قمت أنا وصديقي باستئجار مقر لنا يكون كهفًا للرجال والفن، فاتخذ هو غرفة له مرسمًا يأتي إليه خارج ساعات عمله وانتقلت إلى الغرفة المجاورة التي أصبحت الاستوديو الخاص بي لتسجيل الصوت والمكتب الذي أجلس قبالته على كرسيي منبع الذكاء حيث تمّت كتابة هذه القصّة، ومطلعها: " قبل عدّة أعوام كنت لا أزال..."
قبل عدّة أعوام كنت لا أزال أعزبًا مقيمًا مع أمّي في بيت واحد وكان عندي كرسيّ مكتب قديم لدرجة أن الاسفنجة التي كانت من المفترض أنّني أجلس عليها قد ذابت وتحوّلت إلى أثير تبخّر إلى الفضاء. فقرّرتُ أن أجوب الأسواق بحثًا عن كرسيّ جديد حفاظًا على خلفيتي الثقافية من أصناف العذاب التي لا داعي لها.
بدأتُ الرحلة وأنا لا أعي شيئًا في عالم المفروشات المكتبية، لا أعرف المصطلحات أو الأسعار ولا حتى تقييم البضاعة التي يسعى البائع أمامي إقناعي بها. اكتشفتُ أولًا أنّه في عالم الكراسي المكتبية هناك كرسي المدير عالي الظهر وكرسي الموظّف الأصغر حجمًا وكرسي الضيف الذي لا يفرق شكلًا عن كرسي الموظّف إلّا بغياب العجلات في الأسفل. وثانيًا اكتشفتُ أنَّ جارنا المزعج الساكن فوقنا كان يعمل في مجال المفروشات المكتبية فقد دخلتُ إلى أحد المتاجر ووجدته هناك وحاول بيعي ما لديه لكنّني أسرعت إلى الخارج هاربًا. ثالثًا اكتشفتُ أنّني أستمتع بتقصّي المفروشات المكتبية بشكلٍ عام والكراسي منها بشكلٍ خاص.
باختصار وقع اختياري على كرسيّ شكله مستوحىً من المفروشات المكتبية من فترة الستينيات والسبعينيات، وبعد أن استطعت تخيُّل نفسي فيه بوضوح وأنا أعمل على مخطوطٍ لكتابٍ ما مستمعًا لموسيقى الجاز انتقلتُ إلى اختيار الألوان التي أريدها. وبعد طول عناءٍ مع الخيال والتخيُّل، لأنّها استُنفدت مع الجاز، حسم صاحب المحل لي عدد الألوان التي أستطيع أن أغطيها، فقد قال لي إنَّ السعر سيرتفع إن زاد عدد الجلود المستخدمة عن إثنين فاخترت أن يكون باطنه خمريًّا وظاهره لونًا أسودًا مائلًا للون القهوة المصنوعة من بنّ محروق بلا هال أو سكّر.
طبعًا وعدني صاحب المحل بإيصاله إلى المنزل ولم يحصل، فكرسي واحد ليس بالنقلة "المحرزة". لكنَّ العبرة أنَّ الكرسيّ وصل وحصلتُ على عرش مملكتي الصغيرة التي واجهتْ أول انقلابٍ عسكري عليها بعد أقلّ من عام. فقد عقدتُ قراني على من كانت صديقتي في فترة استجلاب العرش.
أبيتُ أن أنتقل إلى بيت الزوجية بلا كرسيي وتمسّكت برأيي بكلّ تمرّد رغم أنَّني لم أجلب طاولة مكتب إلى منزلي الجديد. فلطالما كنت أعلم أنّني إن عملت في مجال ما فسيكون هذا العمل مكتبيًّا، لذا قرّرت أنّني أريد من مساحتي التي حصلتُ عليها في المنزل أن تكون مكتبةً فقط لا مكتب فيها؛ خزائن مليئة بالكتب على طرفها كرسيّ هزّاز وإضاءة مخصصة للقراءة. وتوسَّطت خزائن الكتب خاصتي الكرسي المكتبيّ الأحمر لكن بلا مكتب.
اتُهِم الكرسي بالخروج عن القانون. قانون من؟ الحاكم الفعلي طبعًا للحياة اليومية؛ زوجتي. فبالنسبة لها لم يكن يتلاءم بشكله وألوانه مع المحيط والموضوع فيه وكانت تشبّهه بكرسيّ الحلاقين أو السيارات القديمة. كما أنَّ الأعراف والحقوق العامة تقتضي أن يكون كرسيّ المكتب تابعًا لمكتب وليس فالتًا على حلّ شعره يجوب رفوف الكتب ولا فائدة منه. لكنّني كنت أواجه هذه الاتهامات بدفاعٍ مستميت يرتكز إلى حقيقة لا جدال فيها بأنّني صدقًا أشعر بأنّني أكثر ذكاءً عندما أجلس على هذه التحفة المعاصرة.
لسببٍ ما لم تقتنع زوجتي بحجتي، والأكثر غرابة أنَّ جميع من يزورنا من أقارب وأصدقاء قد وافقها الرأي بشأنِ الكرسيّ وبشأن حجتي أيضًا. لكن مراعاةً لي بقي ذلك الكرسي صامدًا ينهل من ثقافة مكتبتي الخاصّة إلى أن قرّرتُ أن تكون خطوة عدم العمل في المنزل قرارًا نهائيًّا، فحتى حينه كنت أجلس إلى طاولة الطعام مع حاسوبي للعمل.
قمت أنا وصديقي باستئجار مقر لنا يكون كهفًا للرجال والفن، فاتخذ هو غرفة له مرسمًا يأتي إليه خارج ساعات عمله وانتقلت إلى الغرفة المجاورة التي أصبحت الاستوديو الخاص بي لتسجيل الصوت والمكتب الذي أجلس قبالته على كرسيي منبع الذكاء حيث تمّت كتابة هذه القصّة، ومطلعها: " قبل عدّة أعوام كنت لا أزال..."