عن سيوه والقاهرة، الخروج من القفص للمرّة الأولى

2022-05-10 01:00:00

عن سيوه والقاهرة، الخروج من القفص للمرّة الأولى
OSAMA SAID, Jerusalem Light, 2012 Medium: Oil on canvas

نحن في الصالة المصرية الآن، مصر تقترب والعالم كذلك وغزة تبدأ بالانسحاب رويدًا رويدًا كما يتوارى حسونٌ صغير في شجرة سرو هائلة، أوكما تختبئ سمكة صغيرة بينَ شقوق الصخور.

لم أنم ليلتَها، قلقٌ وأرقٌ وأسئلةٌ لا تتوقف استمرت معي طوال ليلة السفر، ماذا لو لم يُسمح لي بالسفر؟ ماذا لو لم أتَمكنُ من التواصل مع الأصدقاء الموجودين في القاهرة؟ الأصدقاء الذين سَأتعرفُ عليهم للمرّة الأولى والمدعوين مثلي للمشاركة، هل سَتحجبُ هواجس غزة وعُقدها الدهشة وتمنعني من الاستمتاع، وتُغرقني بالصمت والتردد والخوف؟ كيف يبدو العالم؟ ما هو العالم؟ وما هي غزة؟ وأنا القابع فيها لم أغادرها منذ 31 عام.

السادسة صباحًا، تنتطلقُ السّيارةُ تجاهَ معبرِ رفح، غزة نائمة والشوارع فارغة تمامًا، ومعبر رفح هو الحاضر الأكثر وضوحًا في هذه الصورةِ الباهتة والناعسة، المعبر ورواياتِ المَعبر والقصص التي يتناقلها الناس حوله، وأنا الّذي لا أرى فيهِ إلا بوابة الأسئلة واختبارِ المشاعر والانكشاف على الآخر المحجوب، الآخر البعيدة، البعيد جدًا والّذي سيكونُ بعدَ ساعات مُمكنًا ومتاحًا وقريبًا إلى درجةِ الحديث والتفاعل. سَنحتشدُ الآنَ جميعًا، الغزيون المَحجوبون عن العالم، الراغبون في السفر، المُتشكِكون في حقيقةِ أنهم فعلًا سيتجاوزون الصالة المصرية في الجانب الآخر؛ للعبور إلى العالم، القَلقِون، المُتشائِمون، المُتوترون دون أسبابٍ واضحة، الضجرون والمتأهبون لساعاتٍ انتظارٍ طويلة، وأنا الناظرُ في الوجوه استرقُ السَمعَ للقصص والتجارب والنصائح التي يُقدمها الناس، "دير بالك على شنطتك يلى فيها المصاري والجواز، حافظ على شاحن الجوال مشان تقدر تتواصل مع الناس، طوّل بالك لسا مهل كتير على الزهق، ديرو بالكم ما بدخو البوربانك"، يتبادل الناسُ الحديث يحاولون التحايل على التوتر والملل بالقصص ومشاركة التجارب، لكن يتلاشي كل شيء حين تقترب الرحلة ويبدو كل شيء ممتعًا وحقيقيَا وممكنًا وقريبًا وسريعًا في ذات الوقت.

نحن في الصالة المصرية الآن، مصر تقترب والعالم كذلك وغزة تبدأ بالانسحاب رويدًا رويدًا كما يتوارى حسونٌ صغير في شجرة سرو هائلة، أوكما تختبئ سمكة صغيرة بينَ شقوق الصخور.

العالم الكبير، العالم الممتدة، العالم الّذي لا ينتهي

تشق السيارة مسارها متجهةً نحو القاهرة، طريقةٌ ممتدةٌ في صحراءٍ شاسعة، لا يمكنُ للعينِ أن تُبصِرَ نهايتها، صحراءٌ بدت لي بلا نهاية، كما كانَ بحرُ غزة بحرًا لا نهاية له، والصحراء والبحر تجليان لذات الاتساع وفيهما ذات الإبهام، وتحركان الشعور بالرهبة، وتتسربُ بواسطتهما حالةٌ من السَلبِ والاختلال والتيه، تتحركُ السّيارةُ في طريقها ويبدو طريقًا طويلاً وهو كذلك فعلًا، وكلّما تَقدمت السّيارةُ في صحراءِ سيناء، كلّما بدا العالم كبيرًا ومتسعًا، الاتساعُ كانَ الفكرةُ الأولى التي تتبلوّرُ حولَ العالم، العالم كبير بمسافاتٍ شاسِعة وهذا ما يمكنُ أن  نتخيّلهُ في غزة، كما يتخيّلُ السجينُ العالمَ خارج أسوار السجن، لكن عقلي عندَ اختباره للمرّة الأولى، لم يكن قادرًا على استيعابه، كانَ شيئٌ ما في داخلي يرفضُ أن تستمرَ السّيارةُ في المسيرِ طوال هذا الوقت، ويرفضُ أن تكونَ المسافاتُ بهذا الاتساع، يجبُ على هذه الطريق أن تنتهي، لا يمكنُ أن يكونَ هناك طريقٌ ممتدةٌ إلى هذا الحد، سَأختبرُ المسافاتِ كما لم يختبرها أحدهم خلال هذه الرحلة، التي من المفترض أن أقطعَ فيها صحراء سيناء والصحراء الغربيّة متجِهًا إلى واحةِ "سيوه" على الحدودِ الليبيّة المصريّة، حيثُ سيلتقي المُشاركون من مختلفِ دولِ العالم، رحلة طويلة تَستمرُ ما يزيد عن 17 ساعة سفر متصلة لا يقطعها سوى استراحاتٍ زمنيّة قصيرة، الآن أدركُ المساحةَ الحقيقيّةَ لغزة، غزة الصغيرة بحجمِ قبضةِ اليد، والتي من المُمكن أن تجوبَها من أقصى شمالها إلى أقصى جنوبها في ساعةٍ واحدة، غزة التي بدا لى أني أعرفُ المليونيّ شخص الذينَ يسكنونها، وتبدو وجوهَهم مألوفة، كأن غزة الصغيرة كبيتِ العائلةِ الصغير جمعتنا في سياقٍ ما، فبدونا كعائلةٍ تعرفُ بعضها، لكني الآنَ في الأمكنةِ والمسافات التي تجعلُ فرصة لقاء أحدهم مرّةً أخرى بعيدة، أنه العالم الّذي يتوهُ فيهِ الناسُ في الدروبِ ويتفرقونَ في الأماكنِ والاتجاهات، ويسيرونَ إلى غيرِ وجهة، أنها الدنيا الكبيرة وليست الدنيا الصغيرة التي يتحدثُ عنها أهل غزة حين يُلاقي أحدهم الآخر صدفةً ثم يقولون بدهشة ياااا " ما اصغر الدنيا"

العين الجائعة التي لا تشبع

كانَ الإرهاقُ والتَعب قد أضنى المُسافرين مَعنّا في السِّيارة التي تحركتْ من معبر رفح تجاهَ القاهرة، وبدأوا واحدًا تِلوَ الآخر يَخلدونَ إلى نوباتٍ من النومِ السريع المتقطع، فيما أنا يقِظٌ كاملَ الاستيقاظ، عينايّ مشدودتان ومتقِدتان مثلَ عيونِ الظباِء الطريدة، تَنظرانِ إلى كلِّ شيءٍ بانتباهٍ شديد، عينان كمرصدان تَرصانِ كلَّ شيءٍ وتستمتعانِ بكلِّ شيء وتُخزنان كلَّ شيء، الصحراء، الأشجارُ في الصحراء، الصوامعُ الصغيرة الموجودة في عمقِ الصحراء، في حالةِ انقطاعٍ وانعزالٍ تام، الليلُ الّذي لا يُشبِهُ الليلَ في القاهرة، الطرقُ التي لا نهايةَ لها، الأضواءُ في كلِّ الاتجاهات، الجسور، البوابات، المباني، الناس، التفاصيل، نهر النيل، برج القاهرة، ميدان التحرير، المتحف المصري، كبري قصر النيل، بدا كلَّ شيء في حالةِ تَسارعٍ شديد بعد أن تجاوزتْ السيارةُ قناة السويس، وبدأت المشاهدُ تتوالى بسرعةٍ شديدة، كأن الفيلم الّذي كانَ هادئًا بإيقاعٍ زمنيٍّ بطيء في الصحراء، استحالَ إلى فيلمٍ صاخبٍ متسارعٍ بألوانٍ كثيرة ومشاهد لا نهايةَ لها، والعينان الجائعتان تَلتهمان بنهمٍ كلَّ ما تُبصِرانَهُ من مشاهد، كل شيء، ولا تشبعان ولا تَمُّلان وتُحاولان أن لا يفوتهما شئ، وهي العيون التي ظلّت ثلاث عقود من الزمن تريان ذات الأماكن، ذات الموجودات، مشاهد متكررة بانضباطٍ كبيرٍ ومُمِل في عزة.

الوصولُ إلى القاهرة في الليل يختلفُ عن الوصولِ إليها في النهار، بدت القاهرةُ مدينة ساحرة ومدهشة، وكانَ عقلي يرفضُ تصديقَ أني فيها، ليست كمكان، وإنما كفكرةِ وصول كانت مستحيلة لسنوات، ظلّتْ فيها غزة محجوبة وبعيدة وكأن العالم خارجها مُستحيلاً، أنه اليأس العارم الّذي ظلَّ لسنوات يسري ويمتد أكثر في ذواتنا ويجعل من كلِّ المُمكنات مُستحيلات، العالم الّذي كانَ يبدوُ بعيدًا ومستحيلاً بدا قريبًا وممكناً، وسبعِ ساعاتٍ في السّيارة، كانَ منَ الممكن أن تمرَّ في ساعاتِ انتظارٍ في غزة، كانت كفيلة أن تنقلنا إلى القاهرة، المدينة المُعمرّة والمُجرّبة والمُطلة على كلِّ الأشياء باتساعٍ رهيب، بضجيجها وناسها وطاقتها الهائلة.

سيوه، المكان الأكثر عزلة في العالم

"كل من يأتي سيوه" يأتي بإذن خاص" ظلّت هذه العبّارة عالقة وتتردد في خاطري من وقتٍ لآخر، سيوه مركز الإشراقات الكونية والذاتية وكل من يأتي، يأتي بإذن خاص، شعرت بهذا الإذن الّذي سَمحَ لي في المجيء إلى سيوه، وأنا الّذي لم تكن فكرة السفر تحضرني إلا في سياق كونها حدثًا مستحيلًا، ها أنا الآن أقطع كل هذه المسافات؛ لتطأ قدماي صحراء مصر الغربية في سيوه، والتي بدت لي مكانًا في أقصى حدود الأبد، منعزلًا خاصًا وفريدًا لم تفعل فيه المدنية أفاعيلها كما فعلت في القاهرة، وظلّ بتكويناته الوجدانية والمعرفية الأوليّة، مكانًا غنيًا وخاصًا، كانت السيارة تمضي قدمًا في طريق لامعقولة في الصحراء الغربية، وكانت سيوه كالسراب تمامًا كلّما ظننا أننا على وشك الوصل إليها، بدأت أكثر بعداً ومنالاً، وبدت لي سيوه كغزة، المكانان بعيدان محجوبان وكلاهما لم تغيره المدنية الأوربية كثيرًا، كلاهما مفاجئ ولا يمكن توقعه، كلاهما خاص ومتفرد والأمازيغ قبائل طيبة ومحبة ومجرّبة وأبيّة وفي سيوه يظهر الزيتون وزيت الزيتون ظهورًا يشبه ظهوره في غزة وفي فلسطين بالعموم، يقدرونه ويدخل في تفاصيل حياتهم وقصصهم مثلنا تمامًا، إنها أرض الاشراقات إذن، وأنا القادم إليها من بحر غزة، محاصرًا بقلقي وهواجسي وحروب غزة وتعقيداتها، مستغرباً وهائمًا ومصغيًا للأسرار وحافظًا للوصايا، مشرعًا قلبي لهذه الإشراقات استجديها بكل ما يجدر بغزيّ مسجون أن يفعل، وعقلي كعقل السجين تمامًا يقبل ويرفض ما يجري في الوقت ذاته، ويحاول استعاب هذا التنوّع الرهيب من الأشخاص من كل مناطق العالم، العالم الكبير والمتنوع، أنها لحظات اختيار المعرفة التي كنت أظن أني املكها إلا أن معايشتها أمرًا مختلفًا تمامًا.