ضمن الفصول التي تروي يوميات الجدّة والحفيدة يجيء زوارٌ كثيرون، أكثرهم حضوراً هي العاصفة. لكن ضمن فصول المغامرات بقي الأب مع الجزيرة يخرجان بين مشهدٍ وآخر، الجزيرة هادئة غنية بالكائنات، تصورها الرسامة الفنلنديّة مثلما ترسم لوحة في طبيعةٍ بكر، والأب صيّاد يستيقظ في السادسة، ويعدّ الشاي.
تعرض الروائية والرسامة الفنلنديّة توفه يانسون (1914-2001) في روايتها "كتاب الصيف" الصادرة حديثاً عن دار ممدوح عدوان، بترجمة سمير طاهر عن اللغة السويدية؛ حكايات صوفيا مع جدّتها. إحداهن تعرفُ الدنيا والثانية تكتشفها، إحداهن تهمُّ بالخروج من العالم، وأخرى تهمّ بالتعرّف عليه.
في روايةٍ من غير حبكة، وعبر مشاهد من حياة صوفيا وجدّتها على جزيرة صغيرة في خليج فنلندا، تملي توفه يانسون على قارئها أفكاراً شتى حيال الحبّ والموت والصداقة، ومن غير أن تكون واعظة توضّح للأطفال أسئلة تشغلهم عن الله والأخلاق، عن الأشرار وعن الخير والإيمان. إذ يلتئم في الكتاب خطُ النهاية الذي يشهدهُ البشر، بعدما خبروا كلّ شيء، مع نقطة الانطلاق الحماسية الممتلئة بروحِ المغامرة. على الرغم من وجود شخصية الأب، غير أنّ الكاتبة تستخدمه كي تحتالَ المغامرتان، الجدّة والحفيدة، على وجودهِ. فالأب موجود، غير أنّه يمثلُ السلطة التي تفرضها الطبيعة على الضعفاء ممّن يحتاجون إلى الوصاية. الأب موجود لكنه وصيُّ وحارس، فيما المغامرتان إحداهنّ قد أَنِفت تلك الوصاية، وهي الجدة، وأخرى تتوقُ لأن تجرّب وتنقص مساحات الجهل في داخلها. إذاً؛ وجودُ الأب هو وجودُ رمزي يساعد في تحليل العلاقات بين البشر. كما تحيلُ يانسون الكثير من مفردات الطبيعة إلى عالمٍ رمزي تفكّكهُ الجدة للطفلة وتشرح لها دلالاتِ الطبيعة في حياة البشر. مثل تلك الدودة التي تنقسم إلى قسمين، ويعيد كلّ نصفٍ بناءَ ذاتهِ، كلّ جزء يعاود ترميم ذاتهِ من أجل الاستمرار. الرواية بمجملها لوحة فاتنة عن الطبيعة، حيثُ البشر جزءٌ من نظام أعقد، غير أنّ قوانينه أكثرَ رحابة من قوانينهم. نعرف أنّ صوفيا يتيمةُ الأم، ولذلك هي تعيشُ مع الجدة التي تجعل من حياة الحفيدة معها، رحلةً هادئةً ودافئةً إلى الأعماق، حيثُ يتفكك الحزن وتختبر الطفلة شيئاً فشيئاً العالم الساحر الذي تعيشُ فيهِ على الجزيرة، بين الأمواج وتحت ضوء القمر، وفي أحد الألعاب تقوم الجدّة بدور الأمّ، وتناديها صوفيا أمي. بينما تبنيان مدينة البندقية وسط مستنقع في الجزيرة الفنلنديّة.
تقصُّ الجدة على الحفيدة حكاياتٍ عنِ الطائر الذي مات بسبب حبٍّ تَعِس، وتخبرها مع ذلك، أنّ على المرء أن يستمر بالحُبّ، مع إدراكها أنّ البشر يحبّون أقل أولئك الذين يحبّونهم أكثر. تكشفُ الجدّة للحفيدة من غير تزييف أو مبالغة طبائع البشر، تحكي لها عن الجنّة وعن الملائكة، وتخبرها عن قيم التسامح الذي يعني أن تحترم الآراء كلّها، كما تخبرها بوجوب أن يتاح للإنسان ارتكاب الأخطاء بنفسهِ. تمتلك المغامرتان وقتاً طويلاً للتأمّل وللتساؤل حيال العالم الذي تعيشان فيهِ. الأمر الذي يعزّزه بناء القصة التي تقتصر على كليهما، حتى الشخصيات الثانوية من جيرانٍ وأطفالٍ ومنحوتات خشبية، إلى جانب مكونات الطبيعة في الجزيرة من صخورٍ وأعشابٍ وأمواج، من قطط وطيور وحشرات، كلّها تدخلُ في حوارهما، وتكون مجرّد موضوعات لحكمةِ الجدّة التي تعتبر مثالاً للجدّات اللواتي تعطين الأطفال دروساً في الحياة باستخدام اللعب والحكايات. كلّ هذا العالم الحكائي المجرّد، يُبنى في مكانٍ معزولٍ عن العالم، وفصول الرواية احتدامٌ لعقلين؛ واحدٌ فضولي وشغوف والآخر بارد وغير تلقائي. تعاني الجدّة من أمراض الشيخوخة المعتادة، فيما الطفلة ممتلئة بالنّشاط، الأمر الذي جعل من مغامراتهما سواء الجسديّة، باجتياز السياج وفي الغابة، أو العقلية في نقاشاتهما العديدة حيال الوجود، جعل من رحلتهما احتداماً بين كائنين بدا أنّهما من طبيعتين مختلفتين، ما جعل الرواية تنطوي على دعابةٍ وخفّة، فالمغامرتان اللتان تجيئان من عالمين متباعدين تلتقيان بصورة هادئة في جزيرة هادئة، لقاؤهما جزءٌ من الطبيعة ورسائلها.
ضمن الفصول التي تروي يوميات الجدّة والحفيدة يجيء زوارٌ كثيرون، أكثرهم حضوراً هي العاصفة. لكن ضمن فصول المغامرات بقي الأب مع الجزيرة يخرجان بين مشهدٍ وآخر، الجزيرة هادئة غنية بالكائنات، تصورها الرسامة الفنلنديّة مثلما ترسم لوحة في طبيعةٍ بكر، والأب صيّاد يستيقظ في السادسة، ويعدّ الشاي. إنّها حياة مثالية تحدث بموازاة الحياة الواقعية. في عالم الجزيرة المعزول، نستشّفُ الحياة المضطربة من أحاديث الجدّة ومن حكمتها. فيما الطفلة صوفيا التي تساعد الجدّة في مهمات تشقُّ عليها، وعلى الرغم من كونها، مثل أي طفلٍ آخر، شخصية استحواذيّة يبدو العالم برمّتهِ ملكها وتريد أن تملأ الغابة والمنزل والبحر بالصخب والحياة، إلا أنّها تمتثل بالنهاية هروباً من سلطة الأب، إلى سلطةً أخرى هي سلطة المعرفة التي تمثلها الجدّة. لا تقع رواية "كتاب الصيف" على زمنٍ لأنّها عن حكاية تحدث في كلّ زمن، كما لا توجد فيها أحداث ولا تنمو شخصيات أو تتطوّر، لأنّ الرواية تصويرٌ لمثالٍ عامٍ وراسخٍ يدور بين المفارقات ويسوّي ما بينها.
نقرأ من الكتاب:
"وسألتها كيف يستطيع الله أن يتابع الذين يدعونه كلّهم في وقتٍ واحد.
-"إنّه حكيمٌ جدّاً، جدّاً". غمغمت الجدّة ناعسةً من تحت قبّعتها.
-"أجيبيني بحقّ". قالت صوفيا: "كيف يستطيع أنْ يفعل ذلك؟".
-لديه سكرتير...
- لكنْ كيف يستطيع أن يلبّي للدُّعاة ما يريدون حين لا يكون لديه وقتٌ للحديث مع السّكرتير قبل أن تسوء الأمور؟
تظاهرت الجدّة بالنّوم، لكنّها كانت تعلم دائماً أنّ تظاهرها لنْ يخدع أحداً، وفي النهاية قالت "إنّه يرتّب هذا الأمر بحيث لا يحدث أيّ شيءٍ خطر بين لحظة الدّعاء ولحظة معرفته بما قاله الشّخص في دعائه". وعندها سألتها حفيدتها: "وكيف يتمّ هذا في حالة شخصٍ يدعو ربّه في أثناء سقوطه عن الجبل، وهو يطيرُ في الهواء؟".
- "هاها!". قالت الجدّة، وقد بدأت تصحو: "في هذه الحالة سيجعله يَعْلَق بغصنٍ ما". "