إنعاش القصّة

2021-02-02 14:00:00

إنعاش القصّة
Amish Letter Writer, Horace Pippin

قد لا يكون الكتاب هو الشكل الأنسب لنشر القصص القصيرة وربما آن الأوان للمجلّات الثقافية التي عادت وانتعشت الآن في العصر الرقمي بأن تحمل لواء هذا الجنس الأدبي وأن تلعب الدور الذي لم يعد يستطيع لعبه ناشر الكتب التقليدي. فتكون هناك عقودٌ أو اتفاقيات مع قصصيين وربما لجان قراءة لقبول ما يتم نشره من قصص وما لا يتم نشره،

يسأل بعض الذين يودّون دخول غمار الرواية: "هل يصحُّ أن نبدأ بالرواية دون أن تكون لنا خبرة بالقصّة القصيرة؟" هذا السؤال انطلق من الاعتقاد أنَّ الرواية هي امتداد لقصّة قصيرة أو أنّها مجموعة قصص قصيرة متداخلة، ولا فرق بينهما في المعنى المعاصر إلا عدد الكلمات، بل ويذهب التصنيف الغربي إلى إضافة الـNovella  بينهما، بصفتها رواية قصيرة أو قصّة طويلة.

الفرق بين الجنسين الأدبييّن يتعدّى هذا المستوى، ففي الرواية هناك مهارات التبطيء والوصف والتداخل، غير الموجودة في القصّة التي تستلزم الإسراع والتكثيف وخلق الصورة التي يريدها الكاتب للقارئ بأقلّ الكلمات. وبناءً على هذا من الممكن أن يكون هناك روائي جيّد لا يجيد القص أو قاصٌّ ممتاز لا يجيد كتابة الرواية. وصحيح أنَّ هناك أمثلة عن أدباء أتقنوا الجنسين لكنّهم ليسوا القاعدة بالضرورة، والكتابة حرفة يمكن لها أن تتطوّر إذا أراد المحترف أن يصب فيها الجهد اللازم لذلك.

إنَّ هذا الفهم الخاطئ في تقديم أحد الجنسين على الآخر خلق حالة ظالمة لدى القصّة القصيرة، التي تعيش في ظلّ الرواية، وأدّى إلى صعوبة في قبول دور النشر للمجموعات القصصية. وهذه ليست حالة عربيّة بالضرورة بل تكاد تكون عالميّة، فمثلًا ينقل روجيه غرينييه في مقالته "نصف ساعة عند طبيب الأسنان" في كتاب "قصر الكتب" التعليق التالي عن أحد الناشرين الفرنسيين عندما أجاب قصصيًا قدّم له مجموعة بقوله: "إنّها ليست خالية من الموهبة. ولكن ألا تريد أن تبدأ بإعطائنا رواية؟"

ربما لناشر الكتب أحيانًا الحق بطرح سؤال كهذا، ويأتي حقّه من كونه تاجراً يريد أن يرضي السوق، والسوق يريد الكتب التي يمكن تسويقها وبيعها، ومن ممارسات القرّاء بالعادة شراء المجموعات القصصية لقصصين المعروفين لأنّها الأسماء التي تجذب. فمن ينزل إلى السوق لشراء مجموعة قصصية لكافكا أو بورخيس أو كالفينو فهو لا يريد قراءة قصّة بعينها بقدر كونه يريد قراءة كافكا وبورخيس وكالفينو. أمّا القرّاء الذين يقومون باقتناء وقراءة مجموعات قصصية لغير المشاهير هم في الغالب مهتمون بالجنس الأدبي نفسه وليس الكتاب بحدّ ذاته أو مضمون جميع القصص التي فيه. في المقابل فإنَّ الرواية يمكن للمكتبات تسويق موضوعها دون الحاجة لكون الكاتب اسماً معروفاً لدى القارئ. فمثلاً القارئ العربي الذي يبحث عن الكتب المعنية بالأندلس سيجد الكثير من الروايات التي تدور أحداثها فيها ولن يكون عدم شهرة الكاتب أو عدم معرفة القارئ به بالأمر الذي سيعيق فعل الشراء أو القراءة.

الجوائز، على صعيدٍ آخر، ليست بالمنصفة لهذا الجنس الأدبي، لكن يمكننا القول إنَّ هناك بعض التحديات في عالم القصة القصيرة التي تمَّ تجاوزها في عالم الرواية. فبغضّ النظر عن جميع الآراء النقدية التي تعترض على وضع الروايات في مواجهة بعضها وكأنّها في حلبةٍ تتنافس على جائزة، فإنَّ كتاباً فيه رواية وكتاباً آخر فيه رواية أُخرى يمكن مقارنتهما ببعضهما نظريّاً بهدف تفضيل أحدهما على الآخر. لكن كيف يمكن وضع كتابين فيهما مجموعتين قصصيتين في مواجهة بعضهما؟ فلو قلنا إنَّ الكتاب "أ" يحتوي على عشر قصص إحداها عبقرية وتسعٌ منها ممتازة بينما الكتاب "ب" يحتوي على عشر قصصٍ أيضاً واثنتان منهما عبقريتين لكنَّ الباقية أقل من ممتازة. فعلى أيّ أساسٍ ستحكم اللجنة؟ هل تقوم بما يقوم به التصنيف الأولمبيّ فتَعُدّ الميداليات الذهبية فالفضية فالبرونزية لتصنيف المنتخبات حسب نتائجها فنعطي الجائزة للكتاب "ب" لأنّ عدد القصص العبقرية أكثر، أم نذهب نحو القول إنَّ التجربة الكليّة للقارئ لدى قراءته المجموعة هي الأساس وبالتالي إنَّ الكتاب "أ" يستحقُّ الجائزة أكثر رغم تفوّق الكتاب الآخر عليه في عدد القصص العبقرية؟

قد لا يكون الكتاب هو الشكل الأنسب لنشر القصص القصيرة وربما آن الأوان للمجلّات الثقافية التي عادت وانتعشت الآن في العصر الرقمي بأن تحمل لواء هذا الجنس الأدبي وأن تلعب الدور الذي لم يعد يستطيع لعبه ناشر الكتب التقليدي. فتكون هناك عقودٌ أو اتفاقيات مع قصصيين وربما لجان قراءة لقبول ما يتم نشره من قصص وما لا يتم نشره، بل وليصل هذا في مستقبلٍ ما إلى تنظيم جوائز للقصص تقوم فيه المجلّات بتقديم الترشيحات للقصص التي نشرتها تماماً كما تفعل دور النشر في جوائز الروايات، فالقصص المنفردة أقدر على التنافس فيما بينها من المجموعات القصصية.

لنتصوّر هذا المشهد، لو قلنا إنَّ مجلّة شهرية مطبوعة تنشرُ قصّتان في العدد الواحد، هذا يعني أنّها سنوياً ستكون مجبرة على اختيار أفضل قصتين أو ثلاثة (حسب سياسة الجائزة) من بين أربعٍ وعشرين قصّة منشورة، لترشيحها للجائزة، وبالتالي هذا يجعلها بالأساس مجبرة على اختيار أفضل القصص، من بين ما يصلها، لنشرها أصلاً. ومن يدري قد يُساعد هذا المشهد المجلات على التوزيع أكثر كما يحصل مع دور النشر التي تربح رواياتها جوائز. والأمر لا يقتصر فقط على المجلّات المطبوعة، فإنَّ القصّة القصيرة يمكن أن ترفع من عدد الزيارات على مواقع المجلات الإلكترونية ممّا يمكّن من زيادة فرص دعمها أو الإعلان فيها.

إنَّ المجلّة الثقافية كشكلٍ للنشر هي التي خلقت للأسماء الكبيرة شهرة فأصبحنا نشتري مجموعاتهم القصصية بشكلها الكتبيّ الآن، ولا يمكن أن تنتعش القصّة القصيرة ما لم تكن المجلّة الثقافية هي الراعية لها، إنّ صناعة النشر الآن بشكلها الرقمي يحمل بين يديه القدرة على رفع مصير قصصين جدد أو الإطاحة بهم وإهمالهم أو تركهم هشّين يصارعون لنشر مجموعاتٍ قصصية مستقلّة. وعودة إلى مقال روجيه غرينييه نختم بهذا الاقتباس: "وبالمعنى المعاصر، يبدو مصير القصّة القصيرة مرتبطاً بشروطٍ اقتصادية. لاحظتُ أنّها تنطلق في بلد ما، وفي فترة ما، عندما يكون هناك صحافةٌ ومجلّات قادرة على إعاشة الكتّاب. إنّها فرنسا موباسان وروسيا تشيخوف والولايات المتحدة زمن فولكنر وهمنغواي وسكوت فيتزجيرالد."