غسان يخلق عالمه

2022-07-20 05:00:00

غسان يخلق عالمه
من غلاف مجلة الهدف، عدد ١٦١

عاش غسان كنفاني لاجئاً فقيراً في عالمٍ بلعتْهُ إسرائيل والأنظمة العربية والرأسمالية والرجعية والتخلف والتقاليد البالية، ولكن ضميره الخلّاق كان غنياً ومتشعباً ومثيراً بشكل استثنائي.

كان مكتب غسان كنفاني أشبه بمكتب رئيس وزراء دولة غربية عظمى، بحسب الصحفي الفرنسي إيريك رولو. هواتف كثيرة وعشرات اللقاءات ومئات الناس تأتي وتذهب. وغسان وحده يدير غرفة عملياته تلك. بين تلك الاجتماعات التي لا تنتهي، ومرض السكري الذي أصابه منذ عشرينياته، وعمله كرئيس تحرير بدوام كامل، ثم الناطق الرسمي باسم الجبهة الشعبية، وبطريقة ستبقى غامضة إلى الأبد، نجح غسان في أن يجعل من كتاباته الأدبية والنقدية حقل تجارب علمي وفني متفرد: من القصة القصيرة، إلى المسرح، مروراً بالرواية القصيرة في أكثر أشكالها حداثةً وتجريباً، والنقد الأكاديمي، وأدب الطفل، والرسم، وانتهاء بالمقال الساخر العميق الثاقب. فوق كل ذلك، كان لغسان علاقات اجتماعية عميقة، وقصص غرام (منها الصادقة ومنها المؤسفة)، والتزام سياسي حزبي، وموقف فلسفي وفكري يساري صارم، وولعٌ بتذوق أطايب الحياة، ومسراتها، وخساراتها مع الناس الفقراء الذين عاش بينهم ولهم حياته القصيرة. 

يبدو غسان كأنه كتيبة حربية على الجبهة بكامل عتادها، أو تختاً شرقياً يعزف وحده على كل آلاته، أو طائفةً دينية لها فنها وفلسفتها وكاريزما القيادة والأثر الذي لا يزول: لم يكن فرداً واحداً بالتأكيد. 

الكثير من أدبه سياسوي بشكل مباشر. وعلى الأغلب، كان يعرف ذلك، ويريد أن يتجاوزه. أعماله الأخيرة محاولة نصف-فاشلة كي يتجاوز نفسه ويتجاوز البعد السياسوي المباشر. من هنا يأتي التجريب المستمر في الشكل، من تلك الرغبة في استقصاء إمكانات الفن الحديث للتعبير عن القضية التي عاش لها. وحتى في أعماله المباشرة، هناك حساسية صادقة أصيلة وغير متكلفة.  

في المقالات الساخرة لفارس فارس -الاسم المستعار لغسان- شيء أكثر من مجرد الالتزام- مثل محمود درويش، الذي كتب للصحافة والثقافة، ولكن لغسان رؤى أعمق وأكثر تنوعاً وغزارة ومرحاً. بعض الآراء غير موضوعية، مثل تهجمه المبالغ فيه على سارتر، وإعجابه بترهات الرفيق ماو- مع بعض التحفظات، التي سجلها في زيارته إلى الصين. وهناك بعض المبالغة في تطبيق الماركسية على مواضيع تحتاج أبعاداً مختلفة، مثل الشعراء الصعاليك الجاهليين وملحمة جلجامش. ولكنه في كل الحالات التي يبالغ فيها أو يخطئ، ينطلق من رغبة صريحة ومُحرقة في البحث عن الحرية خلف الأشكال والفلسفات والعقائد المتنوعة. 

يصبح موقف كنفاني مُحرجاً ومُربكاً، حين يقارن بين "جواهر الجواهري وقبان القباني". هذا المقال يحتاج إشارة خاصة، لأنه يقارن بين أشعار نزار بعد النكسة وبين قصائد الجواهري قبلها. يتجاهل غسان، بشكل كامل، الدور الهائل لنزار قباني في تثوير الشعر العربي شكلاً ومضموناً، ليسخر من رومانسيته الغريزية تقريباً. ويشيد بقصائد الجواهري، المنفي عن وطنه، الجزلة فعلاً، ولكنها محافظة في صورها وفي مضمونها. لاحقاً، وفي مفارقة حزينة، سيموت نزار في المنفى اللندني هرباً من الطغيان، والجواهري في دمشق مع نصف دزينة من قصائد المدح المعيبة!

يعود غسان إلى نزار في مقال "نادي المنتفعين باللغة العربية". العنوان وحده يستحق الإشادة، أما المضمون فأمرٌ معقد. هنا يغدو غسان أكثر موضوعية، ولكنه ما زال حانقاً على نزار، ولأسباب تتعلق بتعريف نزار للشعر هذه المرة، وليس لمضمونه. يأخذ غسان تصريحات نزار ثقيلة الظل عن النوم في عيون النساء والياسمين ومملكة الهوى بجدية كاملة، ليرميها في أقرب سلة مهملات. لستُ واثقاً من طريقة غسان هذه، على الرغم من اتفاقي معه في النفور من تعالي نزار ومن شطحاته المكررة. يبدو لي أن نزار كان يقاوم وحده، بين شعراء ونقاد متمركسين اتجهوا نحو تطويع الأدب خدمةً لأهداف إيديولوجية، وبطريقة فجة (لم يكن غسان واحداً منهم، عموماً - كان أذكى بكثير وأصدق). أو، ربما، يكمن الخلاف في رؤى حول الحياة والأدب: رؤى لا تتناقض بالضرورة، ولكنها لا تتقاطع كثيراً: إلا في محتوى تحرري مشترك، في حقوق المرأة والقضية الفلسطينية وأشياء مشابهة. من المثير أن يتذكر المرء أن محمود درويش، عاد إلى نزار وكتب فيه قصيدة ساحرة، موضوعية، صادقة، بعد أن راجع درويش شعره وهو على أعتاب الستين. 

نصف مقالات فارس فارس تهاجم الأدب الرخيص، خصوصاً في شكله الثوري، أي البروباغندا الفارغة. يريد غسان، وبصدق، من الأدب ألا يشرح السياسة، ألا يكون ناطقاً باسم الثورة والأحزاب، ألا يتحوّل إلى نشرة أخبار. من جهة أخرى، يعلن فارس بأنه لا يفهم معظم الشعر العربي الحديث، كما يميل إلى الكتابة الواضحة بدون الألعاب اللغوية في النثر. هذا الموقف، برأيي، ما زال صالحاً اليوم، وما زال الكثير مما يُكتب يتأرجح بين بروباغندا مباشرة أو ألعاب غير مفهومة. حاول غسان أن يخرج من هذا الفخ المزدوج، ونجح جزئياً.  

بعض المقالات، وبنفس الطريقة أعلاه، ترفض الكلام الكبير الفارغ تماماً، الذي تمتلئ به الكتب والمقالات الصحفية. يتمسك غسان، وهو الأديب الحساس، برؤية علمية للواقع، ويُطالبنا بها. يبدو انحيازه للتفاصيل وللتحليل الدقيق العلمي مدهشاً في قدرته على الإقناع، وسط كل تلك الزيطة والشعارات العالية التي كان في قلبها يلمع ويسطع. على سبيل المثال، يهاجم أحمد الشقيري، الرئيس الأسبق لمنظمة التحرير، الذي يشكل نموذجاً لذلك السياسي المنقطع الصلة عن الناس، وتمتلئ كتاباته وخطاباته بحكاوي وقفشات عن الرؤساء والملوك. بعد خمسين سنة من اغتيال غسان، ما زال الكثير من السياسيين العرب يشبهون الشقيري أكثر مما يشبهون غسان: من حماس إلى فتح، ومن الأنظمة إلى المعارضة، وصولاً إلى الثوار الأصغر سناً في الربيع العربي. 

فوق كل ذلك، يستخدم فارس العامية ومصطلحاتها بطريقة ساحرة ساخرة. يبدو الرجل قريباً من القلب، عكس معظم المثقفين اليساريين والمناضلين: مزحات لاذعة ونكات ثاقبة، تتناول مواضيع تمتد من التاريخ إلى الشعر إلى الجنس والحساسية اللغوية، وقصص الجواسيس وأغاني صباح وفرانك سيناترا، وصولاً إلى معنى الموت. 

عاش غسان كنفاني لاجئاً فقيراً في عالمٍ بلعتْهُ إسرائيل والأنظمة العربية والرأسمالية والرجعية والتخلف والتقاليد البالية، ولكن ضميره الخلّاق كان غنياً ومتشعباً ومثيراً بشكل استثنائي.

عاش غسان في عالم ليس له.

عاش عمره القصير يخلق عالمه.