صمود مغاير

2021-04-06 13:00:00

صمود مغاير
Edward Hopper, Sun on Prospect Street, Gloucester, Massachusetts, 1934

هديل أبو حسين

باحثة من فلسطين

سلمى قررت تحضير سفرة عربية فلسطينية مفتخرة لكي تبدد شعور كريم بالغربة فهو حينها لم ينتقل إلى هذه المدينة النائية منذ زمن طويل بل ما زال يصارع مشاعر الغربة والحنين وهو وقت نحتاجه كلنا للتعود على الواقع الجديد وإدراكه.

 الساعة الخامسة والنصف صباحا في بلاد الشمال البعيدة، تتأكد سلمى من جواز سفرها، محفظة السفر، حقيبة ظهرها الثقيلة التي تحوي حاسوبها المتنقل، كتبها ومجوهراتها الغير ثمينة عينيّا بل معنويّا فقيمتها باستحضار الذكريات، فهذا الخاتم اقتنته وهي تنتظر باص العودة من المدرسة، وتلك السلسلة خارطة فلسطين وشجرة الزيتون اشترتها من متجر فضة في الناصرة، كي تتقلده حين يداهمها الحنين.

تسترق النظر من نافذتها لفحص محطة سيارات الأجرة، لتفحص وجود سيارة أجرة في المحطة أو لزوم استدعائها هاتفيا. تلّف وشاحها الأحمر وتلبس معطفها الكحليّ. تترك رسالة أنيقة على طاولتها المستديرة، وتفتح باب شقتها الصغيرة تغادر هي حقائبها وذكرياتها. تخرج فتلفحها ريح الشمال القادمة من المحيط بكل قوتها، تدهشها سكينة المدن النائمة، تسترق نظرة إلى يسارها للشارع المؤدي لجامعتها، وتستحضر رحلة الدراجة اليومية إلى الجامعة ومكتباتها. يمينها يرقد المحيط بسلام. تتنفس مرة أخرى كي تملأ رئتيها وروحها بانتعاش أول الصبح وتمضي لسيارة الأجرة. الناس طيبون جدا هنا تقول سلمى في سرها بعد أن بادلها السائق بابتسامة وتحية حارة، تأكد ان الوجهة هي محطة باص المطار. سأل من أين أنت؟ فلسطين، الأرض المقدسة. لا عبء بالشرح هنا كباقي أصقاع الأرض فمن استعمر مرة من ظالم يتواءم مع معاناة الشعوب المشابه. قال: كم أنت محظوظة ولدت في أقدس بقعة في المعمورة. قالت: لكن تلك البلاد المقدسة تعبت من الدم والخسائر الفادحة. قال: لا تقلقي كله زائل، ها قد طردنا المستعمر وفزنا بحريّتنا رغم صعوبة الدرب، التاريخ يحتاج إلى إصرار تروي وأمل كي لا تضيع البوصلة. وما همت سلمى بالمغادرة إلى المحطة وإذ به ينزل أيقونة السيدة مريم العذراء المربوطة على مرآة سيارته، فقال: لتحرسك أينما ذهبت أيا كانت معتقداتك، ولك التوفيق في كل خطواتك، شكرته بحرارة فقد غمرها بكرم أخلاقه. بعد مغادرة المدينة تبدأ الطريق اللانهائية، الطريق حالكة السواد وفارغة سوى من مصابيح الشارع السريع، أصوات الريح العاتية والمطر من كل حد وصوب. التعب يهزم الازعاج وتغفو سلمى في الباص.

تكتب رسالة نصية قصيرة قبل صعودها إلى الطائرة بعد إتمام إجراءات المطار، تكتب لكريم رسالة نصية: 

"صباح الورد، 

لا تنسى زيارة البيت وفحص البريد الوارد الذي يخصك -إذ كان يستعمل منزلها كعنوان، فسكنه مؤقت- جزيل الشكر على الوقت الذي أمضيناه سويّة.

دمت بخير."

بعد شهر وأكثر قليلا تذكر كريم زيارة شقتها، دخل إلى الشقة بعد فتح صندوق البريد وتفحص الرسائل، كلها إشعارات عادية من البنك، الهاتف أو دعاية مطعم جديد يقدم خدمة الإيصال إلى المنازل. كريم حاول تأجيل الزيارة مرارا فهو يعلم جيدا كم جرح رفيقته سلمى قبل رحيلها. فسلمى فتحت منزلها له في بلاد الغربة، جلبت دفء الشرق في حضنها، ورائحة مناقيش الزعتر لا تزال عالقة في مخيلته.

دخل كريم العمارة، بحث عن دراجتها، لم يجدها فقد تبرعت بمقتنياتها قبل المغادرة علما منها أنها للأسف لن تعود، لكن لم يكن كريم يعرف أو يدرك أنها ستسافر ولن تعود، إذ كان سفرها المبكر هروبا من الخيبة، استغرب لكنه لم يمعن التفكير في الأمر. قال: لعل أحد أصدقائها استعار الدراجة لحين عودتها. ما إن بدأ بصعود الدرج اذ بالقشعريرة تهز كيانه، فهو يعلم جيدا كيف خانها وأنسحب. الخيانة ليست ذات وجهه واحد، لكن الجبن هو أكبر الخيانات. إدراك أنك جبان لا تستطيع أن تقف وتواجه العالم بالحب هو بداية الخيانة وسقوط الحب البهيّ. علّه يتساءل كيف أعدم الحب الذي ازدهر في أروقة هذه العمارة. أو خلافا، لا يشعر بأي شيء فقط أتى لإتمام مهمة فحص البريد الرتيبة. 

التقيا صدفة منذ سنتين ونصف في حفل أصدقاء مشتركين، كريم يجلس في الزاوية يتابعها وإذا به يستفسر من تكون سلمى فهي تدرس في كلية أخرى وهم تعرفا بداية من خلال هذه الأمسية، تعاقبت اللقاءات وتوطدت الصداقة. في مرة سمعت سلمى كريم يقول لإيڤون أتعرفين كم هي صعبة الغربة؟ فأجابت: أنا محظوظة فأنا كلما اشتقت للبيت زرت والدتي فهي تسكن على مرمى حجر. تابع كريم: وجبة طعام عربية شهية يكون الأرز ذو البخار المتصاعد يا إيڤون في هذه البلاد الباردة هو أشبه بالحلم، فأنا ضعيف بطهي الأرز وأرزي طعمه كالبلاستيك، ضحكوا جميعا.

وبعد انتهاء العشاء في المطعم، وتوديع المجموعة، مشيا سويّة فطرقهم تتقاطع، سألته ماذا تحمل نهاية الأسبوع من خطط؟ فقال ليس بالكثير، لا عمل متأخر، سأحتفي بيوم الإجازة، قالت له أحتاج إلى مساعدتك إذاً. هل تستطيع زيارتي في ساعات المساء الأولى؟ فأجاب كريم بالإيجاب، قلبه رقص فرحا عيناه السوداويتين برقتا ابتهاجا وعند افتراق الطرق كل إلى بيته غنى في سّره، وأخيرا سألتقي بسلمى على أنفراد وأبوح بما يجول في خوالجي.

سلمى استيقظت باكرا، توجهت إلى سوق الفلاحين كي تقتني بعض الخضار الطازجة ومستلزمات العشاء الذي قد خططت أن تعده لتدفئ معدة كريم، فقد تأثرت كثيرا بشوقه لأرز شهيّ منزليّ النكهة. غريب كم تجلب الروائح والمذاقات أوطاننا إلى منازلنا الصغيرة في الغربة، من مثلها يعرف ففي بداية غربتها كان جل إبداعها وجبة إيطالية سريعة تشتريها نصف جاهزة وتقوم بتجهيزها وأكلها على عجل للعودة لإتمام دراستها. لكن رويدا رويدا أدركت سلمى أنها تستطيع استحضار الوطن بطبخ الأطباق الفلسطينية اللذيذة لمن تحب، جعل اللقاءات عفوية ولذيذة في آن. ففي تجارب مشابهة تكون محظوظ باختبار مذاهب وثقافات مغايّرة من خلال الأطباق المتباينة التي تجربها في مدينة جامعية تحتضن كل الأطياف. فتارة تزور الصين من خلال طبق البط، ويوما يستوقفك الخبز الأثيوبي ناهيك عن البيض في الأطباق الكورية ولا تستطيع أن لا تحترم ثقافات پولي، دالي أو مارتين حتى لو كان الطعم بائساً والتجربة صعبة أحياناً، فتتمنى سلمى أن يحمل الأسبوع دعوة من صديقها چيوفياني لكي تسترجع الطعم الشهي بطبق الإيطالي أو على الأقل يكون قابلاً للأكل.

سلمى قررت تحضير سفرة عربية فلسطينية مفتخرة لكي تبدد شعور كريم بالغربة فهو حينها لم ينتقل إلى هذه المدينة النائية منذ زمن طويل بل ما زال يصارع مشاعر الغربة والحنين وهو وقت نحتاجه كلنا للتعود على الواقع الجديد وإدراكه.

حملت سلمى كل الأكياس واحتياجاتها من الأغراض، أما البهارات فلا غنى عن بهارات الشرق فهي من تجلب روائح الذاكرة والنكهات الأصيلة التي حملتها معها من أسواق القدس القديمة. قدم كريم على الموعد، فتحت سلمى باب العمارة، يصعد كريم متسائلا عن مصدر الرائحة الزكية في أروقة المكان، "مين عّم يطبخ أكل عربي" فهو لا يعرف مهارات سلمى في الطبخ فنقاشاتهما تمحورت في لقاءاتهما السابقة حول السياسة، الثورة، الهزيمة، النصر، الموسيقى، والدور الحيويّ للشباب لخرق حاجز الظلم.

يقترب من الطابق الأخير كثافة الرائحة تخترق حواسه، دخل فالباب كان مفتوحا، بعد سماعه صوت سلمى تدعوه إلى الدخول، قالت له تفضل وإذ به يواجه الطاولة عامرة بأشهى الأطباق الفلسطينية الأصيلة، والأهم طبق الأرز العملاق مع الشعيرية مزيّن بالصنوبر واللوز يتصاعد البخار منه بكثافة. أكل كما لم يأكل منذ أن حطت قدمه هذه البلاد البعيدة، أكلوا بشهيّة والأحاديث تنساب بسلاسة، سهروا حتى خيوط الصباح الأولى مغمورين بعبق الميرميّة، تحدثا عن كل شيء ولا شيء، كانت جلسة دافئة بلا تخطيط مسبق، حتى جاهر كريم بشعوره بالإعجاب والقرب الروحي وباغت سلمى بالاستفسار عن الحزن، رغم كل الفرح الذي تحمله فقد فشلت في إخفاء وجع دفين في عينيها. ضحكت سلمى بسخريّة، وأردفت، هي الحياة يا صديقي توجعنا، رحيل الأحبة يقتطع جزءاً من القلب بلا استئذان، مباغتته ليقظتنا ليسرق الطفوليّ من طيات أيامنا. تأسف على السؤال وتجرأ واقترب وحضنها حضن عملاق، حين باغتتها الدمعة ولم تتمكن من الاستطراد بالقصص والحكايات، وقالت ألم الفقدان لا يسقط بالتقادم والشوق يزيد ولا يقلّ، همس في   أذنها لن تكوني وحيدة بعد اليوم، أنا هنا، بجانبك سنشبك أيدينا سويّة ونتابع المسير.

سلمى صدقته، كريم بدا صادقا، قالت لإيڤون لا أفهم كيف تحول هذا الكائن المعجون بالحب والحساسية المفرطة لشخص بارد عملي لا يملك حتى شجاعة المواجهة. ذهب وزار والدته فريال في بلاد الشرق، التي تبين لاحقا أنها مهندسة حياته، تحمل له بجنى كي يخطبها ويجلبها لبلاد الفرنجة. لم يواجهها، حتى كما أخبرها سامر صديقهما المشترك، لم ينطق ببنت شفة عن حبه العارم خلف المحيطات، قالت له أن ارتباطه بفتاة لا تحمل جنسية بلده أمر يمنعه من امتلاك منزل في بلاده مثلا. بلاده التي قال لسلمى أنها قد أحبطت أحلامه فجأة أصبحت هي المكيال! والدته فريال التي لم تسكن يوما في تلك البلاد تستعملها كطعم كي ترسم مستقبل أبنها كريم كما خططت هي!

عاد وقد تجمد الشوق في عروقه، لم يتصل لم يواجه أو حتى ببساطة لم يحاول الانتفاض.

سلمى، سئمت من جبنه، هي لا تحب الظلم أو الانتظار، الحب مشروع والقلب يتسع للحكايات والألم، ولكن الجبن والخيانة حرقوا ذكريات المواعيد الأولى في المطاعم الجميلة على قارعة الطريق، والنقاشات المحتدمة التي تنتهي بضحك وفرح ينير الأمكنة.

دخل كريم، وجد ظرفاً محكم الإغلاق واسمه بخط يد سلمى الأنيق،

"لكريم مع خالص الحب"

أرتعش جسده فهو من تجنب المواجهة منذ عودته من زيارة البلاد وارتباطه بجنى.

كتبت سلمى: 

"لكريم الشاب الذي وعدني أن لا يفرط بالصداقة قبل الحب، بل وأكثر وعد بالحب الأبديّ الذي لا يشوبه شائبة. كنت أجبن من أن تصارحني بحقيقتك، شخصيتك مهزوزة في وطنك ليست كتلك التي أبهرتني بها، اتزانك وفهمك للقضايا الوطنية ما هو إلا هراء حين تفشل بالدفاع عن حقك في حب من تشاء مهما كانت أوراقه/ا الثبوتية.

كريم، لا بأس في ظن أننا نحب الحب الأبدي ونكتشف أنه وقتيّ زائل، لا بأس في ذبح قربان الصداقة في مذبح أولويات المجتمع المتخلف، الجبن كالخيانة لا يغتفر. الانسحاب والحياد والتقاعس عن تفسير الواقع الشائك الذي يعيشه من تحب وإدراك وطنيتهم والدفاع عنهم لا ينّم إلا عن جهل في التاريخ، كله سيجبرك على التنازل أو تبني اختيارات مغلوطة في معتركات الحياة. 

ظننتك أشجع، واه أسفاه.

سلمى"

***

حطت طائرة سلمى مرة جديدة، وما زالت الدمعة تداهمها في كل مرة تفتح جواز سفرها للفحص تستذكر حكم الأحبة الجائر عليها من خلال أوراقها الثبوتية وجواز سفر دولة الاحتلال. تردد وهي تكفكف دموعها حق العودة هو أسمى من كل الخسارات يستحق كل التضحيات.