الروائيون السوريون الشباب... موسم قطاف شجرة الشام العتيقة

2021-09-04 02:00:00

الروائيون السوريون الشباب... موسم قطاف شجرة الشام العتيقة

لم يعد لدي رهان على الكتابة منذ سنوات -هنا لا تنسى أنّك تسأل كاتباً خارجاً من الحرب- كما لا أخفيك، لم يعد لدي رهان على أي شيء آخر، خارج ما هو إنسانيّ. الكتابة فعل إنسانيّ بالتأكيد، وقد أنقذتني في أوقات كثيراً وعلى الأصعدة كافةً، لكنها أيضاً تتطلّب قدراً عظيماً من الوحدة،

تجادل الناس وسيتجادلون حول الرواية السورية الأولى، البعض يردها إلى القرن التاسع عشر عندما أصدر فرانسيس المراش (1836 – 1873) "غابة الحق" في 1865، ثم أعقبها في 1872 بـ "در الصدف في غرائب الصدف"، آخرون يرون أن هذين النصين لا يمكن تصنيفهما كرواية وفقًا للتعريفات الشائعة، ومن ثم يرى هؤلاء أن الرواية السورية الأولى كانت في 1937 (لاحظ/ي الفجوة الكبيرة بين التاريخين) عندما أصدر شكيب الجابري (1912 – 1996) روايته "نهم".

وبعيدًا عن هذا الجدال الذي لا ينتهي، قطعت الرواية السورية منذ النصف الأول في القرن العشرين مسارًا طويلًا، تخللته أسماء بارزة، تركت بصمات واضحة في المدوّنة السردية السورية والعربية، أسماء لا يمكن حين تُذكر أن نتجاهلها أو نغض النظر عن منجزها السردي، مثل عبد السلام العجيلي (1918 – 2006)، ومطاع الصفدي (1929 – 2016)، وكوليت خوري (1931) وحنا مينه (1924 – 2018) الذي يعد أحد ذرى الرواية السورية والعربية.

تدفق بعد ذلك نهر الرواية السورية، فظهر فواز حداد (1947)، وهاني الراهب (1939 – 2000) وممودح عزام (1950)، وحيدر حيدر (1936) ومصطفى خليفة (1948) وغادة السمان (1942) وخيري الذهبي (1946). وأعقب هؤلاء ظهور جيل أوسط من الروائيين السوريين مثل سليم بركات (1951)، وخليل صويلح (1959) وخالد خليفة (1964). ثم جاءت دفعة أحدث بظهور روزا ياسين حسن (1974) وعبير إسبر (1974) ولينا هويان الحسن (1977)... وواصلت شجرة الرواية السورية طرح ثمارها، بأسماء من الجنسين تركت بصمتها وأضافت منتجها الروائي.

"رمّان" تخصص الملف التالي، لطرح شهادات مجموعة من الروائيين السوريين الشبّان، القطفة الأحدث من الشجرة العتيقة، شباب الرواية السورية الذين صدرت رواياتهم في العقد الماضي ويواصلون إصدار المزيد.

 

"أكتب كي أفهم"... سومر شحادة

روائي سوري مواليد 1989 في اللاذقية. من إصداراته رواية بعنوان "حقول الذرة" عن دار ممدوح عدوان، وهي حائزة على جائزة الطيب صالح 2016 ورواية "الهجران" عن دار التنوير، وهي حائزة على جائزة نجيب محفوظ الممنوحة من المجلس الأعلى للثقافة في مصر.

أكتب لأسباب ذاتية مرتبطة بالعمل الذي أُحِبّ القيام بهِ، وبالمتعة التي توفّرها الكتابة لي. أيضاً أكتب كي أفهم ذاتي وأفهم العالم الذي نعيشُ فيهِ، ولا أنجح في ذلك كثيراً. أكتب وأتأخر عن النشر بصورة دائمة، أترك النصوص في الأدراج حتى يَخفّ اندفاعي تجاهها. وقد ذهب ضحية هذا الطبع، حتى الآن، ثلاث روايات أجد أنّني متردّد حيال نشرها. فأنا في أعماقي قد تجاوزت الأفكار التي حاولت الروايات الثلاث تفكيكها. إذاً أنا أكتب؛ فقط كي أفهم، والنشر أو أن أكون كاتباً أمرٌ لا يشغلني سوى في الحدود العامة التي تجعلك تسرق وقتاً للكتابة، وأنت تمتلك جدارة ذلك أمام نفسك وأمام الآخرين، فأنا في النهاية نشرت روايات وقرأ لي آخرون لا أعرفهم.

أحياناً تخطّط لحياتك كي تمضي على نحو ما، ثمّ تكتشف بمرور الوقت أنّها مضت في مناحٍ أخرى. ربما هكذا كانت الكتابة في حياتي، لا أقول بأنّني أكتب بالصدفة، لا. لقد دفعتُ أثماناً لهذا الخيار في مرحلة من حياتي. لكنني أفكر أحياناً، بأنّني أستمر كاتباً لأنّني لم أعد أعرف أن أقوم بعملٍ آخر، عدا أنّي أُحِبّ الكتابة، شغفي لم ينقص، بل يزداد، لكن هل هو حقيقي؟ لا أعرف. بالمقابل ليس لدي دليل على أنّه غير حقيقي، وعلى هذا أنا أستمر، وينبغي أن أدفع نفسي كي أنشر ما أكتب.

لم يعد لدي رهان على الكتابة منذ سنوات -هنا لا تنسى أنّك تسأل كاتباً خارجاً من الحرب- كما لا أخفيك، لم يعد لدي رهان على أي شيء آخر، خارج ما هو إنسانيّ. الكتابة فعل إنسانيّ بالتأكيد، وقد أنقذتني في أوقات كثيراً وعلى الأصعدة كافةً، لكنها أيضاً تتطلّب قدراً عظيماً من الوحدة، قدراً عظيماً من الانكفاء والتأمّل والمراقبة، هذه أفعال أقوم بها. لكنّي أحياناً أفكر بأنّها ليست تفاصيل إنسانيّة بالمعنى التام. لن أهجر الكتابة بالطبع، فأنا لا أقوى على ذلك. لكن لدي هذه المخاوف حيالها. أشعر أحياناً بأنّها تأخذ طاقتي كلّها. أنا مُسْتَنْزَف، وأُحِبّ كوني مُسْتَنْزَفَاً في الكتابة.

"لست أكتب... وإنما أراوغ الحياة"... يوسف الخضر
 

يوسف الخضر: شاعر وروائي سوري مواليد 1995 في محافظة الحسكة، شمال شرقي سوريا. من إصداراته رواية بعنوان "الهامستر" عن منشورات إبييدي في مصر 2021.

حينها كنت بائع ورد متجوّل. كنت طفلا أجوب شوارع بيروت بحرية مطلقة، حاملاً سلة الورود أسير بقلب معافى وسريرة صافية. خفيفًا كنت أسير بلا ضغينة تجاه هذا العالم.
لا زلت أتذكر جيداً تلك اللحظة التي وجدت فيها مجلدًا أحمر في كومة قمامة. كان ذلك في الحمراء -شارع جان دارك- مفرق أوتيل وست هاوس. حملت المجلد نفضت عنه القذارة وجلست على طرف الرصيف أقرأ. في تلك اللحظة تحديدًا، أدركت كم كان الله قاسيًا، حين ألقى بي أمام ضراوة هذا العالم بقلب هش. من يومها أدمنت تكرار ذلك الفعل. بت ألمّ قلبي كل يومٍ عن الأرصفة، أنفضُ عنهُ القذارة ثمّ أكتب.

بعد تلك الحادثة بأيام كتبت مقطعًا ثم أسمعته لأخي ولم يصدق أنني من كتبه، عندها ولا أدري أي شيطان لعين ذلك الذي همس في أذني: إنه لشيء رائع أن تكتب شيئاً لا يصدق.

ثم بعدها بسنوات، أقصد بعد أن شوّهتني الحياة من الداخل، لمحت بالصدفة مقالة على "غوغل" تشرح الأسباب وراء ارتداء الشخص الكفيف نظارة سوداء، وكان من بين تلك الأسباب أن الشخص الكفيف يرتدي تلك النظارة في إشارة منه للمبصرين؛ أنه كفيف، لكي لا يصطدموا به فيؤذوه. لنفس السبب بت أكتب. الكتابة هي نظارتي السوداء.

كبرتُ وبدأت أمر بظروف تجعل من الكتابة أمراً بالغ الصعوبة ولكنني سرعان ما أعاود التفكير بالأمر مجددًا. ذات يوم وفي أثناء نوبة اكتئاب حادة جلست أُفكّر:
أوه لسنا خالدين في هذه الحياة لهذا لم نسع لإيجاد حلول جذرية ودائمة لتعاستنا، ثم أضفت: هذا مستحيل طبعاً. ولكن طالما أنها عدة سنوات فقط، فبإمكاننا "المراوغة" ريثما تنتهي تلك الفترة -أقصد الحياة- على خير. وهذا بالضبط ما أفعله عندما أعمد لفعل أشياء كالوقوع في الحب، سماع الموسيقى أو الكتابة. غير أن الأخيرة ليست نوعًا من المتعة فحسب، وإنما حاجة ضرورية للعيش. لست أكتب إذًا، ولكنني أُراوغ. وأحيانا أخرى تكون الكتابة عزاء.

فهناك شعور نحس به بعد كل جدال نخرج على إثره مهزومين، فنقف في ذهول نجلد أنفسنا لأننا عرفنا الرد المناسب متأخرين. وهذا ما يحصل لي مرارًا. لهذا كل ما كتبته ليس إلا  ردود فعل متأخرة نبعت من داخلي، بعد فوات الأوان.

باختصار، إنّها خلاصي الوحيد، الكتابة هي الأفعال الشنيعة التي كنت سأرتكبها في الحياة، لو لم أكن كاتبًا.

"أرضية كتاباتي رمالٌ متحرّكة"... نغم حيدر

روائية سورية من مواليد دمشق 1987 صدرت لها روايتا "مرّة"، ورواية "أعياد الشتاء" والأخيرة صدرت عن دار "نوفل – هاشيت أنطوان".

أعتبر أن علاقة أي كاتب بالكتابة هي علاقة غير مكتملة. متحوّلة دوماً ومتغيرة بالشكل والطابع. الحقيقة أنّ دافعي منذ سنواتٍ للبداية بمشروع الكتابي مختلف عن دوافعي الآن. ونظرتي للصفحات البيضاء وللكلمات أيضاً تغيرت حتى أنها النقيض تماماً. في البداية كان الأمر شغفا بالفنّ تحديداً. وجدت في الكتابة كل اللوحات التي لا أملك القدرة على رسمها وكل الألوان التي لم أقدر على خلقها بالريشة، بسبب افتقاري للموهبة على خلق عالم فنيّ مادي أو بصري. حين ترجمتُ كلّ ما في خيالي إلى كلمات كان الأمر مدهشاً كأنني اكتشفت في داخلي ساحراً محتالاً يستطيع أن يُخرج عوالم وحيوات وشخصيات من جيب معطفه الخالي. مع مرور الوقت وانغماسي بعالمي الكتابة والقراءة  أصبحت أشعر أن الكتابة هدف سأظلّ ألاحقه دون أن أبلغه. ولن يكون همّي بلوغه بل إن الطريق إلى الكتابة هو الأهمّ. أميل دوماً إلى الشكّ والحيرة في الكتابة وأحذف أحياناً نصوصاً عملت عليها جاهدة لأيام متواصلة. وأبتعد عن اليقين سواء في عالم الشخصية أو حتى في عناصر أخرى. لأنني أعتقد أنّ أرضية كتاباتي رمالٌ متحركة.

جعلت الأحداث الأخيرة في سوريا علاقتي مع الكتابة أكثر تعقيداً. أصبحت الطرق إليها أكثر وعورةً واستنزافاً. وقررتُ أن أهتم بالجزئيات والتفاصيل الثانوية العابرة في مسار الحروب والتاريخ. في الزوايا الخفية المعتمة من كلّ صراع هناك بشرٌ قد يختزلون صورةَ البلاد كاملة. قررت أن أفتش عن هؤلاء وأبحث في وجوههم وفي مخاوفهم وفي ندوبهم اللامرئية لأنني أيضاً قد أكون منهم. يتمنى الكاتب حقاً أن لا يكون مضطراً على خوض تجارب قاسية في الكتابة كهذه وأن يكون أبطاله أشخاصاً يعيشون حياة اعتيادية، مشاكلهم لها علاقة بصلب الحياة والروتين وعلاقات البشر المتشابكة وليس مردها حروب وتشرد وموت.

حين أعملُ على نصّ ما أكتب بإصرار وأختار أوقاتاً معينة أنزوي فيها في مكتبي بصمتٍ مطبق. لدي دفترٌ صغير أدون فيه ملاحظاتي وأفكاري العابرة كي لا تذهب سدىً إذ أنني أقدرها كلّها، حتى لو كانت عفوية وغير مدروسة. يسألني الأصدقاء كيف تجدين الوقت للكتابة؟ في الحقيقة أنا أتناسى الزمن تماماً حين أكتب. أنا أبني وأكدّس الطوب وأنتظر اكتمال البناء بصبرٍ ولو بعد سنين. ما يهمني فعلاً هو أن تكون كلّ طوبة موضوعةً في مكانها الصحيح.

"أكتب لمتعتي الشخصية"... وسيم الشرقي

روائي ومسرحي سوري من مواليد طرابلس الغرب 1989، خريج قسم الدراسات المسرحية من المعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق. مقيم في ألمانيا. من إصداراته روايتا "الحاجب" عن دار الساقي، و "أسود" عن دار ممدوح عدوان.

بكلّ صراحة، علاقتي مع الكتابة وهواجسها وأسئلتها متقلّبة، ومتغيّرة بتغّير الظروف التي أجد نفسي فيها، والتي تغيّرت مرّات كثيرة في السنوات العشر الأخيرة، كما هو حال غيري من السوريّين وباقي سكّان البقعة الجميلة من العالم التي ولدنا فيها.

بحكم طبيعة عملي في المسرح، وأحياناً في الصحافة الثقافيّة، تشكّل الكتابة في هذين المجالين مهنتي الّتي لا أمارس تقريباً غيرها، فبالتالي أنا مضطر للكتابة حتّى حين تغيب "الهواجس" والأسئلة الكبرى التي من الممكن أن تشغلني عاطفيّاً أو فكريّاً، ومع مرور الوقت اعتدت ألّا أجد مشكلة في ذلك، الحديث عن الكتابة التي تحدث رعشة ما في الجسد أو الذهن غير واقعيّ حين تقّرر أن تكون الكتابة مصدر استمرارك وكسب رزقك.

أمّا حين يتعلّق الأمر بكتابة الرواية، فالمعادلة تختلف قليلاً بالنسبة لي، فلا آمال ماديّة كبيرة من الممكن أن ترجى من كتابة الرواية باللغة العربيّة، خاصّة كوني لا أعيش في المنطقة العربيّة منذ مدّة، الأمر بالنسبة لي في معظمه متعة صرفة، كتابة أنجزها حسب توافر الوقت والظروف بغرض إسعاد نفسي أثناء عمليّة الكتابة، والنشر بعدها، وكلّ المراحل الأخرى المتعلّقة بها.

لكن طبعاً إضافة إلى المتعة، الكتابة بالنسبة لي تعني الالتزام، ليس ذلك الأيديولوجي، بل الالتزام على مستوى الحرفة بالعلاقة مع الكتابة، والتعامل معها بشكل جدّي، وعدم الوقوع في فخّ الركون إلى "الموهبة" أو أيّ عامل آخر من عالم الغيبيّات، الالتزام بالكتابة عبر تخصيص الوقت الكافي لها، وتغذيتها بالقراءة الدائمة والمتنوّعة، والتجارب الحياتيّة الجديدة، كلّ تلك العوامل تشكّل بالنسبة لي أعمدة لا غنى عنها لحمل عالم النصوص التي أريد كتابتها.

أمّا بالنسبة لتأثيرها المحتمل، فيمكنني القول دون الكثير من المبالغة إنّه ليست لديّ توقّعات كبيرة بخصوص الأثر السياسي أو الاجتماعي الذي من الممكن أن تحدثه الكتابة الأدبيّة، حين أكتب اليوم، أكتب لمتعتي الشخصيّة، وربّما لمتعة القرّاء الذين أتخيّلهم مثلي حين يفكّرون باقتناء كتاب ما، أكتب لمتعة قراءة رسائل الأصدقاء الّتي يرسلونها لي في أوقات متأخّرة من الليل للحديث عن المشاعر التي اختبروها أثناء قراءة ما كتبته، حتّى لو كان ما كتبته قد أخذ منّي أشهراً طويلة من العمل. لكنّ تلك المتعة، وذلك التواصل الغريب مع من يقرأ نصّك هي من الأشياء التي "تصبّرني" على "مصلحتنا" هذه التي قد يعتقد الواحد في لحظات كثيرة أنّها ربّما "مش جايبة همّها".

لو سألتني بعد عامين من اليوم، غالباً ستكون إجابتي مختلفة، كما كانت مختلفة قبل عامين، ولا أرى هذا التغيّر في المشاعر بالعلاقة مع الكتابة أمراً سلبيّاً، مشاعرنا مع ما نحبّ تصعد وتهبط وفقاً للظروف، وهذه طبيعة الأشياء، الأهمّ بالنسبة لي أن تبقى تلك المشاعر بالعلاقة مع الكتابة موجودة، وألّا تخبو مع مرور الوقت، والتقدّم في العمر.