تيسير البطنيجي... و"ما أمكن انتزاعه من الفراغ الذي يتوغّل"

2021-06-04 01:00:00

تيسير البطنيجي... و
Vue Inflammable Tempête

يعي تيسير البطنيجي خياراته الفنيّة جيداً، وهي ليست ثمرة تفكير أو معرفة فلسفيّة نظريّة مهما كانت على درجة من العمق والكثافة، بل هي بالأساس نتاج حياة شخصيّة، كأنها أعمال أوتوبيوغرافيّة، نرى صورة شهادة ميلاده، وهويته الشخصيّة، وصور عائلته، وصور لطقوس اجتماعيّة في غزة تشكل جزءاً حميماً من عالمه البصريّ.

يُقدّم متحفُ الفنّ المعاصر في باريس Le musée d’art contemporain de Val-de-Marne MAC Val  عرضا استعاديّا (١٩ أيار - ٩ كانون الثاني ٢٠٢٢) للفنان تيسير البطنيجي، وهو حصيلة خمسة وعشرين عاماً من أعمال الفنان الفلسطيني الذي ولد عام 1966 في غزة، ويقيم حاليا في باريس. تأتي أهميّة هذا المعرض من أنّه يعرض في مكان واحد، وزمن واحد، عدداً كبيراً من أعماله الفنيّة، بالإضافة إلى أعمال جديدة تُعرض لأول مرة.

وتعبّر هذه الأعمال الفنيّة عن حريّة كبيرة في التعامل مع المواد والوسائط والأشكال الفنيّة، فهي تشمل التصوير الفوتوغرافيّ، الفيديو، الرسم، الرسم التخطيطيّ/السكتش، العمل التركيبيّ، والفنّ الأدائيّ. وهذا التنوّع في وسائط التعبير لم يكن مصادفة، فيقول تيسير البطنيجي في المقابلة الشيّقة والغنيّة التي أجريت معه بهذه المناسبة أنّ "قدرة التنقّل من وسيط إلى آخر تمنحني هامشاً كبيراً من الحريّة، يسمح لي بتجاوز أيّ عزل أو قيد إضافي". فهذا الخيار الفنّي استجابة، وردّة فعل، وتجاوز لشروط واقع سياسي سمته العزل والتقييد والحصار. فالخيارات الفنيّة لا تأتي بمعزل عن واقع التجربة، بل هي في جانب منها إشباع نفسيّ، ومن جانب آخر ردٌّ على شروط السياق الذي أنتج العمل الفنيّ ذاته. ويضيف أنّ "التنقل من وسيط لآخر يمنحني الانطباع ذاته الذي يتكوّن لديّ عندما أتكلم لغات مختلفة". موضحاً أنّه يأخذ بعين الاعتبار "خصائص كل وسيط، والشيء الأساسي هو الحرص على اختيار الوسيط الأكثر قدرة على تجسيد أو منح الشكل الملائم للأفكار". فالانتقال من التصوير إلى وسائط أخرى هو تعبير بالأساس عن حاجة. فهو يلتجئ للرسم عندما يستدعي صوراً من ذاكرته أو من خياله، كأنّ الرسم ممارسة جوانيّة حميميّة للتعبير عن عالمه الداخلي، بينما الوسائط الفنيّة الأخرى كالتصوير الفوتوغرافيّ، فهي تتفاعل وتبني وشائجها مع واقع خارجي. 

Hannoun


الهاجس الفنيّ المُسيطر لدى تيسير البطنيجي هو غالبا تلك الحاجة الملحّة لترك "أثر" أو "علامة"، في تداخل تام وعميق مع عالم الشاعر الفرنسي Gorges Perec الذي كان مهووساً أيضاً بآليات المحو والعزلة والتلاشي. وقد استلهم منه تيسير البطنيجي هذا البيت الشعري الذي حمل عنوان المعرض "ما أمكن انتزاعه من الفراغ الذي يتوغّل". فبواقي الأشياء وآثارها لا تشكّل بالنسبة لهذا الفنان مصدر إلهام فقط، بل أيضا تكوّن مادته الفنيّة، والشكل الذي يأخذه التعبير الفني كذلك. بحيث يأخذ العمل الفنّي شكل الآثار الهامشيّة، أو الملامح شبه المتوارية، أو الخطوط التي لا تكاد تقبض عليها العين في اللوحة. العمل الفنيّ لديه ليس له حضور البطل على شاشة السينما، أو البروز الطاغي لتمثال منتصب في وسط القاعة، بل تمرّ عليه في المعرض وبالكاد أحياناً تلمح وجوده. هامشيّ حتى التلاشي تارةً، وتارةً أخرى هشّ حتى تكاد تكسره بنظرة عين أو يكاد يذوب في يدك كالصابون، وغالبا ما يكون الغموض جزءاً أساسياً من تكوينه. وهذا بالذات ما يمنح أعماله الفنيّة تلك الطاقة الشعريّة العميقة، إنها شعريّة الاختفاء والمواراة المفعمة بالإحياء، فالوضوح والثبات يقتلان الشعر في المادة وفي اللغة معا.   

To my brother


ومثال على ذلك عمله الفنّي "To my brother"، وهو ألبوم صور معلّق على الحائط، لوجوه تتراوح بين البياض والعتمة، وهو عمل كبير وشاق لكنّه تقريباً غير مرئيّ، في إشارة للشهداء الذين مُسح وجودهم كما طُمست هوياّتهم من قبل. واستلهم تيسير هذا العمل من قصّة أخيه الشهيد ميسرة الذي رسم صورةً في يومه الأخير تشابه مشهد القنّاص الإسرائيليّ الذي أطلق عليه الرصاص، كأنه بهذه الرسمة يتنبأ مشهد موته. ثم مُسحت هذه الرسمة لاحقاً خوفاً من أن تقع في أيدي الجنود الإسرائيليين، واستطاع تيسير التعرف فقط على بعض آثار الخطوط على الورقة. 
 

To my brother

 

ID Project


وتنمّ أعمال تيسير البطنيجي عن امتلاكه لغة بصريّة شديدة التنوّع، وغنيّة بفضل تعدّد الوسائط التي يوّظفها. وهذا في محاكاة ذكيّة، شديدة الدقّة، مع الاتجاهات الفنيّة الغربيّة الحديثة، رغم ارتكازه في الأساس على مواضيع مستوحاة من سياق حياته الشخصيّة ومن واقع غزة، من عزلة وانغلاق واختفاء، ليدمجها بمواضيع حاضرة في اتجاهات الفنّ الحديث، من هامشيّة واغتراب ومحو وغياب. وهذا ما يجعل من مشروعه إنجازاً فنّيّاً من طراز عالمي. وهذا ما يفسّر أيضاً سرّ الاحتفاء بأعماله وتكريس هذا المعرض لإنجازاته على مدار الخمس وعشرين سنة الماضية. فمتحف "ماكفال" يختصّ بالأساس بتقديم معارض استعاديّة لفنانين فرنسيين مُكرّسين. وهذا الاحتفاء يظهر كذلك من خلال الكتاب الضخم الذي أنجزه المتحف وقد حوى قسماً كبيراً من أعمال تيسير البطنيجي الفنيّة، مع شروح ومقدّمات لكل عمل، بالإضافة إلى مقالات وشهادات من منظّمي وقيّمي معارض، وصحفيين وناقدين مُتخصّصين في الفن التشكيلي. وقد ضمّ أيضاً هذا الكتاب الذي جاء في 305 صفحة من القطع الكبير مقابلة معه عبّر من خلالها عن طريقة عمله، وعمليّة الخلق لديه (processus de la création) وتقاطعها مع تجربته الشخصيّة، ومعرفته باللغة الفرنسيّة تؤهله بكفاءة للتعبير بشكل مثير وعميق عن مفاصل تجربته وتوجهاته الفنيّة. 

No Condition
 

مصدر إيحاءاته

اللغة الفنيّة التي طوّرها تيسير البطنيجي متأثّرة كثيراً باتجاهات حداثيّة مثل l’arte povera, Fluxus, L’art minimal حيث يشير إلى أنّه يحبّ القوّة والراديكاليّة التي تعبّر عنها هذه الأشكال، وبروتوكولاتها الفنيّة، والتغيّرات الاجتماعيّة السياسيّة التي ارتبطت بها. وتأثر بشكل خاص بـ Supports/Surfaces التي ظهرت في فرنسا عام 1969. وتبرز في أعماله حساسيّته للشعر والأدب، واطلاعه على كتّاب مثل إدوارد سعيد، وجاك دريدا وجون برجر، وشعراء ليسوا فلسطينيين أو عرب فقط، بل أيضاً غربيين بحكم معيشته في فرنسا ودراسته في جامعة الفن الحديث l’Ecole d’art de Bourges. بحيث يستلهم بعضهم، أو يدخل في حوار مع أعمال بعضهم الآخر، مثل أعمال الفنانيْن Bernard et Hilla Becher . وقدّم فرانك لامي Frank Lamy وهو ناقد فنّي وقيّم معارض فرنسيّ، وصفاً دقيقاً مركّبا لعلاقة أعمال تيسير الفنيّة بمدارس الفنون الحديثة قائلاً:

"هناك حوارٌ أكيدٌ مع أشكال الفنّ الحديث الذي نسميه "غربيّاً"، أحياناً بشكلٍ واعٍ ومقصود، وأحياناً أخرى على شكل اقتباس أو إحالة، وأحيانا يظهر بشكل غير مباشر، أو كانطباعٍ لاحق، كأنه انبعاثٌ من جديد لشيء لم نتعرّف عليه للوهلة الأولى، لم نرَ مألوفيّته، أو أننا نشعر به بأثرٍ رجعي، فجأة، كأنّه يعيدُ ترتيب التدفّق". 
 

St portraits martyrs


وتيسير البطنيجي مشغول فنيّا بمنطقة "الما بين بين"، لذا نجد عتبات في أعماله، حقائب سفر مليئة بالتراب، صور حاضرة لكنها غير مرئيّة. لهذا ليس هناك حضورٌ أو وجود كامل، بملامح قاطعة وألوان واضحة، ولا يقدّم مثال العمل الفنيّ "البطل"، ولا يسعى لرسم العمل "النموذج"، بل يكاد يكتفي بالحد الأدنى من الرؤية، لذا فإنّ فرانك لامي يقول: "تيسير لا يقدّم درساً، ولا يقول ما علينا عمله أو التفكير به، لكنّه يقدّم عملاً يجعل الشيء مرئيّاً، يجعله هو مرئيّاً، عمل فنّي  بضمير المتكلم المفرد "الأنا" الذي يزوّدنا بالمواصفات الماديّة والرمزيّة لوجوده الحيّ، ويؤّكده كثيمة لها كينونتها الخاصة. وهذه الحركة هي ردّ أكيد على عمليّة الإخفاء التي تتعرّض لها هويته، وشعب كامل، وتاريخه الطويل". 

Tempête


وعي للخيارات الفنيّة 

يعي تيسير البطنيجي خياراته الفنيّة جيداً، وهي ليست ثمرة تفكير أو معرفة فلسفيّة نظريّة مهما كانت على درجة من العمق والكثافة، بل هي بالأساس نتاج حياة شخصيّة، كأنها أعمال أوتوبيوغرافيّة، نرى صورة شهادة ميلاده، وهويته الشخصيّة، وصور عائلته، وصور لطقوس اجتماعيّة في غزة تشكل جزءاً حميماً من عالمه البصريّ. ويعتمد تيسير نظام مجموعة الأعمال الفنيّة المفردة la série التي تشكّل عملاً فنيّاً واحداً، والتي توحي أحياناً بنزوع أتوبيوغرافي لدى الفنان. 

Vue


وهو يجازف أيضا بالقول دون مواربة: "أنّ غاية كلّ عمل فنيّ من أعمالي تكاد تلامس العبث: الماء الذي تمتصه الأرض، نشارة أقلام الرصاص التي تُكنس، الصابون الذي يحمل في ذاته إمكانيّة فنائه...". معتمداً على حسّ راديكاليّ، ومقتصداً في توظيف أشكال فنيّة سمتها التقليليّة. فحين نكون أمام عمل "هامشيّ"، وملامح بخطوط بالكاد تكون مرئيّة، لا مجال هنا لبذخ الألوان ولا معنى لكثافة المادة. وهذه الهشاشة هي التي تمنح العمل قوّته، وتوهّجهه، حيث تقول ألكسيا فابر Alexia Fabre مديرة متحف الفن المعاصر "ماكفال": "تيسير البطنيجي، عمله الفنّي ينمّ عن دقّة رؤية، وتواضع، وقوّة لا تشوبها شائبة. وما يثيره من شكوك، وجماله البالغ، يثير حالة من السحر، ليبدو كمحاولة ناجعة للسكن في العالم وفي الوقت". وهو يعي ذلك جيداً، ويضيف إليه: "أعمالي الفنيّة لها غالبا طابع أدائيّ، بمعنى أنّ عمليّة الخلق الفني تستدعي مني مشاركة جسديّة تدفعه للمقاومة". والزائر لهذا المعرض، والمتصفح للأعمال المعروضة على الحائط أو الملقاة على الأرض، في عفويّة مقصودة، يكتشف أنّ هناك خلف هذه الأعمال روح نبيلة تفصح عن عذاباتها الكبيرة بالهمس. 

Vue
 
Vue
 
Traces Tempête
 
Chez moi ailleurs