كائنات إيفلين عشم الله العجيبة المرسومة على حلم

2020-12-24 15:00:00

كائنات إيفلين عشم الله العجيبة المرسومة على حلم

مذهل كم الحب والحياة في لوحاتها، رقص وغناء وبسمة وموسيقى تنساب من اللوحة بصمت وقُبل كثيرة جميلة، ترسم لوحاتها بدل الورق أو القماش على أرضية من حلم جميل أو كابوس، في ثنائية الإنسان ومرآته، بتقلبات أمزجته، أفراحه ومخاوفه.

أفكر فيها، تتلصص عليّ جنياتها وعفاريتها اللطيفة الباسمة بينما أقوم بعملي وتشغلني لأيام، حتى أني سألتها مرة عن اسم أحدها فضحكت ضحكة طفلة صغيرة، ضحكة "البت فيفي" كما تحب أن تسمي نفسها... وتركتني بلا جواب أفكر باحتمالات لاسم ذلك العفريت المشاكس الشبيه بمهر أبيض، عُرفه من أشعة الشمس.

تعرف إيفلين عن نفسها على صفحتها في الفضاء الافتراضي الأزرق: "لا أعرف إلا قدراً ضئيلاً جداً عن نفسي وأنا أحاول الغوص للداخل لمعرفة بعض من الكثير الغائب عني". 

فتترك لخيالها المجنون أن يقودها في رحلة لمعرفة أعماق ذاتها وتتركنا للذهول نتأمل لوحاتها، ندقق في التفاصيل ونتساءل: بم كانت تفكر إيفي حين رسمتها؟ فهي نادراً ما تعلق على لوحاتها أو تضع لها العنوان لنخمّن معها من كل تلك الكائنات الباسمة ذوات العيون الواسعة الكبيرة؟

ربما نجد بعض الإجابات حين نتعرف أكثر على إيفي، الطفلة ذات المخزون البصري والحكائي الهائل لطفولتها التي قضتها وسط الحقول في قرى دسوق بدلتا مصر، واستمعت بشغف لحكايات جداتها فمزجت بين ذاكرتها المرئية والمسموعة لتخلق عالماً سريالياً غريباً من الكائنات المتناغمة داخل كل لوحة.

تجتمع كل مفردات الطبيعة من قمح، موج، غيم، ريح، شجر، نخيل وورود في لوحاتها التي تسرح فيها مخلوقات غريبة وكأنها جن أو عفاريت، كالسمكة ذات الأجنحة التي تشبه الحصان، أو ورود ذات أعين عديدة يتحول رأسها إلى نار.

يتحول الإنسان إلى زهرة وطائر وطير في لوحة واحدة، وفي لوحة أخرى يسبح في النيل سمك له أيدٍ، وتتحول أشعة الشمس إلى موج يحمل القوارب. وتصور السحب ككائنات مؤنسنة تستلقي على رؤوس البشر الذين لا يشبهون البشر.

ببساطة... ترسم إيفي الجمال والقبح محمّلاً بمفهوم إنساني حرّ فيعود بهذا التمازج أصل الوجود كله إلى خالق واحد وتختلط حيوات جميع مخلوقات الكون في حياة واحدة، متناغمة ومنسجمة.

تتجسد الأمومة في لوحاتها مركزة على الأنوثة من حيث الأثداء الكبيرة ذات الحلمات النافرة التي تميز المرضعات، حتى الطيور لها أثداء كتلك، ربما لأن الأطفال والعصافير يشبهون بعضهم، ما أن يكبروا حتى يتركوا العش ويطيرون بعيداً، بينما يتساوون في مرحلة الاحتواء الآمن حين ما يزالون أجنة يسبحون بحرية داخل كيس المشيمة الضيق، أطفال داخل بيوض وعصافير داخل الأرحام، وتوأمين في رحم سيدة أو سيدتين متصلتين كتوأم سيامي رأسهما شجرة تتفرع أغصانها إلى السماء يقول أحدهما: "ستلدنا أمنا قريباً وسنكبر معاً" ويرد الآخر: "سنأكل بلحاً طازجاً مسكراً وسنستظل بفيء تلك الشجرة" التي هي لربما "شجرة الحياة". 

ورغم تشابه الأسلوب في أحيان كثيرة لا تعمل إيفي على تيمة واحدة رغم تكرر العناصر السائدة على مجمل لوحاتها، ففي لوحتها "الهجرة إلى عالم آخر" تصور مثلاً الفضاء الخارجي بكائناته وصحونه الطائرة، ولم لا؟ فخيالها الطفل مجنون.. ولا مانع إن تجولت في عوالم أخرى غير معتادة وقامت باكتشافها كجزء من اكتشاف عوالمها الداخلية نفسها.

أو كما في لوحة "الشطرنج" فالصباريات الذابلة في مقدمة اللوحة لا علاقة لها مطلقاً باللعبة وإحساس اللاعبين، إنها فقط بحاجة إلى بعض الماء كي تحيا مجدداً لكن الانشغال باللعب وربما بالحياة تركها منسية عطشة، وتلك فكرة إن قمنا بتحليلها فستقودنا إلى بناء فلسفة حياتية كاملة عن العلاقات الإنسانية.

الجميل في إيفي أنها ترسم كل ما يخطر لها على بال بمنتهى الحرية ودون رقابة داخلية، حتى ولو كانت فكرة بسيطة أو ساذجة إلا أنها تتحول بين يديها إلى حكاية خيالية كلوحة "الحنفية" المرتبطة بحكاية من طفولتها تصور فيها موظف البلدية يركب على الحنفية العمومية وكأنها حصان جامح ويوزع الماء على نساء القرية المصطفات بالدور لعدم وصول الماء إلى بيوتهن فيتحول في لوحتها إلى فارس وبطل مغوار. أو لوحة "المعزاة الحمراء ذات الشعر الفضي التي تغني بنعومة و"مأماة شجية" وفي البعيد كائن منجلي يغني بين ضفاف حمامه وداخل الهرم مصري من الجدود يغني الموال ويا ليلي يا عيني يا ليل".

فالسريالية لدى إيفي لا تكمن فقط في التشكيل البصري بل بالفكرة أيضاً، كما أن لوحاتها مليئة بالموسيقا والغناء المحسوس المنبثق عبر حاسة البصر فقط.

ما يلفت في لوحات إيفي العناصر المستقاة من الموروث الشعبي كالأكفّ "الخمسات" والعيون والصليب الفرعوني، أفاع، قطط واهرامات، والمواضيع المستمدة من الأساطير الفرعونية حيث تصور إحدى لوحاتها الآلهة حتحور، آلهة الخصب والنماء لتصب في نفس التيمة الأمومية.

رغم الخشونة الغالبة على تكوينات لوحات إيفي واعتمادها المقصود على تكسير النسب، يختلف أسلوبها في الرسم حين يتعلق الأمر بالعائلة فتنحى نحو الواقعية في التصوير كلوحة "أبي وبرج الحمام" أو حين تصور أمها في لوحة "كل المدارات دارت في مدارك" أو لوحة خالتها التي تحب. كما أن الأسلوب نفسه يعمم على لوحاتها الخاصة بحياة القرية كلوحة "الخبيز".

أما لوحة "مدينة دسوق في المولد" فتأخذ شكل المنمنمة بتفاصيلها البصرية الغنية وبأسلوب طفولي من حيث التشكيل والنسب.

وتتراوح الألوان التي تستخدمها من ترابية أقرب للبرودة إلى زاهية ملونة مضيئة، إضافة لتجارب في اللون الواحد الذي يتراوح بين تدرجات الرصاص الرمادي والعفني أو البني. وما يلفت النظر جداً في اسلوبها اعتمادها على التشكيلات الثنائية أو الكائنات التي تشبه التوائم السيامية الملتصقة في لوحاتها كالعفاريت والطيور والفراشات وحتى السمك وكأنها انعكاس الذات في مرآة الروح، إضافة للابتسامات الواسعة وكثرة العيون التي تكاد لا تخلو منها لوحة واحدة، كالعيون المزينة لقبعة الشيخ الضرير إمام وهو يعزف على عوده المزين بعين أيضاً فيتحول العود في لوحتها إلى شخصية أيضاً بعينه الواحدة ويبصر الشيخ الجمال والموسيقا رغم عماه.

تصور إيفي في إحدى لوحاتها امرأة عارية وعين بين ثدييها وكأنها بديل عن القلب وتعلق على اللوحة قائلة: "هكذا نكون أمام أنفسنا عراة من كذبات العالم التي تعلق بنا وتغطينا من أقدامنا حتى رؤوسنا" فالعيون مرآة القلب والمعرفة حول الذات التي تشغل تفكيرها. 

تعتمد إيفي في لوحاتها أيضاً على استخدام الكلام المكتوب، تقنية بدأت بها عام 2015 ربما لتغوص أكثر في عوالمها ولتغرقنا فيها أيضاً "أنا مع جنيات الخيال أسبح في مياههم وأهدي لهم تلك الأجنحة التي صنعتها خصيصاً ليدخلوا بها إلى عالمي" وهو ما فعلناه. فتحملنا الكلمات على بساطها السحري إلى عوالمها لنتعرف على ما يجول في رأسها من أفكار.

كم سحرني بورتريه لامرأة تتوزع على شعرها المفرود وتحيط برأسها كهالة العبارة التالية: "أهكذا كنت أبدو في عينيك وقتها؟ لقد استعدت ملامحي من صورتي في عينيك مع بعض من رتوش صغيرة أبدعتها عقارب الساعة القديمة الباقية"، أما على رقبة الامرأة فكتب التالي وكأنه قلادة تحمي من العين: " تميمتي هي نظرة عيني لعينك"، وعلى قبة الفستان: "هذا فستان أبدعته أمي وهي لا تعلم أنه من أجلك". حكاية كاملة يختمها القرطان المعلقان في اذني المرأة على شكل لوتس ايزيس الذي يرمز لمملكة الشمال حيث دسوق وللحب. 

تحمل لوحات إيفي الكثير من الإشارات إلى الوقت ومروره مرمّزاً بالساعة، إما بالكلام كما في اللوحة السابقة أو من خلال ساعات المعصم التي تتزين بها الكثير من الشخصيات النسائية في لوحاتها، ربما لأن مفهوم الوقت بات مسألة تشغل بال إيفي التي تصور نفسها وأفكارها في مراحل عمرية مختلفة فتقول في إحدى لوحاتها: "قلت لها محفزة همتها ارسمي واكتبي حتى إذا غادرت.. تجدين أن ما قمت به جميل". أو في تلك اللوحة حيث تقف إيفي السبعينية، على أحد معصميها ساعة وعلى الآخر إسورة على شكل أفعى، حافية القدمين تزين رأسها شجرة الحياة والمعرفة والحكمة، تتعكز على عكاز خشبي مقطوع من شجرته لكنه يتفرع ببراعم خضراء فتية، مقابل ذاتها الشابة التي تمسك بأشعة الشمس بين يديها في لوحة تحمل عنوان "طقوس التحولات والوقت"، أو ببساطَةِ لوحتها حيث تبدو شابة تقف وسط دائرة "اللانهاية دائرة" محاطة بكائناتها الخرافية.

مذهل كم الحب والحياة في لوحاتها، رقص وغناء وبسمة وموسيقى تنساب من اللوحة بصمت وقُبل كثيرة جميلة، ترسم لوحاتها بدل الورق أو القماش على أرضية من حلم جميل أو كابوس، في ثنائية الإنسان ومرآته، بتقلبات أمزجته، أفراحه ومخاوفه.

حتى نيل دلتها ترسمه كامرأة باسمة تنساب مع المياه، أسلوب مميز يحمل بصمة إيفلين عشم الله الطفلة، المرأة، الأم، والفنانة الجميلة.