كتابان جديدان لفاروق وادي: "رائحة المانجا" و"متاهات الكتابة"

2022-06-27 06:00:00

كتابان جديدان لفاروق وادي:

صدر للكاتب فاروق وادي كتابان جديدان عن "الدار الأهليّة للنشر والتوزيع" في عمّان. الأول مجموعة قصصية بعنوان "رائحة المانجا"، قال عنها الكاتب محمود شقير:

"من يقرأ قصص فاروق وادي هذه سيجد نفسه أمام سردٍ شاعريّ متميّز، مُطعَّم بسخريات ذكيّة ممتعة، وبمأثورات ثقافيّة موظّفة على نحو بارع، في مفارقات مضحكة مبكية؛ تكشف عمّا في واقعنا من بؤس وانغلاق؛ مثلما يتبدّى بوضوح في قصّة "ستوليشنايا" وفي غيرها من القصص.

وسيجد القارئ نفسه أمام تجسيدٍ عميقٍ للمشاهد القصصيّة؛ كما لو أنّها لوحات فنّيّة رُسمت لا بالريشة بل بالكلمات، وأمام نساء متفرّدات ورجال متفرّدين قادمين من أرض الفانتازيا حينًا ومن مخزونات الذّاكرة حينًا آخر، مُعبَّرٍ عنهنّ وعنهم ببراعة وإتقان، بحيث لا يمكن نسيانهنّ أو نسيانهم بعد أزمانٍ من قراءة هذا الكتاب.

قصص جميلة باذخة ترفد رسوخ فنّ القصّة في واقعنا الثقافي، واستمراره الحيّ على الدّوام".

من أجواء قصص المجموعة، نقرأ:

"حدث ذلك عندما مرّت على الرّصيف المجاور للمقهى تلك المرأة الباذخة، وارفة الجسد، شاهقة الجاذبية، بمشيتها المتكسِّرة وتفاصيلها المتأجِّجة وانحناءاتها الشّرسة. عبَرَتْ المرأة المكان بضجيجها الصامت، وغمامات عطرها المُشاغب.

ألقت عليه، من دون الجالسين في المقهى، نظرةً عابرة من طرفِ عينٍ كاسرة، فمسّه ذلك البريق. جرح قلبه وروحه وحرّك فيه كل الحواس الخابية، ليسكن دمًا اتقد، إذ غزته رغباتٌ جهنمية فادحة. ولم يكُن الرّجل يدري أنه كان قد وقع لحظتها صريع امرأة حلّت ومضت مثل موكب وردٍ عابقٍ بالغواية، سرّب عطره السحري في مسامات بشرٍ كان حتى ذلك الحين سويًّا، غير أن سوء طالعه شاء له أن يكون هناك.. جالسًا في ذلك المقهى الرصيفي.. مستغرقًا في لعبة النّرد.

عندما ابتعدت المرأة قليلًا، تطاول ظلّها الشّفيف خلفها حتى اقترب منه. تسلق جسده. لمس جبينه ليمسح عنه عرقًا سحّ غزيرًا وغمره كموجةٍ جامحة. ولم يمضِ الظِّل قبل أن يُودِع أثرًا من تلك المرأة في مكانٍ سري، في أعمق أعماق الرجل، ويترك على الأرض بقايا أنوثة مسكوبة.. بقعًا داكنة نفّاذة الرائحة، تضوّعت سِحرًا في الفضاء.

لملم الرّجل شظاياه التي بعثرها ذلك المرور العابر لخيال امرأة مشاكسٍ، وقد دهمه إحساس بأن تلك المرأة، كانت قد رمته بدائها وانسلّت.

استجمع نفسه بصعوبة بالغة، ليقول لرفيق نَردِه، بصوتٍ بدا شاحبًا، مضمّخًا بشهوةٍ قاتلة: لديّ استعداد لكي أخون الأمة مقابل ليلة.. ليلة واحدة، مع تلك المرأة السّاحرة!".

***

الكتاب الثاني الذي صدر للكاتب، يتناول مسائل وهموم الكتابة وأسئلتها، وقد حمل عنوان: "متاهات الكتابة: نبيع الكلمات، الحكايات، والأحلام".  وجاء في المقدمة:

"في قصّة قصيرة للأرجنتيني الكبير «خورخي لويس بورخيس» حملت عنوان «متاهتا الملكيْن»، يجمع ملك «بابل» مهندسيه وسحرته وعرّافيه، ويأمرهم بأن يشيّدوا له متاهةٍ بالغة التّعقيد، تنطوي على شبكةٍ من الممرّات والأزقّة التي لا تُفضي إلى شيء،  وهي تتعقّد إلى الحدّ الذي يمتنع فيه أصحاب العقول النيِّرة والفكر السّديد، عن مجرّد التّفكير بدخولها، لأن من يدخلها تائه لا محالة، وقد يفقد نفسه هناك!

لقد جرى تنفيذ الأمر الملكي على أفضل شكلٍ يتجاوز المتوقّع. وجاءت المتاهة كمعجزةٍ محيِّرة، بعثت السّعادة في قلب جلالته. 

وعندما وفد ملك عربيّ لزيارة ملك بابل، أراد الأخير أن يداعب ضيفه، ويسخر منه قليلاً، فدعاه إلى دخول متاهته العجيبة والتّجوال فيها. 

دخل الملك العربي المتاهة، فاضطربت خطاه وألمّت به الحيرة. وقد ظلّ تائهًا حتّى حلّ اللّيل وهو يجوب أرجاء أزقّتها الرّهيبة. وكانت الجدران المنيعة للمتاهة تحول دون خروجه وتحرّره من مأزقه، ما أشعره بمهانةٍ شديدة. عندئذٍ، يُقرِّر الملك البابلي مساعدة ضيفه للخروج من المأزق الذي حطّه فيه، فيفتح له بابًا يُمكِّنه من مغادرة المتاهة.

كظم الملك العربيّ غيظه، وبادر إلى توجيه دعوة لملك بابل لزيارة بلده والاطلاع على متاهته التي هناك!؟ 

وما أن عاد الملك العربي إلى بلاده، حتّى استنفر جيوشه الجرّارة، ليهاجم بها مملكة بابل ويدمرها تدميرًا، ثمّ يتمكّن من أسر ملكها، فيعمد إلى ربطه بجملٍ رشيقٍ سريع الخطوات، ليُطلقهما في الصّحراء، ثمّ يراقب الجمل وهو يعدو بسرعته القصوى والملك البابلي يلحق به مسرعًا، لثلاثة أيّام بلا توقُّف.

وقف الملك العربي المنتصر أمام الملك البابلي الأسير ليخاطبه قائلاً:

- يا ملك الزّمان. لقد استدرجتني في بلادك إلى متاهةٍ معدنيّةٍ بالغة التّعقيد. وأنا بدوري شئت أن أريك متاهتي، التي تغيب عنها الأزقّة والجدران والأبواب والسّلالم والممرّات المفضية إلى ممرّات.

ثمّ بادر الملك العربي إلى فكّ قيد الملك الأسير وإطلاق سراحه، ليجوب وحيدًا رمال الصّحراء المترامية، ويواجه فيها مصيره المحتوم!؟

وإذا ما حاولنا مقاربة متاهة الكاتب بإحدى متاهتيّ الملكين، الذي تحدّث عنهما بورخيس، فإننا سنجد، من دون عناء يُذكر، أنها ستكون، أقرب إلى متاهة الملك العربي اللانهائيّة منها إلى متاهة ملك بابل، أي أنها أقرب إلى متاهة الصّحراء (الطّبيعة الشّاسعة والواقع الغامض) منها إلى المتاهة المُصنّعة بإتقان. فهي في اتساعها وتشابكاتها وتغوُّلها، في تناسلها المُذهل، في شمسها وهجيرها وعواصفها الرّمليّة العاتية ودوّاماتها اللّولبيّة، في وِحشتِها وتوحُّشها، في سرابها المخادع وأشواكها القاسية.. في كلّ ذلك وأكثر، تظلّ متاهات الكتابة تتقاطع أكثر مع شروطٍ تتمادى فيها أفاق الرّمل على مدّ البصر، من دون أن يعدم ذلك توافر الواحات الظّليلة في تلك الصّحراء، التي يفيء إليها الكاتب. فهي لا تبخل عليه بظّلِّها ومائها ورطبها الجَنِيّا، وكلّ ما يُحقِّق، رغم الشّقاء، تلك «اللّذة الكبرى» التي توفّرها الكتابة."

وعن "بيع الكلمات، الحكايات والأحلام" قال الكاتب في خاتمة الكتاب: 

" لقد اكتشفتُ.. أن بيع الكلمات؛ بيع الحكايات؛ وبيع الأحلام، ربما تكون هي المهن التي مارسناها، من دون أن ندري، منذ أن كانت رؤوسنا الفتيّة تتيه بعيدًا، ظنًّا منّا أن الكلمات ستقودنا، إلى تغيير العالم نحو الأفضل، وأن الحكايات التي نكتبها "ستُنقش بالإبر على آماق البصر" (ألف ليلةٍ وليلة)، وأن الذين لا يحلمون سوف يموتون في ليلتهم من شدّة البرد والضّجر!؟"