أنثروا رمادي هُناك

2021-03-10 12:00:00

أنثروا رمادي هُناك
The Death of Ophelia, Odilon Redon, 1905

حين يأتي دَوري لأبقى وحيدًا بعد كلِّ  هذه المُجاملات، لا أريدُ سوى اثنين أو ثلاثة فقط ممن يعرفونني جيدًا ليأخذوني إلى أقرب مكانٍ أحبُ أن أسمع فيه "يا روح لا تحزني..." وحين تقتربُ الشمعة الأخيرة من آخرها، أعطوها طرفًا منّي، لأصير رمادًا. 

يُترك الميت وحيدًا.

الجنازة يحضرها من يتعاطف مع الأحياء، فأصدقاء الميت يأتون على قدمٍ واحدة خوفًا من العَدوى.

وللميت الوحيد جنازةٌ خاصّة، قليلة، بسيطة وسريعة، فهو الذي قرر أن لا يتركَ أحدًا منه على هذا التُراب، ولأجلِ هذا، لم تتعدَ "رحمة الله عليه" حاجزَ المائة تكرار لُغويّ، وحين دبَّ السكون في المقبرة، تآخى القبرُ بالقبر بحثًا عن حديث يطردُ ملل الساعات، ويقتلُ الغُربة. 

حارسُ المقبرة العجوز يعرفهم جميعًا، يُخزّنُ أسرارهم ليومٍ يخافه وينتظرونه، يُحاول أن يُصاحبهم آملًا أن يكونوا أقلَّ قسوةً عليه من الأحياء، وُهم، في اللحظة التي عرفوا فيها أنّهم مقيمونَ هُنا، شعروا برغبةٍ غريبة بأن عليهم أن يسترضوا هذا الحارس، لُيكمل دفنَ أسرارهم.

تصطفُّ القبور وفق تعليمات سلطات البلدية، ارتفاع الشاهد متساوٍ للجميع، وبقية القياسات مُتفقٌّ عليها بغضِّ النظر عن حقيقةِ الميت، فأمامَ الدولة، يصيرُ الموتٌ يساوي رُسومَ القبر وبقشيشَ عُمّالها.

هذا الاسم الذي نُودينا به وأحببناه سيُكتب على قُصاصة ورقٍ من فاتورة ممحوّة سحبها أحد المُشيعينَ من جيبتهِ، ونادى عمّن يحملُ قَلماً. 

من

سيتذكر

احضار 

قلمٍ

وهو في طريقه إلى مقبرة؟

*

سَنتركُ فُرادى لُنعيد تجاربنا من جَديد.

نُخضعُ معارفنا لمصافٍ كثيرة قبل أن يستقرَ في القلبُ لفظُ الصاحب والصديق، سنتجاوزُ قبور المساحة المُعنونةِ بــ 320 - ب وما يليها، باحثينَ عن مَيتٍّ يُشبهنا، وفي تلك اللحظة التي تهدأ رفرفاتُ الروحُ فينا، تزرونا ذاكرةُ الحياة فجأة قائلةً؛ ها هي الأرواح قد تهادت، وهذا وقتي لأستريح.

**

سيتحسسُ الحراسِ رواتبهم حينَ يصلهم ردُّ البلدية على تقريرٍ رفعوه حين شعروا أنَّ الموتى توحدوا،

 ولو في مقابرَ مُتباعدة. 

***

باردة هي الأرض التي سَتمتصُّ ما علينا من شحمٍ، ولن تقتنع أيّ دودة بالزهورِ التي زُرعت فوقنا، والنخيل الذي قرروا أن يضعوه في المساحة الترابية فوق الإسمنت لن يظللنا.

ماذا لو عقدنا هُدنة هبلة مع الدود  كتلك التي أضاعت مِنّا أرضُنا، نُعطيهم المساحة ويتركونا لنعيش؟ 

لو أننا استعطنا تنحية العنصرَ البشري في تعامُلنا مع الطبيعة لَصَلُحت الأرضُ لأجيالٍ كثيرة بعدنا. 

*****

ما حاولنا تلافيه قبل هذا صارَ حقيقة، وكلُّ الأصواتِ التي كانت تسحبنا من واقعٍ نعيشه ولا نرغبه اختفت، والأحاديثُ الصغيرة صارت تَرفًا لا نملكُ ثمنَ اقتنائه. 

إن الميزة الوحيدة التي سترافقنا حينَ نموت أننا سنلتقي بمن سَبقنا، والأخرى التي لم يُحدثنا عنها أحد؛ هي أننا سنعيش قشعرات انتظارٍ جديدة، مترقبين القادم التالي، لعلّهُّ يَخُصّنا.

يُميتنا الموت حين يسرقُ من نُحب، لا حين يصطادُنا، ولعلّنا كثيرًا ما استدعيناه ليأخذنا لا استسلامًا له أو ضَعفًا، بل لنحجزَ مساحةً قريبة من الذينَ عبروا هذا الباب قَبلنا. 

يقتلنا الموت حين يغفل عنّا، يذبحنا حينَ يمسُّ غَيرنا، يغتالنا حين يدخل بيتنا..

 ولا يأخذنا. 

***** 

للمعزّين دورٌ ثانوي في الحكاية، يقبضون ثمنها دعوةٌ أو رَكعتين، وكراتينُ الماء تطوف حول الجميع تبحثُ عمّن جفَّ حلقه ولا أحد، 

لا

أحد يسأل الذي جاءَ الجميع لأجله إن كان يرغب في بَلِّ ريقه للمرّة الأخيرة، فتركوه وحيدًا.. وعطشاننًا.

***** 

سأختصرُ هذه الحكاية؛

حين يأتي دَوري لأبقى وحيدًا بعد كلِّ  هذه المُجاملات، لا أريدُ سوى اثنين أو ثلاثة فقط ممن يعرفونني جيدًا ليأخذوني إلى أقرب مكانٍ أحبُ أن أسمع فيه "يا روح لا تحزني..." وحين تقتربُ الشمعة الأخيرة من آخرها، أعطوها طرفًا منّي، لأصير رمادًا. 

لا تدعوا أمّي تقرأ ما كتبت هُنا، لأنها، لفرطِ حبّها ستشنقني خوفًا على إيمانها البسيط، ولأنها لا تعلم – ربّما – أننا سنلتقي، وأنهُ على قدر اتساع الكون، سنرجعُ يومًا للحضن الأول، لها.

أنثروا رمادي على درجاتِ السلم الموسيقي الذي سيبقى، ولا تضعوني في حفرة بائسة، فليسَ ليَ جَلَدٌ على بناءِ صداقاتٍ جديدة. 

****** 

سأكتفي بما حققت، ولرمادي مستقبلٌ آخر لا أعلمه، ولا أريد.  

لربما، سأصيرُ سيجارةً تُطفئُ على شاطئٍ متوسطي، أو جزءاً من برميل نفط بعد ألف عام… لا فرق. 

فالمهم أن لا تدعوني وحيدًا هُناك،

تهتمُّ بوجودي فقط، رسوم البلدية!