تأملات في صداقة مختلقة بين جيل دولوز وحسين البرغوثي وسيرس ساحرة الأوديسا وحوت سندباد

الحفر في الظل: تأملات في الصداقة

2022-01-01 01:00:00

الحفر في الظل: تأملات في الصداقة
DETAIL, John William Waterhouse, Circe Offering the Cup to Ulysses, 1891

في ما الأمر يختلف في الفنون التشكيلية المعاصرة، التي تحول التكرار فيها من مونولوغ إلى دراسة (بيكاسو نموذجًا)، هذه المطابقة تشبه في بنيتها حداثة التكوين البصري الأداتي، الذي قلص مساحات التأويل المتعددة الحقول إلى مركزية الأدوات والسياق. 

مدخل لعبوي

تستعير هذه التأملات في الصداقة، كمدخل لها، من ويليام كارفر عبارته المسرحية الشهيرة "عن ماذا نتحدث حينما نتحدث عن الحب؟" بتلاعب لغوي مؤسس عن الصداقة والحب لكنه أيضًا مقصود، لربط بينهما نسترشد إليه لاحقًا. وهو تلاعب مر به الكثيرون من الفلاسفة، لتصبح العبارة بعد قليل من اللعب كبعد ثالث للحب والصداقة:
"عن ماذا نتحدث حينما نتحدث عن الصداقة؟"

الانتقال اللغوي المقترح أعلاه من الحب إلى الصداقة، عبورًا من خلال اللعب، واختيار نص مسرحي خلفية لهذه اللعبة النصية (وهي ليست تناصًا) ليس بريئًا. فالصداقة كما الحب، تتطلب شكلًا من الأداء Performance والذي هو الأساس في المسرح. كما أن الصداقة والحب – كما تطرح هذه الملاحظات- مركزيان وأساسيان في مفهوم وفكرة الإنسانية، ما يجعلهما على غير تمام انفصال فيما بينهما، لكن بقدر ما يعضد هذا التقاطع علاقة كلٍ منهما بالأخرى، إلا أنه يخلق شكلًا من أشكال الاستشكال اللعبوي بينهما أيضًا، ما يجعل القول أعلاه منطبقًا عن الحب كما هو عن الصداقة، لكن كذلك عن الحب في الصداقة والعكس أيضًا.

(1)

تستضيء الملاحظة الأولى عن الصداقة بمقاربة للفيلسوف الفرنسي الفذ جيل دولوز في محاوراته الشهيرة مع كلير بارنت، متمثلة في الكتابة مع فيليكس غوتاري، كمظهر لهذه الصداقة ومقولاته عنها. العلاقة بين كليهما تجسد فعل الصداقة بما هو ممارسة فكرية وأنطولوجية.  يقول دولوز: "مامعنى الصديق حينما يصبح شخصية مفهومية أو شرطًا لممارسة الفكر؟ أو عاشقًا، أليس هو بالفعل عاشقًا؟ ألا يعني ذلك أن الصديق سوف يدرج حتى في الفكر، علاقة حيوية مع الآخر؟". من أين يأتي دولوز بهذا الربط؟ وألا يجعل ذلك من الصداقة حملًا صعبًا؟

يشير دولوز إلى تيوفيل وفيلافيت بما أنهما أصدقاء لأفلاطون، بأن الصداقة هي صداقة الحكمة أيضًا. تصبح الحكمة هنا موضوعًا للرغبة، والصديق هو توجه إليها بشكلٍ ما أو بآخر، يمكن للصداقة حينها أن تنطوي "على حذر تنافسي مقابل الند بقدر ما تنطوي على نزوع عشقي نحو موضوع الرغبة".

(أتذكر هنا كتبًا تمنيت أن تكون لي، بمعنى الإحساس الجسدي بالرغبة، منها كتاب "إرادة الكتابة"، مثلًا، وموادًا منشورة كنت أعلم أنها مرت برأسي وخيالي وقلمي وجسدي ذات يوم)

"قد يغدو الصديقان ، حينما تتحول الصداقة نحو الماهية، بمثابة الراغب والمنافس (لكن من سيميز بينهما؟). هذه السمة هي التي تجعل الفلسفة تبدو موضوعًا اغريقيًا وتتفق مع اسهام المدن اليونانية" (دولوز)

هل من هنا يأتي هذا النزوع إلى البحث عن المدينة في كتابات مدينية/مكانية، وأخرى غير مكانية /غير مدينية، لا تدعي لنفسها أي مقولة مكانية؟
هل الصداقة بهذا المعنى علاقة مدينية؟ وهل لي كفلسطيني ومصري، انتزعت منه مدنه يافا والقاهرة، أن أبحث عنهم في نصوص روائية كـ"كتاب الطغرى" و"سيناريو" و"بيروت مدينة العالم"؟ من أين تبدأ الصداقة حينها؟ من الأنا أم الآخر أم الرغبة أم المدينة؟
 

gilles deleuze

(2)

يتتبع دولوز مفهوم الصديق في فلسفة أرسطو، وتحديدًا في الكتابين الثامن والتاسع من "الأخلاق إلى نيقوماخوس"، يفضي إلى "الأساس الأنطولوجي لنظرية الصداقة عند أرسطو". هذا الأخير ينطلق من الوجود والإحساس به من خلال العيش إلى فكرة الوجود الأنطولوجي المحض، فالذات لا تحس بالحياة إلى من خلال العيش، وعليه فلأننا نحب الحياة، فنحن نحب أن نعيشها، وهو احساس حلو وعذب. وهذا التطابق بين إحساس المرء بوجوده وإحساسه بحياته، أي الوجود والعيش، فالصداقة هي جزء من هذا الوجود والعيش، ولكنه جزء يختلف بفرادة التجارب البشرية الذاتية والجمعية. يقول دولوز: "البشر يعيشون معًا، بخلاف الأبقار التي تتشارك نفس المرعى"، لذا والحديث لا يزال لدولوز: "الصديق هو في واقع الأمر، ذات أخرى، وبما أن جميع الناس يجدون أن وجودهم أمر مرغوب به، فإنهم يجدون أن وجود أصدقائهم أمر مرغوب بنفس القدر أو يكاد"، لذا فالصداقة تتمتع بمكانة سياسية وأنطولوجية، وهو ما يمكن اعتباره عتبة لفهم الوجود البشري كمسألة "رجاء" بتعبير الفيلسوف التونسي فتحي المسكيني.

 ثمة تطابق بين "الوجود والعيش، بين إحساس المرء بوجوده وإحساسه بحياته" (أغامبن). يتناص هذا القول مع أطروحة نيتشه عن “الوجود - ليس لدينا أي طريقة أخرى لتخيله سوى (العيش)”، تتحول الصداقة بهذا المنطق لأنها لا تتطابق مع الذات بشكلٍ كامل، إلى آخرية غير ذاتية، نشاركها الوجود والعيش معًا، بما يفتح مساحات للتأويل (فرجات تأويلية)، وكأن الصداقة هي ممارسة تأويلية مع الذات والوجود، لا تنحو إلى المطابقة والتماهي، بقدر ما تفعل باتجاه التعدد والتنوع والتأويل.

الصداقة "أنا" أخرى محايثة للذات، ومتأصلة فيها، لكنها ليست مقابلة أو مضادة لها.هي شراكة في الوجود المحض بكل ما له من بنى أنطولوجية وسياسية، كما يقول أغامبن، مؤسسا لسؤال أساسي عن الحداثة وانهاكها لمفهوم الصداقة، داعيًا إلى التفكير في ذلك.

(3)

لعل الصداقة من هوميروس إلى شيشرون، ظلت من الفضائل السامية، فمن خلالها يقيم الإنسان ندية كاملة مع مفهوم الإنسان : بما هو أنس، دال على معنى وقيمة. لكن مع بداية العصر الحديث، بأطواره الرأسمالية، وإعلان ماركس مقولته "بدأت المأساة، عندما صاح الإنسان: هذا لي!"لم تعد الصداقة تتشكل بمتعة الإنضمام إلى/مع الآخر، دون امتلاكه. لهذا كان من اللازم الشروع في ابتكار كيفيات وتشكيلات وجودية جديدة، تسمح بـ "التحول إلى الذات" والعناية بنفسها وبالآخرين، وبإدراك مختلف للعالم وأشيائه.، لمحاصرة كل هذا الاغتراب والوحدة، والتكتلات الكمية. في هذا السياق، قدم دولوز تصورا مغايرا للصداقة، إذ ربط بين الصداقة والإدراك الحسي واللغة المشتركة التي تمكن شخص ما من فهم الآخر حتى ولو كان الموضوع بالغ التجريد.

يوضح دولوز الرابطة التي تجمع الصداقة بالإيماءة بكل ما بها من تجريد و/أو تجرد، بقوله: "قد تكون هذه الإيماءة ممثلة في عبارة، تظهر قدرا من الرهافة، بحيث تقول على الفور "هذا الشخص، إنه يخصّني"، ليس بمعنى الملكية، بل أنه من نوعي، وأتمنى أن أستطيع أن أكون من نوعه، بالرغبة في القرب المسافات في الفرجات التأويلية بين الذات والآخر. من تلك النقطة، تولد الصداقة. هناك إذن، مسألة إدراك حسي/جسدي ومكاني، إدراك شيء يناسبك أو يعلّمك شيئا، يفتّحك، يكشف شيئا لك، بالمنطق الصوفي مثلًا.

 الأمر إذن يتعلق بالعلاقات والقدرة على فك العلاقة الأفقية بينها، والرأسية في طبقات كل علامة، ثمة عامل زمني هنا يستوجب البناء والمراكمة التأويلية في الصداقة بما هي رغبة ونزوع نحو الآخر. 

أن يصبح المرء حسّاسا للعلامات التي يصدرها شخص. يقول دولوز: "الصداقة فن فكاهي(...). يمكن للمرء أن يقضي ساعات مع شخص دون أن يقول كلمة، أو الأفضل، أن يقول أشياء لا معنى لها على الإطلاق، أن يقول أشياء عامة ... إنها فكاهية، الصداقة فن فكاهي".

(4)
Circe Offering the Cup to Ulysses

بالحديث عن التجريد والرغبة والفكاهة، والعلامات، هل تقدر الصداقة أن تقدم تبريرًا للتكرارات في الأعمال الفنية التشكيلية (سيزان و غوستاف كوربيه، وغيرهم) بما هي قراءة في الظل، لتحررنا من مركزية العقل التي ترى الظل وكأنه فقط نماذج دراسية تكرارية (بيكاسو نموذجًا، وهذا الاحتفاء الحداثي الكبير به، وقد كان يعيد رسم لوحاته مرارا وتكرارا، تراه ماذا كان يقول؟)  أو أن تفسر لنا وحدة غويا وايغون شيللي مثلًا؟

حسنًا، ما سأحاول فعله هنا هو استدعاء بعض الوقائع الاستيطيقية، للبحث عن تلك الفرجات التأويلية في الفن التشكيلي، بما هي آثار للصداقة الرغبة (دولوز).

يقول دولوز: "كل الهويات مصطنعة نتجت بوصفها أثرًا بصريًا عن لعبة أعمق هي لعبة الاختلافات والتكرار".

لو كان لنا أن ننظر بعين الرغبة إلى موقع الذات في الفنون التشكيلية، بما هي نموذج لرؤية الصداقة في تكرارات العمل الفني الواحد، يمكننا الاستدلال بمنطق دولوز عن الصداقة كمحاولة للحفر في الظل المشتبك بين الذات والآخر كمونولوغ، دون تناقض. لنا أن نختار نماذج تشكيلية مثل لوحة "نجم المساء" (1864)، لجان بابتيست، والتي بكل مرة ننظر إلى الفروقات بين التكرارات في اللوحة لرأينا ذاتًا تكاد أن تتطابق مع ذات الرؤية وذات العمل، لكنها لا تفعل، ما يسمح بانكشاف طبقات مغايرة من العمل الفني في كل مرة ننظر إليه، حتى بعد ما يزيد عن القرن ونصف من الزمان.

(الأمر ذاته مثلًا، وبنفس الرهافة في لوحة "أوديبوس وسفينكس" (1864) لجان أوغست دومينيك انغر).

ليس التكرار من خصوصيات الذاكرة، بل هو قدرة طريفة على النسيان، لكن الحداثة لديها مشكلة كبيرة مع النسيان (بول كونورتون). ولعل من مشاهد النسيان الثقافي، هو إغفالنا للتكرارات في الأعمال الفنية بما هي عمل فني في ذاته، يتخطى فكرة الابداع التقني للفنان، إلى علاقة بين الأعمال الفنية ليس بما هي تكرارات عن عمل/أب/ذكر، إنما ذوات آخرى له، لا تتطابق معه تمامًا. تلك الندية هي بالأساس علاقة مع النسيان والتذكر بصريًا.

في ما الأمر يختلف في الفنون التشكيلية المعاصرة، التي تحول التكرار فيها من مونولوغ إلى دراسة (بيكاسو نموذجًا)، هذه المطابقة تشبه في بنيتها حداثة التكوين البصري الأداتي، الذي قلص مساحات التأويل المتعددة الحقول إلى مركزية الأدوات والسياق. 

إن تلك العلاقة بين الاختلاف والتكرار في الأعمال الفنية الواحدة، بقدر ما هي إيماءة كما يخبرنا دولوز، إنما هي شكل من أشكال الصداقة والرغبة بين العمل الفني بطبقاته المغاية والتكرارية، والفنان وكذلك المتلقي. ولننظر إلى نموذج "ملحمة الشهيد" للفنان التشكيلي العراقي كاظم حيدر، بكل تنوعاتها وتكراراتها واختلافاتها، هل يمكننا أن المرئي فيها ليس وحده هو موضوع الإدراك، بل ثمة عالم لا مرئي أيضًا علينا أن نراه وندركه. ولعل الربط هنا جائز مع رواية سليم بركات "كهوف هايدراهوداهوس"، بجزأيها، يضيء لنا صداقة مفترضة بين الفنان والروائي، لا تقوم على ذواتهما بل على تكرارات واختلافات الصداقة والرغبة في عمليهما.
(موضوع بحث أكبر من هذا السياق، لكن تلك الإشارة كانت لتحمية الخيال!)

(5)

يخبرنا غورغيو أغامبن أن الصداقة ترتبط "على نحو وثيق للغاية بتعريف الفلسفة، لدرجة تسوغ لنا القول بأن الفلسفة لن يتكون ممكنة فعليًا من دون الصداقة"، حتى أن كلمة فلسفة Philosophy تتضمن "صديق" "Philos"، حتى أن دولوز في كتابه في بحثه عمّا هي الفلسفة، يقول أن هذا السؤال يناقش بين الأصدقاء.

لعل مصاحبة ورفقة بسيطة لهوميروس وأخيل في الإلياذة والأوديسا، وتتبعًا لآثار غلغامش وشيشرون، تنبؤنا الكثير عن موقع الصداقة بما هي فضيلة فلسفية سامية، تتفتح لها كل مساحات الأُنس والإناسة في كلمة "إنساني"، لكن ماذا حدث للصداقة؟

هل صحيح أن الأديان التوحيدية، قد أتت لتضع حدًا لمفهوم الصداقة، وتسوق الحب إلى بوتقة حصرية؛ هي الله (كما يرى بذلك أوبير درايفوس وبول رابيناو في المسيحية)، وتقديم سياسة جسدية حصرية لتلك العاطفة تسوقها -ونعني الصداقة- كوسيط أو معبر لمعنى أكبر منها ومتجاوز لها تظهر معه الصحبة والصداقة وكأنها وسيلة لا أكثر، كما حدث مع النبي موسى في مصاحبته للخضر؟ هل يمكننا بتحرير سياسات الصداقة أن نعيد إنتاج خطابٍ تاريخي ومخيال اجتماعي وثقافي قادر على تقديم قراءة  مغايرة للتاريخ وأشكال المعرفة التاريخية، وأنماط الخطاب؟ هل يمكننا قراءة حدث مركزي في المخيال التوحيدي - الإسلامي بطريقة مغايرة بتفعيل الصداقة كمصدر للجمال والمعنى، ونعني الصداقة بين ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، لا باعتبارهم رموزًا تحولت أصنامًا (حتى الأصنام هي استعارات، ومن الغباء التعامل مع المتلقي في الحكاية وكأن له نفس عقلية من عبد الأحجار) إنما بما هم تنويعات لصداقة مركبة تغلبت على الزمن حدود مواجهة الخارج عن الزمن: الله؟

هل كان لآدم أن يغويه إبليس لولا عتبة من صداقة تفتح له بابًا من الاقناع والحوار والتسويغ (الغواية في حالة آدم دون الصداقة هي، على العكس، قدرة إلهية!)؟
لاحظ أوبير درايفوس وبول رابيناو التغيير الذي لحق الصداقة منذ بدايات المسيحية، والتي جعلتها من الممارسات المهمّشة، فمع ظهور المسيحية، لم تعد الصداقة قيمة سامية، إذ باتت تعتبر كل علاقة إنسانية قوية تحوّل الإنسان عن حب يجب أن يتوجّه إلى الله.  لا يختلف الأمر كثيرًا في حالة الدين الإسلامي، وتحديثه (تحديث أنماط وأشكال التدين).

ثمة الكثير من مشاهد المصاحبة والصداقة في المخيال الإسلامي، لعل أشهرها النبي موسى والخضر، وهنا نسترشد بابن عربي في مقارباته التفسيرية للنص القرآني حيث وردت القصة في سورة الكهف، إذ يمكننا تتبع قبس من فكرة التجرد الدولوزي في العلاقة بين الصديقين، بما هما اختلاف وتكرار. يقول ابن عربي  أن الخضر حين نهر الشاب النبي (إنك لن تستطيع معي صبرًا)(الآية 72) فلكونه غير متجرد.

(6)

على أثر أغامبن لنا أن نتتبع الصداقة في علاقتها بالفضاء الحداثي، والذي تقع فيه الديموقراطية موقع المركز، لكن قبلًا علينا تأمل مساحات الغربة  في الحداثة كمقولة، ومقارنتها بالمخيال العربي - الإسلامي، وهي التي لأجلها ابتدعت الآليات القانونية والسياسية لضبط الغربة كعلاقة، ومنها الديموقراطية، وقُدمت لنا من خلال المركزية الغربية باعتبارها الضابط الميتا - تاريخي.

المسافة بين الغربة في السياق الحداثي وتلك في المخيال العربي – الإسلامي كبيرة، ففي الحضارة العربية الكلاسيكية، الغربة ليست علامة على المنشأ والنسب والجماعة أو اللغة (روزنتال)، بل هي نقص عاطفي لدى الفرد الشاعر بالاغتراب في نفسه، فالأغلب الأعم في تراث الأدب العربي الكلاسيكي، كانت الغربة منبعها الذات، وليس المراقب والسارد بما هو صاحب سلطة على السياق (من مشاهدات تحليلية في تراث ابن خلدون وابن بطوطة)، حتى أن الغرب لم يكن غريبًا لأنه من سياق مغاير؛ من الخارج، وأن ثمة شعورًا ما تجاهه بأنه غير منتم للمكان بسبب هذا الاختلاف، وهنا تتضح المسافة التأويلية بين "الأجنبي" و"الغريب"، في المخيال العربي.

لعل هذه الإضاءة البسيطة، على مبنى من المقارنة، إذا ما أضفنا إليها الارتباط اللغوي بين "الغريب" و"العدو" في اللغة اللاتينية مثلًا Hostis (غريب، عدو)، والكلمة الألمانية من العصور الوسطى gast بذات المعنى (توماس باور)، أمكننا فهم توظيف الحداثة لديناميات ومخيال القانون والسياسة لضبط هذا التداخل بين الغريب والعدو، بمنطق متعالي عن الذاتية والوجود والعيش، لدرجة الضبط والرقابة.

يوضح لنا زيغومنت باومان دور الغريب وأهميته في هوية الحداثة ومخيالها، فالغرباء لا يندرجون ضمن صنف الأصدقاء أو الأعداء، لذا يمثل التهديد الرئيسي لأنه يتسبب في خلخلة التعارض بين ثنائية أساسية في الحداثة: الأصدقاء والأعداء. "لأن هذا التعارض هو الأساس الذي يعتمد عليه كل ما في الحياة الاجتماعية وكل الاختلافات التي تتكاثر وتجتمع، فإن الغريب يدمر الحياة الاجتماعية نفسها". بيَّن لنا باومان كيف أن الدولة القومية الحديثة تطالب بالتساوي، وتوظف القانون بما هو انفصال عن الاجتماعي وضابط له.

إن صك المواطنة والقانون هو الضابط الوحيد للغربة في المجتمعات الحديثة، فالغريب لا يعود غريبًا من الناحية القانونية، وتصبح العلاقة مع الغربة والاغتراب بما هي شكل من أشكال العلاقة مع الوجود، منفصلة لصالح منظومة قانونية خطابية سلطوية، لا مساحة فيها للإنساني بالمعنى التداولي والانطولوجي الاجتماعي.

(7)

يذكرنا الحديث أعلاه بفكرة عبقرية في اللغة العربية، وهي المثنى، تلك المساحة من الذاتية والآخروية، التي تنبني بالتقاء الكيانين تأويليًا، دون طغيان أحدهما على الآخر، والحفاظ على استقلالية كل كيان منهما، بتشاركيته مع الآخر، واستقلاليته عنه، في نفس الفاعلية الواقعة خارج هذه التثنية.

يقول حسين البرغوثي عن بري في "الضوء الأزرق": "أنا وبري على مسافة، لا هو يفيض كالبحر، ولا أنا أهرب كطفل الجبال. نقطة تشبه حركة "فريز" (التجمد في المكان) في المسرح". لعل المسافة التأويلية بين البحر والجبل هنا، ليست كما قد ترى باعتبارها ثنائية بالمنطق الحداثي الذي انبثقت منه كل أنماط العنف المعرفي، لأن المسرح الذي أشار إليه حسين أكبر من احتوائه لكليهما حصرًا، وهذا أمر نمر به جميعنا حين قراءة مسرح/نص حسين البرغوثي. 

حسين – بري هي حالة من الثنائية/التثنية (المثنى) المتسعة، بالتأويل وألعاب اللغة. يقول حسين: "فجأة خطرت في بالي فكرة عبقرية: تأليف قاموس خاص بلغة بري. قاموس أحدد فيه معنى كل كلمة بالنسبة إليه، ومن دون هذا، لا يمكن أن أفهم عالمه أو يفهم عالمي، وسيبقى بيننا "السياج" الذي تكلم عنه ذلك اللوطي الألماني. مثلًا، كلمة "أرنب"، تعني عند بري: "صديقًا قديمًا دعاه لجزرة"، وعندي تعني أرنبين هنديين عند قارئة بخت شيعية، وعند "معالي الوزير" تعني أرنبًا يسكن ليلًا في رأس الجبل ويدحرج حجارة على بيت معاليه. ونتيجة لتعدد عوالم المعنى، لا يمكن لأحد أن يفهم أحدًا، سوء فهم شامل، ويمكن أنني لا أفهم شيئًا من كلام بري، لأن معنى الكلمات عنده مختلف عن معناها عندي. فاللغة موهوبة في قدرتها على خلق سوء التفاهم. فكرت في "خلق قاموس" خاص بلغته، أحدد فيه معنى كل كلمة في عالمه هو. هذا مشروع أشبه بهذا العالم الأمريكي الذي كان يعتقد بوجود لغة خاصة بالسعادين، فقبض على سعدان صغير، وحاول أن يعلمه الانجليزية لكي يخدم كمترجم بينه وبين بقية السعادين".

في موضع آخر من الرجاء بين طرفي المثنى الواحد (حسين - بري) يسأل حسين: "وما العقل؟"، فيجيبه بري: "العقل؟ واو! مرعب يا رجل .. أنظر.."وأشار بيده اليمنى إلى مصابيح النيون، ومرآة الاسفلت، وناطحات السحاب بقرب الميناء، بعيدًا" يكمل حسين:  "أردد بلا وعي مني: "هذا هو العقل!".. سألته: هل نحن في داخل العقل، كالنبي يونس في بطن الحوت؟".

هنا لنا أن نشير في طبقات الاستعارة البرغوثية أعلاه، وبأدوات الدراسات الثقافية، إلى ما يسمى "عقدة يونس"، وهي عقدة ثقافية لا علاقة لها بالعقد التحليلية النفسانية، فهي لا توجد في أعماق اللاوعي، التي هي من اختصاص التحليل النفسي المحض، بل في منطقة متوسطة بين الوعي واللاوعي، وهي غير موجودة لدى كل الناس، لأنها حكر على الخيال المحكي، وهو الخيال الأدبي. يقول غاستون باشلار، صاحب فلسفة الرفض، التي أظن أنه ما كان ليصل لحرية الرفض، مالم يكن مصابًا بعقدة يونس: "هذه المنطقة المتوسطة التي تتجمع فيها تجارب الحلم وتجارب الحياة الواضحة، هنا بالتحديد تتكون الصور الأدبية التي تعنينا بصورة خاصة". لا تسمى العقد عقدة في الأدب إلا إذا انعقدت حولها أحلام الأديب  أو الشاعر لتصبح نواة حلمية يدور العمل الفني برمته حولها، وهذه من اختصاص "التحليل النفسي الأدبي".

أين ذهب الحوت في المخيال الإسلامي، ألا تقول الأسطورة أن الكون خلق على ظهر حوت؟

هذا الخيال الذي يحكي يجب أن يفكر في كل شيء.

(8)

لازلت أتذكر سيرس الساحرة من الأوديسا في نسخة الملحمة المصورة، من مؤسسة بساط الريح، ضمن سلسلة "روائع الأدب العالمي"، الصادرة في سبعينيات القرن الماضي، من بيروت، مدينة البحر. لازت أتذكر كيف أنها كانت أول إمرأة أحلم بها في مراهقتي، وكيف كنت أنظر إلى تربصها ونظراتها الملغزة لأوديسوس، وكيف ودعت سفينته، بعد أن قضى معها شهورًا محاطًا بدلالها، وهي التي حولت رجاله إلى خنازير، وكادت أن تفعل ذات الأمر معه، لولا مبعوث الآلهة.

في الملحمة، تسحر سيرس رجال أوديسوس كلهم ما عداـ أوريلوكوس، صديقه الأمين الذي قاد الرجال في غياب قائدهم أوديسوس لاستكشاف الجزيرة، وصولًا إلى كهف الساحرة. كل الرجال تحولوا إلى خنازير ماعدا الصديق، ليحمل رسالة إلى صديقه. لا تخبرنا الملحمة كيف أن اللعنة لم تمس أوريلوكوس، لكن لعنة أخرى مست صديقه، أوديسوس حتى بعد أن حماه مبعوث الآلهة بنبتة سحرية، كان له أن يضعها في النبيذ المسحور الذي قدمته له الساحرة، دون أن تحوله بالضرورة إلى خنزير.

يقول حسين البرغوثي في كتابه "الصوت الآخر"، أن "التعريف الإيجابي للأنا يكون مقتصرًا على ما تعيه الأنا نفسها من محدداتها الموجبة الخاصة بها". هنا يمكننا فهم رسول الآلهة تدخلًا، إذا ماكان هوميروس يعي ما هو مقبل عليه حين قرر أن يلبي بنفسه دعوة الساحرة. يشتكي هيرودوت بأن الآلهة دائمًا "غيورة ومتدخلة"، لم تنقذ الآلهة أوديسوس فعليًا من المس والسحر، إنما قدمت له ما لم يعيه من أناه في علاقته مع سيرس.

"الأنا حالة حدودية"، يخبرنا البرغوثي أيضًا، بمتابعة العلاقة بين أوديسوس وسيرس سنجد أن الساحرة هي التي مالت إلى حدود هويتها في التعامل مع أوديسوس، فبعد أن كانت ستأسره خنزيرًا بسحرها، وبعد أن ساعدته الآلهة، بدت في عينيها نظرة حب وإعجاب  لهذا الرجل، صاحبت صداقته مع رجاله وخوفه عليهم، دون أن تتضاد معهم كما هو المخيال الحداثي عن الصداقة والمرأة، لكن أوديسوس هو من لم يستوعب نظرة الساحرة إلا باعتبارها غواية وسحرًا، لا تقديرًا. لم يستطع أوديسوس إلا أن يتناول الصداقة بمركزية هويته وجندريتها، أو لعلها تلك هي لعنته التي لم يشف منها، وأن سيرس كانت بالأصل علاجًا له.

لعل هذا الحفر يعيدنا إلى دريدا في كتابه عن "سياسات الصداقة"، وكيف أننا متورطون حتى آذاننا في تحيزات المركزية الذكورية الأبوية البيضاء عن الصداقة، وممارساتنا لها.

لم نسمع القصة من طرف سيرس ولا حواء يومًا عن المسافات الهوياتية بين آدم وإبليس والله وأوديسوس.