حين انقطع الإنترنت، وغبت عن عيد ميلادي

2021-01-19 15:00:00

حين انقطع الإنترنت، وغبت عن عيد ميلادي
Happy Birthday, Fernando Botero

إنّ أعياد الميلاد تعني صاحبها بالتأكيد يستمتع بالاحتفاء بها، ويفرح مهما كانت كلمة بسيطة على لوح الفيسبوك أو رسالة خجولة بالواتس أب، لذلك لا تبخلوا أبدًا على عيد ميلاد أحد بالتهنئة فهي قد لا تعنيك لكنها تعنيه كثيرًا، ففي الغربة التي فرقتنا جميعًا والوحدة المرعبة التي خلفها فايروس كورونا، لا احتفالات سوى في العالم الافتراضي.

مررت بتجربةٍ جديدة قياسًا بالمكان والزمان، فقد انقطع الإنترنت عن منزلي لـ 48 ساعة دون قدرة على إرجاعه، ولم يكن هناك أيّ طريقة بتاتًا كي أجد إنترنت بديل، بالتأكيد ليس الجيران، فهنا أشبه بفضيحة أنْ تطلب كلمة سر إنترنت جارك، فهي ليس مثل بلادنا توزعها على العمارة، وبالتأكيد ليس هناك مكتبة أو مقاهي لأن كلّ شيء مغلق بسبب كوفيد19، ما أبقاني يومين في المنزل دون إنترنت.

 وأنا أكتب هنا في نصف اليوم الثاني، بعد أن ذهبت إلى الحديقة مع ناصر وزينة، وطبخنا، ورتبنا البيت، ورسمنا، ولعبنا أونو، وقرأنا كلّ شيء في البيت تقريبًا... 

الحقيقة أنني لم أُكمل صفحات ما قرأته، لم يشدّني بتاتًا وكان عندي روايتين: النبيذة لأنعام كجه جي، وأورلندو لفرجينيا وولف. لا أدري ما الذي تغير بي؟ حقًا… إلى درجة أخشى أن أكون فقدّتُ تذوق القراءة أو أن أصابني غرور فأصبح ما أقرأه لا يشدّني، لكن اطمأننت قليلًا حين شدّتني أشعار المصري فؤاد حداد وسيرة حياة الشاعرة إتيل عدنان "وسأستخدم التعبير الدارج": التهمتهما التهامًا.

فمنذ زمن لم أرَ بجمال هذه الأبيات لحداد:

عمرك سافرت الفجر

عمرك بكيت..

عمرك شقيت من غنوة تسمعها

عمرك لقيت نفسك ومديت لها 

خطوة صبا

عمرك شكرت أخوك وسقف البيت

وعيون تودك والنظر واللقمة

...

عمرك طلبت من الريحان دنيا

عمرك مشيت بين الحبايب مغمض..

في كل خطوة تقول بلادي جميلة

....

أما المفارقة الأخرى والتي لا أدري هل هي مضحكة أم مبكية؟، لكنها بالتأكيد فتحت أمامي عوالم اكتشاف جديدة، هو أنّ عيد ميلادي بدأ للتو، فلا تهاني ولا اتصالات من الأصدقاء والصديقات في العالم الافتراضي، لأنني لا أراها، ولن أرد على أحد وهي المرة الأولى منذ سنوات التي أقضي عيد ميلادي تمامًا مع ابني وابنتي فقط، وهو شعور بالامتلاء التام. فذاك العالم ذو الجمال المراود بالانفتاح والنقاش وسطوع الذات يغلق هكذا مرة واحدة وفي مناسبة أحب أنْ أرى نفسي فيها بعيون الآخرين لهو حرمان، لكنه عكس الغربة، فالغربة هي التي تجعلك حيّا افتراضيًا فقط، في حين أنّ الحياة الحقيقية هي في المنزل والشارع والبلد مع كائناتٍ من لحمٍ ودم.

شعرت أني سأكون كالميتة أمام الناس حيث لا تجمعنا اللقاءات والصدف في الشوارع والمؤسسات بل فقط اللون الأخضر المضيء في الماسنجر، لذلك سأكون ميتة بالنسبة لهم ليومين كاملين، وكيف أنّ التواجد الافتراضي علامةٌ أخرى من علامات الحياة وتذكرت أصدقائي الذي ماتوا وكانوا عندي نقطًا خضراء في السكايب والفيسبوك والآن أصبحوا نقطًا صفراء أو لا نقاط بتاتًا، إذن أنا سأموت افتراضيًا ولكني فعليًا أعيش من جديد مع ابني وابنتي ولا تأخذنا التكنولوجيا من بعضنا البعض، فلعبنا كل الألعاب الممكنة، حتى أننا ذهبنا إلى الستاد المجاور في البرد الشديد ولعبنا الكرة.

كما أن زينة ابنتي اكتشفت أنّ رسمي لا بأس به بل قالت إنها تشعر بالغيرة من رسماتي الجميلة، فضحكت كثيرًا، وأصابتني غصّة كيف أنّ ابنتي لم تكتشف موهبتي بالرسم إلا الآن وهي التي ترسم كلّ يوم، فتحدينا بعضنا البعض فهي رسمت ضمة ورد وأنا ضمة وناصر يختار الأجمل، وأنا رجل الثلج وهي رجل الثلج، وهي رسمت كوخ في الغابة وأنا كوخ في الغابة، وشجرة عيد الميلاد وأنا شجرة عيد الميلاد، وكان ابني يختار كلّ مرة اللوحة الأجمل دون أن يعرف من رسم تلك أو هذه، وفزت أنا مرتين وهي مرتين، وسط ضحكات الاكتشاف بين ثلاثة غرباء.

أفكر الآن بما ستفعله يارا صديقتي في بلجيكا حين تحدثني على الواتس ولا أرد ولا تجدني أون لاين منذ يومين، ستبدأ باللطم بالتأكيد وربما تتصل على عملي أو أهلي، وما ستفعله والدتي فقد تكون الآن حرفيًا اتصلت بالشرطة في فرنسا، ولأني تذكرت فجأة أنها قد تفعل ذلك، أرسلت رسالة هاتف إلى شقيقتي التي تعيش معها في تركيا باللحظة الأخيرة.

جميل الموت الافتراضي وأنْ تعود لتقرأ ما كتبوه عنك "عشان نشوف غلاوتنا عند الناس" لكنه تصرفٌ أناني ودنيء بكل الأحوال، ولجأ إليه أشخاص في السنوات الأخيرة عن عمد كي يعطوا إيحاء أنهم ماتوا فعليًا أو خُطفوا، وكان يجب أن أنبّه المقربين إلى ما سيحدث معي، ولكن غيابي عن الشبكة العنكبوتية كان مفاجئًا تمامًا ولخللٍ خارج عن إرادتي.

إلا أن ذلك جعلني حرفيًا أتمنى لو قرأ المخرج حاتم علي ما كتبوه عنه، وما هتفوه بجنازته "كتّر خيرك يا علي"، فلم يكن يجب عليه أن يصنع أكثر من "التغريبة الفلسطينية" ليحوز ذاك الحب والحزن العميق لفقدانه، وكأننا فقدنا أمانًا في معاصرته منحنا إياه مجانًا، وتمنيت أن يعود محمد الشيخ يوسف فقط لدقائق ليضع اسمه في البحث على موقع فيسبوك، ويرى ما كان يمثله من حبّ وأملٍ وتحدي في قلوب الجميع وليس فقط أصدقائه.

إنّ هذين الموتين الموازيين في الحياة والإنترنت لهما الغياب التام، بينما لا يزال غيابي ناقصًا، كما أني لا أستطيع القول إن حاتم علي ومحمد الشيخ يوسف غيابهما تام، نعم، لا نقط خضراء ولا قلوب تدق إلا أنهما حيّان في الإنترنت كلّ يوم وفي قلوبٍ تعلّقت بسيرتهم وأثرهم، فقد ماتا جماعة وليس أفرادًا كما كتب حسن البنا يومًا في أحد أدبياته.

ومع ذلك كله لا يزال من الجيد أن أغيب عن أخبار عزل ترامب، ومنشورات أوضاع الوطن البائس وعن أخبار الممثلات وبرنامج ترندج الذي أحب تفاهته، ومسلسل عروس بيروت الذي أيضًا أستمتع بسخفه، ولم يملأني الفراغ في غياب كل ذلك، بل امتلأت بذاتي من جديد، بأحزاني، تفرجت على فيديوهاتٍ قديمة، وتساءلتُ يا إلهي كيف كبرت زينة فجأة؟ وناصر... مَن هذا الشاب في الغرفة الذي يستمع إلى كتب بالإنجليزية والفرنسية من هاتفه وأنا أضع جنبه رواية عائد إلى حيفا بالعربية، على أمل أن يقرأها بعينيه وليس أذنيه.

لم أتلقَ أيّ رسالة كلاسيكية على هاتفي بمناسبة عيد ميلادي عند الساعة 12 منتصف الليل كما توقعت، ليس من أحد، لا من عائلتي، لا من حبيب سابق، ولا من زملائي وأصدقائي، غاص قلبي قليلًا لكنه سرعان ما صعد، فرحتُ بهذه العزلة من جديد، فرحتُ أن أكون نفسي فقط، لست مسؤولة عن أحد ولا موقف ولا أمثل شيئًا ولا أعني سوى نفسي، أن أعود إلى نفسي دون المرآوية البغيضة المزعجة التي يفرضها اسمك وعملك وماضيك، أتذكر آخر عيد ميلاد كان لي في مدينتي قبل الرحيل احتفلت به خمس مراتٍ بخمس كيكات لدرجة أن صديق سخر مني" امتى حيعملوه بملعب فلسطين؟".

إنّ أعياد الميلاد تعني صاحبها بالتأكيد يستمتع بالاحتفاء بها، ويفرح مهما كانت كلمة بسيطة على لوح الفيسبوك أو رسالة خجولة بالواتس أب، لذلك لا تبخلوا أبدًا على عيد ميلاد أحد بالتهنئة فهي قد لا تعنيك لكنها تعنيه كثيرًا، ففي الغربة التي فرقتنا جميعًا والوحدة المرعبة التي خلفها فايروس كورونا، لا احتفالات سوى في العالم الافتراضي.

وأعترف أنّ احتفالي كان مع ابني وابنتي. خلاصة أيامي في الـ39 عامًا الماضية، إضافة إلى قرَّائي الذين أرى ابتسامتهم وهم يقرأوا لي الآن... فهذا حصادي.

وهابي بيرزدي يا أنا.