كان جبرا شاعراً رومانسياً، ربما، أو روائياً يختصر الوجود في بطل لا يتغيّر، وربما كان ذلك المثقف الشامل الذي يحتفي بالآداب والفنون جميعاً. لكن الأكيد الثابت اليقيني أنه أنجز ما أنجز ناظراً إلى فلسطين، وعاش ما عاش حالماً بالعودة إلى القدس.
القراءة الأسهل لجبرا إبراهيم جبرا تستهل بصفة الروائي، التي أشهرته عربياً وعرّفت به، عالماياً، بعد أن تُرجم له عملان، على ما أظن، هما «السفينة» و«البئر الأولى». ولهذه الصفة بعدان: فهو المؤسّس الحقيقي للرواية الفلسطينية بروايته البديعة الأولى «صراخ في ليل طويل» التي كتبها في القدس عام 1946، ونشرت للمرة الأولى خارج فلسطين، وهو الذي كرّس روايته للكتابة عن القدس، بدءاً من رواية «صيادون في شارع ضيّق»، التي كتبها باللغة الإنجليزية في بغداد وترجمت، لاحقاً، إلى اللغة العربية، وصولاً إلى روايته الأخيرة «يوميات سراب عفّان»، باستثناء عمل واحد شاركه في كتابته عبد الرحمن منيف عنوانه «عالم بلا خرائط».
عالجت روايته موضوعاً واحداً: الفلسطيني المقدسي الممتد، بأشكال مختلفة، في رواياته المتوالدة «صيادون في شارع ضيّق»، و«السفينة» العمل الأكثر اكتمالاً وجمالاً وتوازناً، و«البحث عن وليد مسعود» الرواية الأكثر طموحاً، التي رسم فيها فلسطينياً متفرّداً تمتد قامته بين الأرض والسماء، وأخيراً، «يوميات سراب عفّان» الرواية التي لا ترتقي إلى مستوى أعماله الأخرى.
وقد تكون صفة جبرا الأكثر عدلاً: الفنان الشامل، الذي كتب الشعر والرواية والقصة القصيرة والدراسة النقدية، والفنان التشكيلي الذي أسهم في صعود الفن التشكيلي العراقي وأصول نقده، والخبير بالموسيقى الكلاسيكية، والمترجم المبدع الذي ترجم شكسبير، والذي كتب "سيناريو" عن تاريخ العراق، لم يتحوّل إلى فيلم سينمائي، والرسّام الذي خلّف وراءه لوحات كثيرة في القدس، التي أسس فيها، أيام الوطن، نادياً فنياً لرعاية المواهب الشابة، وكان آنذاك شاباً.
هو الفلسطيني الذي عشق القدس، التي شهدت أيام شبابه الأول، إلى حدود التَلَف، بلغة إميل حبيب، وترجمها في «البحث عن وليد مسعود» إلى عالم من الألوان والألحان، وعالم الألوان، مجازاً، يساوي الجنة. وهو الفخور بفلسطينيّته، كما عبّر سريعاً أكثر من مرة، الساخط على زمن فاجر "ألجأ الفلسطيني إلى أقوام لا يعرفون قيمته"، والحالم بثورة ثقافية عربية يقودها الفلسطينيون، وهو ما ألمح إليه في حوار مع المؤرخ الإنجليزي العادل: أرنولد توينبي.
ولعل فلسطينيّته العميقة هي ما جعلته "يتجاهل" السياسة، وهو بها عليم، لا يتحزّب ولا "يُؤدلج"، ولا يقف في صف عربي ضد آخر. حين سألته في إحدى زياراته لعمّان: لماذا تُنكر السياسة وتقف على الحياد؟ أجاب ضاحكاً: "إني بها لجهول"، ثم زاد ضحكاً وقال: "الفلسطيني اللاجئ تهمة، وإن كان مثقفاً سقطت عليه تهمتان، فإنْ عالن بفلسطينيته ودافع عن قضيته صارت تهمه ثلاث، فحقه الوحيد أن يستمع إلى العرب الذين يريدون تحرير فلسطين، لأنهم أدرى بقضيته منه. أنا لا أجهل شيئاً وإنما أتجاهل".
بيد أن الكلمات السابقة تنتهي، أو أريدها أن تنتهي، إلى أمرين يعبّران عن جوهر جبرا وعقله وقلبه. يقول الأول منهما: رأى جبرا في فلسطين كلها مرآة للقدس، أرضاً مباركة ومقدسة "كمدينة الله"، دفعه إلى كتابة نثره الأجمل عنها، واعتبر القدس مجازاً لجسد المسيح، وأسبغ عليها صفاته، ووصفها بأنها "أجمل مدينة في الدنيا"، هواؤها عليل ومطرها دافئ ونساؤها من ذهب والاعتداء عليها اعتداء على الروح الإلهية.
ترجم القدس، روائياً، بفلسطيني مقدسي يقترب من الكمال، تحميه القدس حتى لو كان بعيداً عنها، يحملها في روحه ويستطيع أن يرجع عليها حين يشاء، لأنه لا ينفصل عنها ولا تنفصل عنه. لذا يعود المقدسي الذي لجأ إلى بغداد إلى أهله في نهاية رواية «صيادون في شارع ضيّق» بعد أن تفوّق على كل من التقى به. وتعيش شخصيات «السفينة» اغترابها وتبتعد عن وطنها، ما عدا الفلسطيني المتوازن، الوسيم دائماً والبهيّ دائماً والبليغ دائماً، يظفر بحبه في النهاية ويتهيأ للعودة إلى فلسطين. أمّا وليد مسعود فهو القدس في شكل رجل، مثلما أن القدس مدينة لا مثيل لها في هيئة إنسان مقدسي.
كان جبرا شاعراً رومانسياً، ربما، أو روائياً يختصر الوجود في بطل لا يتغيّر، وربما كان ذلك المثقف الشامل الذي يحتفي بالآداب والفنون جميعاً. لكن الأكيد الثابت اليقيني أنه أنجز ما أنجز ناظراً إلى فلسطين، وعاش ما عاش حالماً بالعودة إلى القدس.
رحل عن بغداد التي لم تعد كما كانت، وغادر عالماً عربياً يتقدم متقهقراً، ومضى ولم يغترب مؤمناً بأن الفلسطيني ـ المقدسي الصادق تحميه روحه، وأن الروح المقدسية المشبعة بالثقافة والمشقة والأمل عصيّة على الاغتراب والخراب.
حفظت ذاكرته تفاصيل «البئر الأولى»، التي وقعت عليها عينه في بيت لحم وتأمل، صامتاً، سهوباً عربية مسكونة بالجفاف، لا تشبه فلسطين التي أوْرق في ترابها الحجر.