مواقع النكبة: الطنطورة... أم الجُزر وبلد البطيخ الأخضر

2021-06-23 00:00:00

مواقع النكبة: الطنطورة... أم الجُزر وبلد البطيخ الأخضر

واعتمد سكان القرية في معيشتهم الحياتية على مصادر رزق أساسية وهي صيد الاسماك لقرب القرية بل ملاصقتها للبحر، والنقل التجاري البحري، والزراعة ورعاية المواشي. ومن أبرز المحاصيل التي زرعوها: الحبوب على أنواعها كالقمح والشعير والفول والحمص والعدس والسمسم.

"يصعُبُ عليّ الآن نقل مشاعر أهل البلد، ربما لأنني ساعتها كنت أعيش حالة لا تسمح سنّي بالإحاطة بها. ربّما تساءلت مثل باقي الناس! متى يأتي علينا الدور؟ ربّما كنت مثلهم أتشبّث بقشة الغريق وأردد مثل الشباب أن عين غزال وإجزِم وجَبَع الأضغر من صفد ويافا وعكا والتي لا يحرسها سوى أهاليها، صمدت وصدّت العدوان مرة بعد مرة، وأننا مثلهم سنصد أي محاولة لاستباحة قريتنا. هل سنقدر؟ أقطع السؤال. أذهب إلى البحر. أتربع على الشاطئ. أتابع بالنظر المكان". (رضوى عاشور. رواية "الطنطورية". دار الشروق، القاهرة، 2010. ص 39).

الاسم والأصل والمعنى 

يعتقد عدد من المؤرخين والباحثين والموثقين للروايات الشعبية والتراثية أنّ بعض عائلات القرية قد وصل إلى حيث موقعها قادمًا من اقليم اسمه "طنطور" في الهند. ولكن في المسميات الفلسطينية فإنّ الاسم "طنطور" يعني المكان المرتفع قليلا على هيئة قبعة مخروطية الشكل نوعًا ما. علمًا أنّ القرية مُقامة على موقع كنعاني اسمه "دور" ويعني "المنازل". وتشير آثار كثيرة في موقع القرية ومحيطها إلى وجود استيطان بشري منذ فجر التاريخ المعلوم لنا. كما وتشير نقوش فيها إلى أيام الفرعون رعمسيس الثاني وكذلك دلائل تعود إلى القرن العاشر قبل الميلاد.

موقع القرية وتطوره

والقرية "الطنطورة" تقع على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، وتبعد بحوالي 24 كم إلى الجنوب الغربي من مدينة حيفا. ويرتفع أعلى منزل فيها عن سطح البحر بحوالي 25 مترا. إذ أنّها قرية موازية للبحر. وتحيط بها القرى التالية: الفريديس، كفر لام، عين غزال، إجزم، جسر الزرقاء. وتجدد السكن في الفترة العثمانية بشكل مكثف. وخصوصًا في أيام حكم الشيخ ظاهر العمر الزيداني في منتصف القرن الـ 18. حيث قام الزيداني بتوسعة الميناء الصغير لاستخدامه في تصدير القطن إلى أوروبا. إذ أن زراعة القطن انتعشت في عدد من مناطق الجليل ومرج بني عامر والساحل الفلسطيني. وخلال الحملة الفرنسية على فلسطين وباقي بلاد الشام (1799) التي قادها نابليون بونابرت قام بجعل القرية مقرا لجيوشه الزاحفة نحو عكا لمحاصرتها واحتلالها من يد أحمد باشا الجزار. واستراح بونابرت في أراضي الطنطورة أثناء عودته مهزومًا أمام أسوار مدينة عكا، وأقام فيها مستشفى ميداني لعلاج مئات الجرحى ومرضى وباء الطاعون الذي تفشى في صفوف جنوده ، فما كان منه إلاّ أنْ دفن بعض مدافعه في رمال وبحر الطنطورة. وتمّ العثور عليها في الثمانينيات من القرن الماضي وانتشال بعضها وعرضه في أحد متاحف مدينة حيفا.

آثار في القرية وحواليها

وتمّ الكشف عن آثار تاريخية قديمة جدًّا تعود إلى الفترة الكنعانية في محيط القرية. وأيضا آثار من أيام الفراعنة وبضمنهم الفرعون رعمسيس الثاني. وبقايا كنيسة بيزنطية في المنحدرات الشمالية لتل البرج المجاور وبقايا قلعة صليبية مسماة كزال دو شاتيون ( وفي جملتها برج مربع العقد). وذكر أيضًا أنّ ثمة هناك مزيدًا من المعالم الأثرية في خربة الدريهمة الواقعة الى الشمال الشرقي من القرية. وأجريت تنقيبات اثرية تحت المياه قرب شاطئ الطنطورة عثر خلالها على مراسي سفن يعود تاريخها الى معظم الحقب من تاريخ الموقع، ومدافع من فترة الحملة الفرنسية على بلاد الشام.

المواقع الأثرية حول القرية

تكثر في قرية الطنطورة المواقع الاثرية وأيضًا الخرب التي تكشف لنا عن آثار دارسة فيها. ومن أشهر هذه المواقع: خربة المزرعة التي تحوي آثار تعود الى فترة الحملات الصليبية. وخربة أم الطوس وفيها مدافن وصهاريج ماء. وخربة السليمانيات وفيها بقايا جدران منازل قديمة. وخربة حنانة، وفيها مغائر سكنها الإنسان منذ عصور قديمة. وخربة دريهمة وفيها بقايا أعمدة ومدافن. وتل عبدون وخربة حيدرة. 

جزر الطنطورة

على بعد 35 مترًا عن شاطئ البحر تنتشر لها أربع جزر صغيرة تبلغ مساحة كل منها مئة وخمسون مترًا مربعًا وصخرة مسطحة كأنها بساط جميل. وتحمل كل جزيرة اسمًا، وهي: جزيرة الفلتية، جزيرة الشدادة، جزيرة دار الأعمر، وجزيرة الحمام. وفي الاخيرة مساحات يُعشش فيها الحمام لوفرة النباتات العالية أكثر من غيرها من الجزر. والى شمال جزيرة الفلتية شبه جزيرة المقر يفصل بينهما ممر بحري صغير تتدفق منه مياه حلوة، كما أنه في الطرف الشمالي لشبه الجزيرة هذه يوجد حوض مائي كبير طبيعي للسباحة. واستخدمت الجزر لرسو القوارب بينها.
 


السكان في أرقام

وتفيدنا المصادر التاريخية، وخصوصًا نصوص الرحالة الاجانب أنّ عدد منازل القرية في مطلع القرن الـ 19 لم يتجاوز الـ 50. في حين أنّ الاحصاء السكاني الأول الذي اجرته حكومة الانتداب البريطاني في العام 1922 يشير إلى وجود 750 نسمة في القرية، ليرتفع هذا العدد في الاحصاء الثاني في العام 1931  إلى 953 نسمة. وبلغ في إحصاء العام 1945 قرابة 1500 نسمة، ليرتفع العدد الى 1728 عشية وقوع النكبة الفلسطينية في العام 1948.

وأشار الرحالة الأمريكي لينش الذي زار فلسطين في منتصف القرن الـ 19 إلى أنّ الطنطورة قرية فيها الكثير من السكان ومتطورة ومزدهرة. وفيها ميناء نشيط يُستعمل للصيد ولنقل منتجات القرية وبعض القرى المجاورة لها. ومن عائلات الطنطورة: العموري، أبو عمرو، المصري، اليحيى، اليتيم، الهندي، الدسوقي، أبو ماضي، العشماوي، السمرة، البجيرمي، البيرومي... 

مصادر معيشة السكان

واعتمد سكان القرية في معيشتهم الحياتية على مصادر رزق أساسية وهي صيد الاسماك لقرب القرية بل ملاصقتها للبحر، والنقل التجاري البحري، والزراعة ورعاية المواشي. ومن أبرز المحاصيل التي زرعوها: الحبوب على أنواعها كالقمح والشعير والفول والحمص والعدس والسمسم. وكذلك الأشجار الثمرية كالتين والرمان والتفاح والليمون. واشتهرت الطنطورة بموسم البطيخ الذي كان يباع أغلبه في المدن القريبة كحيفا ويافا وأوصلوا كميات منه إلى غزة وضواحيها، وحتى الى لبنان ومصر. 

ولما تطورت مدينة حيفا وأقيمت فيها منشآت صناعية والميناء الحديث وخطوط السكك الحديدية توجهت أنظار عشرات الشباب من اهالي القرية والقرى المجاورة لها الى هناك للعمل في إحدى هذه المنشآت. وبالتالي انتقلت عائلات طنطورية كثيرة للعيش في حيفا لتشكل نواة لمجتمع فلسطيني متجدد في مدينة عصرية وحداثوية وفرت لهم كل سبل الحياة بكافة تفاصيلها.

التعليم في القرية وخارجها

كانت المعارف العثمانية قد أسست مدرسة ابتدائية للبنين في القرية تابعت تقديم خدماتها التعليمية لطلاب القرية في فترة الانتداب البريطاني حيث ارتقت المدرسة لتصل الى الصف السابع الابتدائي. كما تم إنشاء مدرسة ابتدائية للبنات في العام الدراسي 1937-1938 وبلغ أعلى صفوفها قبل وقوع النكبة الصف الرابع الابتدائي. أمّا الطلاب الذين كانوا ينهون الابتدائية فكانوا غالبًا ما ينتقلون إلى متابعة تعليمهم الثانوي في إحدى مدارس حيفا القريبة سواء الحكومية أو الاهلية (الخاصة)، ومنهم من فضّل التعلُّـم في عكا في المدرسة الاحمدية المجاورة لجامع الجزار.

شخصيات من الطنطورة

برز عدد من أهالي الطنطورة في الحياة العامة سواء في فلسطين أو في العالم العربي، خصوصًا في الأردن وسوريا. ومن أبرز هؤلاء:  محمود السمرة متخصص بالأدب العربي، أشغل مناصب أكاديمية في الجامعة الاردنية وسواها من جامعات العالم العربي، وكذلك وزيرًا للثقافة. محمد توفيق اليحيى ويحيى محمود اليحيى في القانون. وخليل الهندي متخصص في الهندسة الاليكترونية ومحاضر في عدد من الجامعات العربية والاوروبية والامريكية، واستشاري لعدد من الشركات. 

محاولات الصهيونية الفاشلة لإقامة مستعمرة على أراضيها

ضمن مشروع آل روتشيلد في السيطرة على مرافق الاقتصاد في فلسطين قام أحدهم ببناء مصنع لإنتاج الزجاج على قطعة أرض من أراضي الطنطورة. لكن هذا المشروع لم يكن مجديًا ومربحًا، فقرّر اغلاقه. ولم تتوقف مشاريع الصهيونية عند هذا القرار، إذ بادر أحد زعماء الحركة الاستيطانية الى طرح مشروع إقامة ميناء لصيادي الأسماك على جزء من ساحل الطنطورة بعد التوصل إلى اتفاق مع أحد الملاكين هناك. أمّا الصيادون فهم من أصول قفقازية. وكان الهدف المركزي والرئيسي لطرح مشروع كهذا هو إبراز أهمية العلاقة بين المستعمر الصهيوني وبين فلسطين باعتبارها وفقًا لمعاييره ارض الآباء والأجداد. إلى جانب التأسيس لفكرة "العمل العبري" مقابل العمل العربي للسكان الاصلانيين. إلاّ أنّ هذا المشروع لم يصمد مقابل اهالي القرية الصيادين.     

احتلال القرية وتنفيذ مجزرة فيها

وضعت قيادة منظمة الهاغاناه العسكرية خطة لاحتلال القرية وطرد سكانها منها. وكانت القرية حسب مزاعم القيادة العسكرية الصهيونية تتلقى اسلحة مهربة من لبنان بالسفن والقوارب ويتم نقلها لاحقًا إلى المقاومين الفلسطينيين في قرى المثلث الصغير: عين غزال، اجزم وجبع. وان الطنطورة واقعة على الطريق الرابط بين حيفا وتل أبيب. وتمّ تطويق القرية وطرد سكانها في 23 أيار 1948 بعد أن نفذ لواء الكسندروني من الجيش الاسرائيلي مجزرة رهيبة راح ضحيتها عدد من أهالي القرية الذين تمّ دفنهم في مقبرة جماعية قريبًا من مسبح المستوطنة التي أقيمت لاحقًا على أراضي القرية. وبالرغم من اللغط الإعلامي والسياسي والقضائي الذي أحدثته المؤسسة في إسرائيل لإنكار المجزرة وجر الباحث تيودور كاتس الذي كشف النقاب عنها من خلال وثائق الأرشيفات الإسرائيلية الى اروقة المحاكم، إلاّ أنّ تلميحات عديدة تؤكد وقوع مجزرة وقتل عدد من رجال القرية.

معالم القرية

قام  الاحتلال الاسرائيلي بهدم بيوت القرية إلاّ بعضًا منها استعمله لخدمة المستوطنين الذين حلوا مكان أهالي القرية الأصليين. ومن أبرز المعالم الدينية التي كانت في القرية مسجدان، ومقام وثلاثة مقابر. المسجد الاول مقام على أرض أوقفها يوسف فرنسيس الجدع من أثرياء ووجهاء مسيحيي حيفا الذي كانت له بعض الاملاك في الطنطورة. ولم يبق منه شيئًا. أمّا الثاني فبقي منه جدران. في حين أنّ مقام القرية على اسم الشيخ عبد الرحمن المجيرمي وتم ترميمه في بداية الالفية الثالثة ويحوي ثلاثة قبور مع شواهدها. أمّا المقابر الثلاثة فقد طمستها السلطات الإسرائيلية ولم يبق منها إلاّ حجارة متناثرة وعدد من القبور. وهناك عند حافة شاطئ الطنطورة بيت آل اليحيى استخدمه آل اليحيى للسكن ولتخزين مؤونتهم. ومبنى المدرسة الابتدائية الكائن إلى الشرق من القرية ويستخدم لمؤسسة إسرائيلية تُعنى بدراسة عالم الاسماك.     

وهكذا، بالرغم من تشتت أهالي القرية بين الوطن و اللجوء والمنافي، إلاّ أنّ تاريخ وتراث القرية ومعالمها الباقية شاهد على وجود أصحاب الحق، وتمسكهم بحقهم هذا مهما طال الزمن.