في "مهرجان عمّان السينمائي الدولي - أول فيلم"

"أرزة تشرين" و"سماوات لبنان": تأريخٌ بصريّ لمرحلتين وحكايتين

2021-08-23 14:04:00

من: سماوات لبنان

فيلمان لبنانيان (موضوعاً وشخصياتٍ وسياقات وأحداثاً وتفاصيل) يُشكّلان معاً توثيقاً بصرياً لحكايات وحالات وأحوال وانفعالات، بلغتين مختلفتين، وبأصواتٍ عدّة لأناسٍ مجبولين بواقع وذاكرة وراهن، أو مأخوذين من واقع وذاكرة وراهنٍ.

إزاء انهماك "أرزة تشرين" (2020)، الوثائقي الجديد لسليم صعب (عنوانه باللغة الفرنسية: "أرز أكتوبر")، في لحظة تحوّل معطّل في مسار الحراك اللبناني الخفر في مواجهة خرابٍ وفوضى وفساد ونهب؛ يحاول "سماوات لبنان" (2020) ـ أول روائي طويل لكلوي مازلو، الفرنسية ذات الأصل اللبناني (له عنوان آخر باللغة الفرنسية: "تحت سماء أليس") ـ تكثيف الزمن في بنيته الحكائية، فالزمن مُمتدّ بين خمسينيات القرن الـ20 والأعوام الأولى للحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990).

وإذْ يعتمد سليم صعب على التوثيق المباشر، عبر لقاءات مع ناشطات وناشطين في "انتفاضة 17 أكتوبر" (2019) اللبنانية، يقولون فيها كلاماً عن لحظةٍ وعن السابق عليها، وعن حراكٍ جديدٍ وما يلحق به، مُستندين في هذا على رسمٍ وغناءٍ وتفكيرٍ وقول؛ تختار كلوي مازلو سياقاً يجمع المتخيّل البصري بوقائع قليلة، في سردها حكاية حبّ بين سويسرية (الإيطالية ألبا رورفتشر) ولبناني (اللبناني الكندي وجدي معوّض)، بعد وقتٍ على وصول الأولى إلى بيروت، في مرحلةٍ خصبةٍ بغليانٍ في الاجتماع والثقافة والعيش والعلاقات (الخمسينيات والستينيات المنصرمة، تحديداً).

في مقابل التزام "أرزة تشرين" موقفاً يميل إلى الانتفاضة وناسها، بتوثيق مشاعر مشاركات ومشاركين فيها، وتأمّلاتهم وتفكيرهم ومقارباتهم المختلفة، تاركاً لهم حيّزاً واسعاً للبوح المفتوح على تأمّل وإحساس؛ يخترع "سماوات لبنان" حكايات وعلاقات، يستمدّ مضامينها من تفاصيل وأناسٍ، لهم ذاكرة وتاريخ في بلدٍ، تنقلب أقداره عليه، ويغرق سريعاً في حربٍ وموتٍ وتمزّقات. هذه كلّها تؤثّر في قصّة الحبّ تلك، فتتفكّك العائلة، وينصرف أفرادها إلى مصائر وأهوالٍ، جزءٌ أساسيّ منها مرتبطٌ بالحرب وإفرازاتها العنفية. وفي مقابل النَفَس التسجيلي، الغالب على توثيق سليم صعب مرحلةً مهمّة في الراهن اللبناني (والتوثيق مهمّ وضروري)؛ تصنع كلوي مازلو من الصُور ما يعكس شيئاً من حقيقة بلدٍ وناسه، قبل اندلاع حربه، وتفكّك العلاقات (الهشّة أصلاً) بين ناسه، كما في أعوامها الأولى.

يكتفي سليم صعب بتسجيل ما يُقال، وبتصوير ما يُرافق تلك الأقوال من أعمالٍ يصنعها أفرادٌ يُشاركون في انتفاضةٍ، تُصاب سريعاً بأعطابٍ، أبرز أسبابها المباشرة كامنٌ في عنف المواجهة السلطوية لها، وتفشّي وباء كورونا لاحقاً. فـ"أرزة تشرين" يُحدِّد مُراده منذ البداية: تسجيل كلام "نساء ورجال من الأعمار كلّها والطوائف كلّها"، مُشدّداُ على أنّه ليس "تحليلاً سياسياً لهذه الحركة الاحتجاجية". هذا يعني أنّ صعب واضحٌ في ما يفعله، بتحديده الإطار العام لاشتغاله، والجوانب الأساسية فيه. يريد توثيقاً بصرياً للحظة أساسية، رغم أنّ بعض الموثَّق (كلامٌ يقوله مشاركات ومشاركون في الفيلم والانتفاضة) مجرّد تكرار لأقوالٍ قديمة عن عيشٍ مشترك، ونبذٍ للطائفية، وانتماء إلى الوطن.

في مقابل ذلك، هناك محاولة جدّية لتقديم بيروت في خمسينيات القرن الـ20، واللاحق بها من أعوامٍ مديدة، في "سماوات لبنان"، وهذا يُحسب لمخرجةٍ شابّة (كلوي مازلو)، لها جذورٌ لبنانية، وفيلمها هذا أول روائي تُنجزه، بعد أفلامٍ قصيرة. المحاولة تتمثّل بأشكالٍ مختلفة: ديكورات، أزياء، تصفيف شعر، أمكنة، منازل، مقاه، مناخ عام، سيارات. ربما لن يكون هذا كلّه عائداً إلى ذلك الزمن، لكنّه بالتأكيد يعكس شيئاً أساسيّاً منه، فالزمن طويل، ينتهي مع اندلاع الحرب الأهلية، ولهذه الحرب أشكالها وتصوّراتها، وبعض تلك الأشكال والتصوّرات مصنوعٌ بسخرية واضحة ومُحبَّبة. بالإضافة إلى هذا، هناك الألوان، وجزءٌ منها مائلٌ إلى بهتانٍ مقبول؛ بينما الرسومات، التي تنقل بعض بيروت القديمة، وحركة الشخصية النسائية الأساسية أمامها، تفي بشيءٍ من المطلوب، إذْ أنّ إعادة تشييد المطلوب مُكلفٌ إنتاجياً، وغير ذي فائدة درامية أو جمالية، طالما أنّ المقصود إضاءة على الماضي، لأنّ الحكاية في مكانٍ آخر، وسيرة البلد، بمجتمعه وناسه ومساراته، نواة أساسية، تترافق وسيرة عاشقين يُصبحان زوجين، ومع الابنة والأقارب تتشكّل عائلة، تُصاب بأهوال الحرب وقسوتها، فتتفكّك تدريجياً، وتنهار داخلياً.

هذا كلّه غير حاضرٍ في "أرزة تشرين". لا شيء من ماضي البلد مذكورٌ (إلاّ بكلمات قليلة وعابرة)، ولا تذكير أو استعادة. فالأساسيّ مرتبطٌ بحدثٍ (انتفاضة 17 أكتوبر)، يتعرّض لتخبّطات وارتباكات وتمزّقات، لأنّ تنانين السلطة أقوى، ووحوشها أقدر على تحطيم كلّ شيء وقتل كلّ أحد (والقتل متنوّع الأشكال والأدوات)، حفاظاً على سطوتها. شبابُ الوثائقي وشاباته توّاقون إلى تحقيق أحلامٍ (لدى بعضهم تصوّرات "مثالية" عن ماضي البلد ومستقبله)، يرون الانتفاضة مَعْبَراً إليها، لكنّ الواقع أعنف وأقذر من أيّ إمكانية لتحقيق أيّ حلم. التسجيل (يُمكن استخدام مفردة "توثيق" أيضاً، لكنْ بعيداً عن الوثائقي السينمائي المعتَمد منذ سنين في صناعة هذا النوع البصري) حاجة ملحّة، فـ"انتفاضة 17 أكتوبر" متمكّنة من هزّ سلطةٍ، أركانها غير متوافقين وغير متماسكين بعضهم مع بعض، إلاّ عند تعرّضهم لهزّة، كتلك التي يُصابون بها عبر الانتفاضة.

بعيداً عن السينما، ومتطلّباتها الدرامية والجمالية والفنية، يبدو فيلما "أرزة تشرين" و"سماوات لبنان" ـ المُشاركان في الدورة الثانية (23 ـ 31 أغسطس/ آب 2021) لـ"مهرجان عمّان السينمائي الدولي" (الأول في برنامج "موعد مع السينما الفرنسية ـ العربية"، والثاني في قسم "الأفلام الروائية الطويلة العربية المرشّحة لجائزة السوسنة السوداء") متكامِلَين، أقلّه تاريخياً وتأريخياً. ذلك أنّ كلوي مازلو تروي فصولاً من تاريخ بلد، عبر قصّة حبّ، يمتدّ سنين طويلة، تنتهي في الأعوام القليلة الأولى للحرب الأهلية؛ بينما يوثِّق سليم صعب (وفي التوثيق شيءٌ من تأريخ الآنيّ) بعض النتائج المنبثقة من انحلال ذلك البلد في تاريخه، فـ"انتفاضة 17 أكتوبر" ردّ على بؤس وخراب ونهب وفساد، منتجة كلّها بسبب النهاية الهشّة والناقصة للحرب (13 أكتوبر/ تشرين الأول 1990)، وإصدار قانون عفو عام عن جرائم تلك الحرب (26 أغسطس/ آب 1991)، يُبرّئ لاحقاً أمراء الحرب والطوائف، ويُسلّمهم البلد، الذي تؤول أحواله إلى واقع يصنع انتفاضة، قبل سقوط الجميع في انهيار مدوٍّ.

فيلمان لبنانيان (موضوعاً وشخصياتٍ وسياقات وأحداثاً وتفاصيل) يُشكّلان معاً توثيقاً بصرياً لحكايات وحالات وأحوال وانفعالات، بلغتين مختلفتين، وبأصواتٍ عدّة لأناسٍ مجبولين بواقع وذاكرة وراهن، أو مأخوذين من واقع وذاكرة وراهنٍ.
 

من: سماوات لبنان