الشتيمة في السياقات الثورية: لبنان نموذجاً

2021-07-30 10:00:00

الشتيمة في السياقات الثورية: لبنان نموذجاً
Hussein Madi, Red Birds on Blue Sky

يبدو أنّ السّلطة الحاكمة لم تفهم رمزيّة الشّتيمة الثّوريّة مما جعلها تتوقف عند مستواها المباشر، السّطحيّ، الأوليّ، دون أن تتجاوزه إلى المستوى الرّمزيّ، الأعمق، المضمر؛ إذ لا تقصد الذّات الثائرة، أثناء قيامها بالفعل القولي الشّتائميّ، معنى الشّتيمة بذاتها، بقدر ما تقصد تحطيم الرّمز الأبوي السّلطويّ، ورفضه، والتّمرّد عليه. 

الشّتيمة: تحوّلاتها من اليوميّ إلى الرّسميّ (الثّوريّ)

تعيش المنطقة العربيّة، من عام 2011 إلى الآن، في خضم ثورات زاخمة، ولتشريح هذه الثّورات وفهمها فهماً دقيقاً لا بدّ لنا من أن نتوقف عند تحوّلات خطاب الشّارع الثّوريّ.

إذ أنتجت، كلّ ثورة من هذه الثّورات، خطابها الخاصّ بها، والمعبّر عن آليات تفكير الشّارع الثّائر، وإشكالياته، ومضمراته، ونسقه الثّقافيّ، فالفعل اللّغويّ الثّوريّ ليس فعلاً تمرديّاً، رافضاً فحسب، بل هو، أيضاً، فعل إشاريّ، دالّ، يمكننا، من خلال مقاربته مقاربة نقديّة واعية، أن نفهم مكنونات الذّات الثّائرة فهماً أكثر دقّة وموضوعيّة.

ومايميّز الخطاب الثّوريّ اللّبنانيّ المعاصر بروز شتيمة الآخر، السّلطويّ، السّياسيّ بروزاً واضحاً، فكان خطاب الثّائر اللّبنانيّ، في وجه من وجوهه، خطاباً شتائميّاً، يوظّف الشّتيمة في مواجهة فساد السّلطة الحاكمة.

وهنا يجب أن نشير إلى أنّ الشّتيمة ممارسة لغويّة، قديمة، موجودة في مختلف المجتمعات الإنسانيّة، وحاضرة في السّياق اليوميّ على مستوى الأفراد، إلّا أنّ التّحوّل الجّوهريّ الذي حدث في ثورة  لبنان (ثورة 17 أكتوبر) يكمن في انتقالها من المستوى اليوميّ، الفرديّ، النّمطيّ إلى المستوى الرّسميّ، الجّماعي، الثّوريّ، فغدا الشّتم فعلاً جماعيّاً، كلّيّاً بعد أن كان فعلاً شخصيّاً، نمطيّاً. 

ويبدو أنّ جماعيّة الشّتم، في الثّورة اللّبنانيّة، تكمن في تنوّع الفئات الموظّفة له، سواء أكانت هذه الفئات على مستوى الجّندر (فئات جندريّة) أم على مستوى العمر (فئات عمريّة). 

كيف ظهرت الشّتيمة ثوريّاً؟

إنّ السّلطة الحاكمة (الأنا العليا) تفرض على الأفراد نسقاً من التّصوّرات، والمبادئ، والقوانين، والتّابوهات، وتراقب التزامهم به، وتماهيهم معه، وتنفيذهم له تنفيذاً عمليّاً.

غير أنّ هذا النّسق لايلبّي، غالباً، حاجات الأفراد وتوقهم الدّائم إلى الحريّة، فتتراكم هذه الحاجات غير المشبعة في منطقة الهو تراكماً طويلاً، معقّداً، منتظرة لحظة انفلاتها من سلطة الأنا العليا، (اللّحظة الوجوديّة الثّوريّة).

وما حصل في السّياق اللّبنانيّ أنّ هذه الحاجات غير المُشبعة تضخّمت حتى وصلت إلى مرحلة الانفجار، (اللّحظة المفصليّة الثّورية)؛ إذ لم يعد من الممكن أن تحتمل الأنا الجّماعيّة اللّبنانيّة كبت هذه الحاجات الوجوديّة، الطّبيعيّة، غير المحققة. 

وتجدر الإشارة في هذا السّياق إلى أنّ بعض السّلطات قد تلبّي، أحياناً، حاجات الأفراد، وهذه التّلبيّة تخفّف من تضخّم الهو، وبالتالي تصبح هذه المجتمعات مجتمعات أقل احتمالاً للفعل الثوريّ، مقارنة بالمجتمعات الأخرى، المتعرّضة لضغط قوي في منطقة الهو.

وكان لانفجار الهو اللّبنانيّ مظاهر متنوّعة، مثل: قطع الطّرقات الرئيسيّة، ملاحقة السّياسيين في الأماكن العامّة، ولعلّ الشّتيمة من أبرز هذه المظاهر، فالشّتيمة، وخصوصاً الشتيمة ذات الحمولات الجنسية الذّكوريّة الموجّهة للآخر السلطويّ (السّياسيّ)، مظهر لغويّ، تمرديّ، ثوريّ، نابع من أعمق طبقات الهو، وناجم عن انفجاره.

ردّة الفعل السّلطويّ

انزعجت السّلطة الحاكمة اللّبنانيّة من التّمرد الشّتائميّ عليها، ونظرت إليه نظرة أخلاقيّة محضة، فهو، وفق تصوّرها، سلوك لغويّ، مستهجن، لا أخلاقيّ، ومن غير المقبول صدوره عن الذّات الثّائرة.

فالسّلطة الحاكمة اللّبنانيّة رسمت صورة محدّدة للذّات الثّائرة، وهي صورة أخلاقيّة نمطيّة، وبالتّالي أخرجت الذّات الثّائرة اللّبنانيّة، بسبب الفعل الشّتائميّ، من النّطاق الثّوريّ. ولهذه النّظرة الأخلاقيّة للشّتيمة الثّورية تفسيران:

١- رغبة تشويهيّة 

إنّ فهم السّلطة الحاكمة للشّتيمة فهماً أخلاقيّاً هو محاولة منها لتشويه الحراك الثّوريّ ووصمه بسمة لا أخلاقيّة، وهذه الآلية التّشويهيّة، عادة، ما تتبعها السّلطات الحاكمة عندما لاتستطيع السّيطرة على ظاهرة ثوريّة محدّدة، بقصد ضرب رمزيّة الحراك الثّوريّ. وتجدر الإشارة إلى أنّ السلطة قد تتبع آليّات أخرى لتشويه الحراك الثّوري، إذ قد تلصق تهمة العمالة بالحراك، وقد تتهمه أيضاً بالإرهاب...الخ.

٢- سوء فهم دلاليّ

يبدو أنّ السّلطة الحاكمة لم تفهم رمزيّة الشّتيمة الثّوريّة مما جعلها تتوقف عند مستواها المباشر، السّطحيّ، الأوليّ، دون أن تتجاوزه إلى المستوى الرّمزيّ، الأعمق، المضمر؛ إذ لا تقصد الذّات الثائرة، أثناء قيامها بالفعل القولي الشّتائميّ، معنى الشّتيمة بذاتها، بقدر ما تقصد تحطيم الرّمز الأبوي السّلطويّ، ورفضه، والتّمرّد عليه. 

سياقات الشّتيمة: في فهم الظّهور المكانيّ للشّتيمة الثّوريّة

إنّ مفرزات الهو المنفجر، ثوريّاً، متنوّعة، ومنها الشّتيمة، والسؤال الذي يطرح نفسه لماذا برزت الشّتيمة في السّياق الثّوري اللّبنانيّ، بالتّحديد، ولم تظهر، بنفس الزّخم، في السّياقات الثّوريّة الأخرى، مثل الثّورة السوريّة، ويمكننا أن نعزو هذا الأمر لسببين:

١: إعلاميّ 

فالتغطية الإعلامية للثّورة اللّبنانيّة كانت تغطية مهمّة ومتقدّمة، مما جعلنا نتعرّف على طبيعة الخطاب الثّوريّ اللّبنانيّ في أدق تفاصيله، وهذا ما لم يكن موجوداً في الثّورات العربيّة الأخرى، مثل: الثّورة السّورية والثّورة العراقية. 

٢: حجم انفجار الهو

إنّ حجم انفجار الهو يفرض طبيعة المفرزات الناتجة عن هذا الانفجار، وبالتالي فإنّ انفجار الهو اللّبنانيّ كان انفجاراً قويّاً مما أدّى إلى بروز مظاهر تمرّديّة ثوريّة فاقعة، مثل الشّتيمة.

وبذلك نكون قد تمكنّا من تحديد تحوّل ثقافي لغويّ في الخطاب الثّوريّ العربيّ، وذلك من خلال نموذج ثوريّ محدّد، وهو النّموذج اللّبنانيّ، وهذا التّحول هو انتقال الشّتيمة من المستوى الفرديّ النّمطي إلى المستوى الجّماعيّ الثّوريّ، وبيّنا حيثيّات ظهور الشّتيمة في السّياق الثّوريّ اللّبنانيّ، وذلك بالاعتماد على مقولات علم النّفس: الأنا العليا، الهو، الأنا، ووضّحنا كيفيّة تعامل السّلطة مع الفعل القولي الشتائميّ، وركزنا على سببين لهذا التّعامل، وهما: الرّغبة التّشويهيّة، وسوء الفهم الدّلاليّ.، وناقشنا دور الإعلام، وزيادة تضخّم الهو في بروز الفعل الشّتائميّ الثّوريّ اللّبنانيّ.