نطحن شغفنا، فتبرد قهوتنا

2021-07-26 14:00:00

نطحن شغفنا، فتبرد قهوتنا
Ralph Goings, Dunkin' Donuts Coffee Shop

أشرب منها بعد أن أغير طعمها قليلا ببعض الأعذار والاقناع الذاتي، وحقيقة أنني حاولت ولا زلت أحاول، أرمي الباقي وأجدد وعدي لنفسي أنني غدا صباحا سأشرب قهوتي ساخنة حتى رشفتها الأخيرة.

 فرق توقيت الرشفات

في أحد أيام الثلاثاء، قررت أن أحوله من منتصف أسبوع عادي وممل إلى يوم عطلة عشوائي، أحاول فيه الهروب من مطحنة الشغف والطموح والأحلام والخطط والمهمات، وأن استريح قليلا من لعبة القفز عن الحواجز واجتيازها.

لا هدف في هذا اليوم سوى الوفاء بوعدي لنفسي الذي لا يتحقق كثيرا، أريد فقط أن أشرب قهوتي ساخنة في وضح النهار، دون أن يكون فرق التوقيت بين الرشفة الأولى والثانية يمتد من الثامنة صباحا حتى الثالثة عصراً.

استيقظت، حسب توقيتي أنا بدون منبه، أغلقت هاتفي ولم أكتف بذلك، بل سجنته في درج المكتبة السفلي، لأتحرر أنا من كل ما به من قوائم وانتظار.

ارتديت ملابس مريحة، تكورت على كنبتي المفضلة، وبدأت أشرب قهوتي الساخنة مرفقة بكعكة جوز الهند، اشربها بتواصل وعدة مرات كنوع من التعويض عن بقية الأيام. 

جلست وفكرت في حقيقة أنني، دون أن اتعمد ربما، أضع دائما شروطا لرشفة القهوة الثانية، بعد كتابة التقرير الطبي، بعد معاينة المريض الخامس أو ربما الأخير، بعد قراءة المحاضرة، بعد أ محادثة مع صديقة، أو حتى بعد أ كتابة فقرة في نص جديد،وكأن تلك الرشفة مكافأة احتاج لاستحقاقها بعض الإنجازات بأحجام مختلفة.

حاولت التحايل على برود القهوة بكأس حافظ للحرارة أنسى احضاره في أغلب الأحيان، أو في احضار كؤوس ورقية مع غطاء بلاستيكي، فلم يكن ذلك الغطاء سوى خدعة جديدة تجعلني اطمأن وأتمادى في الانشغال فتبرد هي أكثر مع الغطاء مما كانت عليه دونه!

مع الوقت صرت اعتاد على شرب القهوة باردة لكنني لم أستسلم أبدا للبرود، فاصنع لنفسي كل يوم فنجان ثان وثالث ارتشف من كل منها قليلا، فيكون في نهاية اليوم لدي مكتب نظيف خال من المهمات والأوراق، لكن عليه ثلاث أو أربع كؤوس ورقية تملؤوها قهوة وبرود وتأجيل بدرجات متفاوتة.

أشرب منها بعد أن أغير طعمها قليلا ببعض الأعذار والاقناع الذاتي، وحقيقة أنني حاولت ولا زلت أحاول، أرمي الباقي وأجدد وعدي لنفسي أنني غدا صباحا سأشرب قهوتي ساخنة حتى رشفتها الأخيرة.

ترابنا، قهوة لا تبرد

أحب القهوة لكنني لا أعشقها ولا أقدسها، ولا أعفيها من أسئلتي، ولا أخجل من رفضها.

على مدى ست سنوات من دراسة الطب لم تكن هي مفتاح نهاري كما زملائي، واتذكر جيدا كل المعارك الناعمة التي خضتها لأدافع عن حقي وحريتي باختيار توقيت قهوتي وطعمها ومن يدفع ثمنها.

ولم اقتنع يوما، كما يؤمن كثيرون، أنها جرعة شغف التي ستعينني على الدراسة لساعات طويلة وإنجاز قائمة مهمات لا تنتهي، وتلك واحدة من أساطير كليشيهات كثير نحملها للقهوة رغما عنها. 

فأنا لا أعتبر الدارسة عقابا أو مضيعة لسنين العمر، كما سمعت في الأسبوع الماضي صدفة، من فتيات في الصف الثامن يتحدثن عن أن الدراسة قبل يوم واحد لامتحان العلوم هي مضيعة لوقتهن، وليست تضحية دون مقابل، ولا شماعة نعلق عليها خيباتنا وأخطائنا وأخطاء غيرنا، ولا كهفًا نهرب إليه من مسؤولية أن يكون لنا حضور وموقف من كل ما حولنا .

 والحاجة لها لا تقتصر على الطب فحسب بل هي ضرورة ملحة للتطور الإنساني وليست محصورة حتى في المهن. فقد حدثتني عمتي ابنة الستين عاما والسعادة تلمع في عينيها، كيف أنها قضت ساعات على اليوتيوب وسجلت ملاحظات من الفيديوهات عن كيفية زراعة البندورة في حديقة المنزل. 

هناك متعة وتجدد في أن تكون تلميذا أبديا، دون ان تسجن نفسك في الطب أو أي علم أو مهنة واحدة، فأنا أحاول دوما أن أكون تلميذة أبدية مجتهدة في الطب، في الأدب، في السياسة، في طرق المحبة، في إجادة ادواري بالحياة كافة، كإبنة، كأخت، كحفيدة، كصديقة، كحبيبة، كزوجة وأم، وأن أكون تلميذة أبدية في معرفة نفسي وفهمها ومواجهتها. هي وصفتي السلسة التي أمنح فيها أيامي وأيام من حولي حيوات جديدة لأن واحدة منها لا تكفي. لكنني منذ الصف الأول لم أكن ولن أكون تلميذة صامتة ومطيعة، فالعلم والدراسة والتلمذة، دون ما نستحق من الحرية، هم اسم آخر للعبودية. 

ورغم الفهم العميق لحقيقة الأمور وجدوى الدراسة الأبدية، قد نتغير وتتغير ظروفنا وتتقلص أحيانا قدرتنا على التحمل واختراع الشغف والأسباب، وتبقى معنا الدراسة كحمل ثابت يزيد ثقلا مع الأيام، نحتاج لحمله الف حبل، مرة نحملها بحبال من التفاصيل الصغيرة، كتغير ترتيب الغرفة عدة مرات، أو شراء أقلام ودفاتر ملونة وأدوات مكتبية تعرف مسبقا أنك لن تستعملها، ومرة تحتاج الى السفر، أو محادثات طويلة وعميقة مع العائلة الأصدقاء، أحاول دائما تطوير أدواتي لتكون ساعات دراستي أكثر سلاسة ونجاعة.

لكن تبقى لدي أداة سحرية وسرية تنجح دائما، استخدمها من دارسة الثانوية او حتى الإعدادية مرورا بست سنوات تعليم الطب وصولا الى امتحانات الاختصاص. هي أنني كلما ضاق صدري وتعب عقلي وارهقت روحي، اترك كل شيء واشغل بعض الأغاني الوطنية، أبدأ عادة بـ "جايين يا تراب الوطن جايين" .

ومع الوقت صرت أعرف أن اختار أغنية وطنية مناسبة لدرجة تعبي وارهاقي، في التعب العادي اكتفي "يا رايح صوب بلادي "، في المتوسط " سنبقى هنا، وفي التعب القاسي "طلت البارودة " "ومن سجن عكا"، ودائما ما اسمع في الختام "اني اخترتك يا وطني سرا وعلانية".

دائم الخضرة يا قلبي

 لا اعرف ما سر تلك الأغاني وكيف لها أن تكون هي حبالي الثابتة التي تنتشلني من تعبي وتجعل حملي خفيفا على الروح مهما ثقل.

 تلك الأغاني الوطنية هي حفنات تراب ساخن، أنثرها من سنين بين قلبي والأوراق والكتب لأتنفس، أدفن فيها حزني غضبي وأزرع فيها ذكرياتي وأحلامي وأمنياتي لتزهر فيكون قلبي دائم الخضرة، فأنا وقلبي وأحلامي ودفاتري وأوراقي قطعة أرض متصلة بالوطن تحمل همه وحلمه ونبض شعبه، فلن أكون يوما لاجئة في بحر فردي منعزل من طموحاتي وإنجازتي الشخصية، تلاطمني فيه أمواج الصمت والتخاذل بحجة الشغف ولا يرويني فيه حينها لا القهوة ولا ملح التفاصيل.

فأنا تلميذة أبدية في أرضي، لا يهمني فيها أن تبرد قهوتي لكن كلماتي من تراب،لا تبرد ولا يغتالها أحد.