تتكرر عند امرأة الآخرة، الامر الذي قد نلمح فيه خيوط النفور الذي ينفي أي تشابه بين المرأتين.

***

هذا النفور من الشعر الجاهلي يمتد في رأينا عبر أطياف متعددة من المعاني العامة كما ومن أنماط سلوك الشعراء التي أشرنا إلى البعض منها أعلاه، كالتفاخر والتبذير والسَكَر الذي يصرف الإنسان عن ما يجب عليه أن يفعله أو يسلب العقل كما في بيتٍ لعمرو بن كلثوم:

تَجُورُ بذي اللُّبانة عن هواه     إذا ما ذاقها حتى يلينا 

 أي حتى يسكر عن حاجته، أو في بيتٍ للاعشى:

لا يستفيقون منها وهي راهنةٌ     إلا ب "هاتِ" وإن علّوا وإن نهِلوا

فهم كالنيام الذين لا يستفيقون إلا بقولهم "هاتِ" للساقي.

فالسَكَر الذي يتغنّى به الكثير من الشعراء كأحد أشهى اللذات هو بالضبط ما يثير الانقباض والاشمئزاز في القرآن لأنه تغييبٌ للعقل والفهم الذي يجب أن يتحلّى به المؤمنون: {لا تقربوا الصلاة وأنتم سُكارى حتى تعلموا ما تقولون} ويصف القرآن أهوال يوم القيامة: {وترى الناس سُكارى وما هم بسُكارى ولكن عذاب الله شديد} فمن عذابات ذلك اليوم أن يصبح الناس كالسُكارى الذين لا يعون ما يجري حولهم، فالسكر إذاً صنفٌ من أصناف العذاب الإلهي. ولا حاجة لنا هنا للاستشهاد بالكثير، والكثير جداً، من الآيات التي تحث المؤمنين والمؤمنات على الفهم والتعقل وأخذ العبرة من الماضي كما ومن الطبيعة حولنا وإلى ما هنالك من أصناف الاستعبار، فتتكرر {أفلا تعقلون} و {لعلكم تعقلون} في أربعة وعشرين آية، هذا بالإضافة إلى آيات لا حصر لها والتي تربط بين الإيمان وإمعان النظر، مما ليس له مثيل في الكتب السماوية المعروفة لدي. لذا فالسَكَر الذي كثيراً ما يثلج صدور الشعراء ما هو إلا تشويهٌ وانحراف وإفساد للعقل البشري، هذا العقل الذي يصفه القرآن بأنه يوفّر البرهان الأمثل على وجود الله الخالق الأحد. 

وكما الخمر كذلك الميسر الذي يجد فيه العديد من الشعراء ميداناً للتفاخر أو الندى كما في بيتٍ للمنخّل اليشكري:

ألفيتني هشَّ الندى     بشَريجِ قِدحي أو شجيري

والقِدح والشجير من سهام الميسر أي القمار؛ أو في بيت لعوف بن عطيه:

فإذا قمرتُ اللحم لم انظر به     نيئاً كما هو ماؤه شرقَ الغد

أي يكسب الأضاحي بالقمار فيطعمها قومَه فوراً ولا ينتظر الغد، فينتشر بذا خبر كرمه بين الناس؛ أو في بيتٍ لطرفة:

وأصفَرَ مَضبوحٍ نظرتُ حوارَه     على النار واستودعته كفَّ مجمد 

 والإشارة هي إلى المقامرة والتفضل باللحم على الغريب.

ومن الواضح أن المقامرة والميسر هما من مفاخر شعراء الجاهلية لأنها تدل على الغِنى والسيادة والكرم، وجميعها أمور عبثية في القرآن إذا لم يقترن بها، وعلى التوالي، التصدّق وطاعة الرسول وأولي الأمر والامتناع عن التبذير.

ويجمع القرآن بين الخمر والميسر في آيات ثلاث لعل أقربها إلى ما نحن فيه هي الآية التالية: {إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدّكم عن ذكر الله} فيذكر العداوة والبغضاء كأسباب إضافية لإثم الخمر والميسر، بالإضافة إلى الصد عن ذكر الله. وفي هذا كله طيفٌ واسعٌ جداً من المعاني التي تتكرر في الشعر والتي ينفر منها القرآن بدرجات متفأوتة من النفور أو بتوضيح معناها ومجالها الحقيقي (الغِنى، السيادة، الكرم) ونبذ أي تشويه لها.

***

وقد نشير هنا إلى أصناف أخرى من المعاني، كالملوك مثلاً، والتي ينفر منها القرآن. والمَلِك، كالمرأة، له صورٌ معقدة ومتضاربة في الشعر الجاهلي ولا يمكن لنا أن نُعمّم الكلام عنها. لذا فإن ما يهمنا هنا هو بعض تلك الصور التي ينقبض منها القرآن، كما سيرد ادناه. 

صورتان منها تكفينا: مديح الملوك الجبابرة والذي يلامس الالوهية والنبوّة، وصورة البطل/الشاعر الذي يفتخر بمقاومته وتحدّيه لهؤلاء الملوك. 

ومديح الملوك متواتر في الشعر ونكتفي هنا بالقليل القليل منه. ففي أبيات للحارث بن حلزه نقرأ ما يلي:

فملكنا بذلك الناسَ حتّى     مَلَكَ المنذر بن ماء السماء

وهو الربُّ والشهيد على يو     م الحيارين والبلاء بلاء

ملكٌ أضلعَ البريّة ما يو     جد لما يديه كفاء

وفي بيتٍ للممزَّق العبدي:

وانت عمود الدين مهما تقل يُقَل ومهما تضع من باطلٍ لا يُلَحَّق

وفي بيتٍ لعِلباء بن أرقم:

وإن يد النعمان ليست بكَزَّة ولكن سماء تمطر الوَبْل والدّيم

ورحلة الشاعر كثيراً ما تنتهي في بلاط الملوك كما في أبيات النابغة:

فتلك تُبلِغُني النّعمان إن له فضلاً على الناس في الأدنى وفي البَعَد

ولا أرى فاعلاً في الناس يُشبِهُهُ   وما أُحاشي من الأقوامِ من أحدِ

إلا سليمان....

فالملك هنا، وكما يرد في الأبيات التي تلي تلك، هو في مصاف الأنبياء، والنعمان وريث سليمان في الحكمة وتبيان الرشد ومكافأة المطيع ومعاقبة العاصي. 

وإذا توخينا الايجاز فقد نحصر النظر بِسِمتين بارزتين من هذا المديح الشائع جداً في الشعر وهما الندى المُشبّه بمطر السماء، والملك/الرب، الواجب الطاعة (عمود الدين)، والذي يفصل بين الحق والباطل.

أما ذم الملوك وتحدّيهم، بل وقتلهم، فلعله مبعثَ الفخرِ الأكبر عند الشعراء، إذ نلمح في بيتٍ لجابر بن حُنّي التغلبي ان الملوك كان لها حُرمة يستبيحها قوم الشاعر:

نُعاطي الملوكَ السِّلمَ ما قصدوا بنا وليس علينا قتلُهم بمحرَّم

وعصيان الملوك من المآثر التي تُحتسب لقومٍ ما كما في معلقة عمرو بن كلثوم:

أبا هند فلا تعجل علينا وأنظرنا نخبّرك اليقينا

....

وأيامٍ لنا غُرٍ طوالٍ عصينا المَلْكَ فيها أن نَدينا

وأبو هند هو الملك عمرو بن هند.

ويصل ذم الملوك إلى حد الشتم والتحدي السافر، كما في أبيات يزيد بن الخَذّاق:

نُعمانُ إنك خائن خدِعٌ يخفي ضميرك غيرَ ما تُبدي

فإذا بدا لك نحتُ أثلِتنا فعليكها إن كنتَ ذا حَرْدِ

والحرد التصميم على الأمر، والنحت هو القشر أو القطع، والأثلة ضرب من الشجر يشبهها الشاعر بمناعةِ قومِه.

والنفور في القرآن من تبجيل الملوك كما ومن العصيان بالمطلق يبدو واضحا فالملك في الحقيقة هو الله {فتعإلى الله المَلِكُ الحقُّ} و {فتعإلى الله المَلِكُ الحقُّ لا إله إلا هو رب العرشِ الكريم}. والله وحده هو الذي ينزل من السماء الماء كما في العديد من الآيات، وهو وحده الرازق الذي {يرزق من يشاء بغير حساب}. والملوك الجبابرة في القرآن، وفي مقدمتهم فرعون، هم رؤوس الكفر والغصب وهم {إذا دخلوا قريةً أفسدوها وجعلوا أعِزّةَ أهلها أذلّةً وكذلك يفعلون} فهم يقلبون ما نسمّيه اليوم النظام الاجتماعي رأساً على عقب.

لكن، ومن جهة أخرى، العصيان هو ايضاً ما يودي بالمؤمنين إلى الهلاك فمن يعص الله ورسوله وأولي الأمر فهو في ضلالٍ مبين، بل {فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا} والعصيان يلامس الكفر {وكرَّهَ إليكم الكفر والفسوق والعصيان} بينما الطاعة من مناقب المؤمن الحق {من يطع الرسول فقد أطاع الله}. اما اهل النار فلسان حالهم {ربَّنا إنا أطعنا ساداتنا وكبراءنا فأضلّونا السبيلا}. ولعلنا قد نستنتج من كل ذلك أن المَلِك هو ايضاً بمثابة الشبيه المُنفّر للنبيّ، كالساحر والشاعر والمجنون.

***

إذا أردنا لهذا البحث أن ينتهي إلى حدٍ مقبولٍ وقابلٍ للنقاش فلا بد من تخطي العديد من الصور والمعاني الشعرية العامة التي ينقبض منها القرآن وحصرها من أجل تفصيلها في معنىً واحد،، ادناه. فمن تلك المعاني الشائعة مثلاً، والتي لن نفصّلها هنا، المال والبنون وهي من مباهج الحياة في الشعر كما الذهب واللؤلؤ ولباس الحرير: {زُيِّن للناس حبّ الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسوّمة والأنعام والحرث} لكن ذلك كله زائف وإلى زوال ولا وجود له، أو للبعض منه، إلا في الجنة. ومن تلك المعاني ايضاً {حميّة الجاهلية} المُنفِّرة والتي تقابلها "سكينة" المؤمنين، فالشاعر/البطل هو الذي يأبى الذل وينتفض غضباً عند كل ما يرى فيه إهانة له أو لقومه، اما المؤمن فسِمتُه الصبر ولا يغضب إلا فيما يُغضِب الله، وحِلمُ المؤمن هو غير الحلم الجاهلي. ومن تلك المعاني نفور القرآن من الكفّار اللذين {لا يأتونكَ بمَثلٍ إلا جِئناك بالحق وأحسن تفسيراً} ولعل الشعراء من أبلغ من أتى بالأمثال. ومن هذه المعاني كذلك انقباض القرآن من التطّير:{ قالوا اْطّيّرنا بك وبمن معك قال طائركم عند الله} فالتطيّر شائع في الشعر، بل يرى فيه أحد الشعراء ما يبعث على الفخر لأن قومه شجعان ولا يتطيّرون. قال عوف بن عطيّه الربابي:

نَؤمُّ البلاد لِحُبِّ اللِقاء ولا نتّقي طائراً حيثُ طارا

ومن المعاني الشبيهة التي ترد بكثرة في الشعر الاستقسام بالأزلام الذي لا ينفر منه القرآن فحسب بل يصفه بالفسق {ذالكم فسقٌ}، وبعض الشعراء كلبيد يفتخر بالاستقسام :

وجزور أيسارٍ دعوتُ لحتفها بمغالقٍ متشابهٍ أعلامها 

واليسر هو الضرب بالقداح لإطعام الضيف.

وكذلك الامر بالنسبة إلى الناقة المشقوقة الأُذن وغيرها من التشويهات التي ترد في الشعر تكريماً للأصنام والآلهة: {ما جعل الله من بحيرةٍ ولا سائبة ولا وصيلةٍ ولا حامٍ } فهي كلها من أعمال الشيطان وهو الذي يقول: {ولأمُرَّنهم فليبتُكنَّ أذان الأنعام ولأمُرَّنهم فليُغيّرن خَلْقَ الله}.

***

لكن ما سوف نسعى إلى بحثه بالتفصيل هنا، وفي ختام الحديث عن تلك المعاني، هو ما يرد في الشعر حول الطبيعة وخصوصاً حول الأنواء أي النجوم والفصول والامطار والرياح والعواصف والغيم والبرق والرعد والحرّ والبرد وما شابه، وهي جميعها لها حضور كثيف في أشعار الجاهلية. 

في المكان الأول ثمة انبهارٌ بل ورهبة عند الشعراء من تلك القوى الخارقة التي تُبدع هذه العواصف والامطار والتي تنتقل من مكان إلى أخر، كما والسيول التي تجرف كل ما في طريقها من معالم، مُخلِّفَةً وراءها بحيرات تطوف فوقها جيف الحيوانات وجذوع الأشجار المُقتَلَعة من جذورها. وهذه الرهبة جليّة في أبيات الأعشى:

بل هل ترى عارضاً قد بِتُّ أرمقُه     كأنما البرق في حافاته شُعَل؟

...

لم يُلهني اللهوُ عنه حين أرقُبُه     ولا اللذاذةُ من كأسٍ ولا شُغُل

فقلتُ للشَّربِ في درنى وقد ثملوا:     شيموا، وكيف يشيم الشاربُ الثَمِل؟

ولعل ابيات امرؤ القيس أوسع شهرةً:

أصاحِ ترى برقاً أُريكَ وميضُهُ كلمع اليدين في حَبيٍّ مُكللِ

...

قعدتُ له وصحبتي بين ضارجٍ وبين العذيب، بعد ما مُتأمَّلي

...

ومرَّ على القان من نفيانه فأنزل منه العُصمَ من كل منزل

وتيماء لم يترك بها جِذعَ نخلةٍ ولا أُجُماً إلا مشيداً بجندل 

...

كأن ذُرى رأس المجيمر غدوةً من السّيل والغُثاء فَلكةُ مِغزَل

...

كأن السِباع فيه غرقى عشيّةً بأرجائه القُصوى أنابيش عُنصُلِ 

 ويصف لبيد كيف محت الامطار والسيول ديار الحبيبة:

رُزِقت مرابيع النجوم وصابها وَدْقُ الرواعد جَودُها فرِهامُها

...

وجلا السُّيولُ عن الطُلولِ كأنها زُبُرٌ تُجِدُّ متونها أقلامها

وفي أبيات خُفاف بن نُدبة:

فدَعْ ذا ولكن هل ترى ضوءَ بارقٍ يضيئُ حبياً في ذرى متألق

علا الأُكمَ منه وابلٌ بعد وابل فقد أرهِقت قِيعانه كلَّ مُرهَق

إذا تأملنا هذه الصور نجد أولاً انجذاب الشاعر، الخالب للألباب، نحو مشاهد الطبيعة تلك والتي تسحره وتلهيه عن كل لذّاته واشغاله وتثير فيه الدهشة والرهبة معاً. ويرى الشاعر في هذه الظواهر تجلّيات لجبروت الطبيعة الذي يسحق كل ما طريقه، فكأن هذا الجبروت يرفد الدهر الذي لا يبقي على شيء أو المنايا التي تخبط خبط عشواء في عالَمِهم العَبَثي. ولعل تلك الطبيعة الماحقة تثير في أذهان البعض منهم صور الحروب كما يصفها زهير مثلاً:

وما الحرب إلا ما علِمتم وذُقتُم وما هو عنها بالحديث المُرجَّم

...

فتعرُككم عرك الرحى بثفالها...

ويتكرر تشبيه الحرب بالرحى في بيتِ المُهلهِل ابن ربيعة:

كأنا غُدوةً وبني ابينا بجوفِ عُنيزة رحياً مُدير

 

نهايات البحث في الصفحة التالية...