فلسفة المعاناة والإنتاج الإبداعي... الكتابة في سياق الألم

2020-11-23 16:00:00

فلسفة المعاناة والإنتاج الإبداعي... الكتابة في سياق الألم
Tayseer Barakat, Shoreless Sea #9, 2019, acrylic on canvas, 50 x 70 cm

تكتسبُ المقولةُ الشعريّة ضمناً لهذا الفهم حيويةً تجعلُها ابنت زمانها ومكانها الصالحة لكّلِ زمانٍ ومكان، وليس فقط ابنت زمانها ومكانها التي هي حبيسة هذا الزمان والمكان، وهذا يضع الشعر في المكان الّذي يستحقه ربمّا، ضمناً لتطور المقولة الشعريّة ضمن هذا المسار الزمني الطويل الّذي مرَّ فيه الشعر.

"أنا أتألمُ بينما أنتم تَمدحونَ كتاباتي"... كافكا 

تُعطينا هذه العبارة مَلمَحاً مُهماً في تفسيرِ وفهمِ جدليّةِ الألمِ والإبداع كما يراها كافكا، تُشيرُ العبارة إلى وجودِ علاقة تربطُ الألمَ والمعاناة بالمنتج الإبداعي وجمالياته، يقولُ فيما القارئ مُنغمس في استشعارِ جماليات المُنتج الإبداعي الأدبي، لا تظهرُ إليه بصورةٍ واضحة أن هذا التَموضع الإبداعي الجديد، هو نتاج بناء هرمي من المعاناةِ والألم التي تراكمت داخل المبدع وصولاً إلى لحظةِ تجلي المُنتج الإبداعي بمواصفاتِهِ الجماليّة كونه في نهايةِ المطاف فن، إذن فالعمليّة الإبداعيّة كما يرى كافكا، مسار تَخلقهُ معاناة مُتصلة، يُعاد تشكيلها ضمن ديناميكات مختلفة وموضعتها في معالجاتٍ موضوعيّةٍ جديدة، ومما لا شك فيه أن فعل الإبداع ينطوي على إعادة تقديم لما هو مألوف بصيغٍ أو طرقٍ غير مألوفة كما يرى طارق سويدان وفي هذا التقديم للإبداع التقاطة ذكيّة لفهم أن ثمة تحول لإعادة موضعة الأشياء والمعاناة واحدة منها ضمن سياقات جديدة، وهذا يعني أن المنتج هو حصيلة عملية تقاعل واعية وغير واعية مع الأشياء في كليتها والألم والمعاناة بطبيعة الحال، لكن هل يبدأ التفاعل من الداخل، أي ذات المبدع، وصولاً إلى الخارج، أي المحيط الّذي يعيشُ فيه، أم أن العكس هو الصحيح؟، توفر محاولة الإجابة على هذا التساؤل مدخلاً لفهم الإبداع بصورةٍ عامة والأدب بصورةٍ خاصة في سياق فلسفة المعاناة. 

صورةُ الإبداعِ في مرآةِ مناهج ِالنقدِ الاجتماعيّة

في الشرقِ والغربِ قديماً وحديثاً تدورُ معظمُ توجهاتِ مذاهبِ النقد الاجتماعيّة والتي بُنيتْ في معظمِها على الماركسيّة حول جوهرية تمثيل الأدب للحياة بمستواها الاجتماعي، لا الفردي وأن الأدبَ انعكاسٌ لإيقاعِ الصوت الجمعي الكبير الّذي هو بالضرورة انعكاس للفرد، لأن القارئ المُتخيل هو فرد في المجتمع وهو بهذا الفهم المُجتمع ككل، أورد دكتور عبد الله خضر حمد، المحاضر بجامعة اربيل في العراق في كتابةِ مناهج النقد الأدبي الحديث أن لوسيان جولدمان أحد منظري اتجاه المدرسة الجدليّة قال: "إن الأدب ليس إنتاجاً فردياً، ولا يعامل باعتباره تعبيراً عن وجهة نظر شخصيّة، بل هو تعبير عن الوعي الطبقي للفئات والمجتمعات المختلفة، بمعنى أن الأديب عندما يكتب فإنه يعبرُ عن وجهةِ نظرٍ تتجسدُ فيها عمليات الوعي والضمير الجماعي، فجودة الأديب وإقبال القرَّاء على أدبه بسبب قوته في تجسيد المنظور الجماعي ووعيه الحقيقي بحاجات المجتمع، فيجد القارئ ذاته وأحلامه ووعيه بالأشياء، والعكس صحيح لمن يملكون وعياً مزيفاً".

يُقدم لنا حديثُ جولدمان هذا، معادلةً بعلائقٍ واضحةٍ ومحددة، حيثُ يرى المُجتمع كتلةً واحدة، وهذا يلغي بالضرورة وجود فردانيّة الفرد داخل المجتمع أولاً، ثم الذات الفرديّة المبدعة فهي بذلك لا تمتلك إلا أن تكون إيقاع لما يعيشهُ المجتمع، وبصورة ميكانيكة يجبُ أن تقدمَ الذوات المُبدعة المُجتمع عبر منتجها الإبداعي المرتكز بصورةٍ أساسيّة على الخارج والذاهب مباشرةً إلى الخارج كذلك. 

والأدبُ تبعاً لذلك يكتسبُ قيمَتهُ من حيثِ كونه انعكاس، مرآة مُقعرة أو مُحدبة تقدمُ صوراً مُنبعجةً عن المجتمعِ بحيثُ يبدو المُنتج الإبداعي شكلاً جديدةً، لكنه في النهايةِ صور المجتمع نفسه، وهذا يطرح ضمنياً شكلاً وظيفياً أدائياً للأدب، ويعني أيضاً أن محركاته تبدأُ من الخارج أي من المُحيط الاجتماعي وقضاياه، إلى الداخل، الذات المبدعة؛ لتتم معالجته ابداعياً ثم خروجه بصوره الإبداعية النهائية، والنظر إلى الأدب في نطاق مناهج النقد الاجتماعيّة، يعني أن المعاناة والألم الّذان يحركان الإبداع هما بالضرورة المُتصلان بقضايا المجتمع، وهو بذلك ألم طبقات العمال التي تكدحُ في المناجم والمحاجر لدى الماركسيّة وكتابها؛ لذلك أعادت روايات جورج أورويل وجوروج أمادوا و ميلان كونديرا، وحيدر حيدر وغيرهم الكثيرين، تقديمه من جديد بطرائقٍ مُختلفة، وهو تبعاً لذلك صوت المُجتمع الّذي يناضل من أجل وجوده وحريته كما هو الحال في أدبِ الشعوب المُستعمرة أو التي مازالت ترزح تحتَ الإحتلال. 

والناظر إلى الأدبِ الفلسطيني المُتشكل إبان نكسة حزيران 67 بسردِهِ وشِعرهِ، يُمكِنهُ التأكد من حقيقةِ أن معظمَ ما تم انتجاهُ كان انعكاساً لقضايا المجتمع، قضايا التحرر والمقاومة والاستقلال وغيرها من ما أُصطلِحَ على تسميته بالقضايا الكُبرى والتي يتم تناولها بما تم الإتفاق على تسميتِه بِالأدبِ المُلتزم، والمُستعرض لنتاج كنفاني في "عائد إلى حيفا" و"أم سعد" بالإضافة إلى "السفينة" و"البحث عن وليد مسعود" لدى جبرا إبراهيم جبرا، مروراً "بِسُداسيّة الأيام الستة" و"المتشائل" لدى إيميل حبيبي و"الكوابيس تأتي في حزيران" لمحمد أيوب أبو هدوس والمجموعة الشعرية "أخر الليل" لمحمود درويش و" أشد على أياديكم" "أدفنوا موتاكم وأنهضوا" "أغنيات الثورة والغضب" لدى توفيق زيّادة، بالإضافة إلى "دمي على كفي" و"سقوط الأقنعة" لسميح القاسم "وكراسة فلسطين" و"قصائد على زجاج النوافذ" لمعين بسيسو، يُمكنهُ ملاحظة سمة التقريريّة والخطابيّة الغالبة على معظمِ هذا النتاج وخاصة الشِعري منه وهو طبيعي ومبرر في سياق الوظيفة الاجتماعيّة الواقعيّة للأدب، والتي هي في سياق شعب تحت الإحتلال يجبُ أن تكونَ وظيفةٌ تحريضيّة، وهنا يتضائل حضور الذات الفرديّة المُبدعة إلى حدِ إنكارها بوصفها ذات مُستقلة والتركيز على كونِها ذات مُنخرطة تماماً بِمجتمعها، لكن أينَ ذهبتْ هذه النتاجات الآن وكيف يتم النظر إليها؟ 

يتم استحضار هذه النتاجات الإبداعية اليوم في سياقِ التأريخ والتوثيق والاستدلال على الحدثِ التاريخي، لقد قللَ الانغماس العميق في محليّةِ هذه الأعمال من طلاقةِ مَقولتِها الأدبيّة شعريّة كانت أم نثريّة؛ لأنها في الحقيقة ليست مقولة أدبيّة مُنبثقة من داخل الذات، هي مقولة المُجتمع التي تفاعلت مع الذات، ثم خرجت وكأنها مقولة الذات المنفردة، ولأنها مقولةُ المجتمعِ المُستقاة مع معاناةِ المُجتمع، فهي مُرتهِنة بِمتغيراتِ المُجتمع، وبالتالي فهي معاناة ضيقة تدورُ في حلقةِ تشنجِ الخطابِ المُجتمعي؛ لأنها معاناة تغوصُ بأسئلةِ المُجتمع وقلقه وهذا يقللُ من قدرِ النصِ الإبداعي على النفاذِ إلى المعاناةِ بوصفِها هماً انسانياً، يبدأُ من الفردِ والأسئلة الفرديّة وقلقها، مما يُؤهلها أسرع في أن تتجاوزَ مَحليتها إلى بُعدها الكوني والإنساني.

الحقيقةُ أنَ دوريش واحد من القلائل الّذينَ أدركوا مُبكراً أن البقاءَ في هذه الورطة يَقلل من مقولتِهِ الأدبية لصالحِ وجوده الاجتماعي ومن ثمَ السلطوي، وهو وجودٌ مشوبٌ بِالعدمِ والتغير، يقولُ درويش في مقابلةٍ تلفزيونيّةٍ أجرتها معهُ الإعلاميّة نشوى الرويني عبرَ قناة MBC في معرضِ إجابِتِهِ عن سؤال الشاعر السوري نوري جرّاح، عن كيفيةِ اختلاقِ القصيدة الشعريّة وماهيتها، ولقد قمتُ بتفريغِ الإجابة في هذا المقال يقول درويش: "إن هذا سؤالٌ صعب؛ لأنه إذا كانَ بإمكانِ الشاعرِ أن يعرفَ كيفَ بالإمكانِ أن يأتي الغامضُ المُعقد جداً، إلى شَكلِهِ المُحدد والواضح، لأصبحتْ كتابة الشِعر مهمةً يوميّةً سهلة، ولأصبح الشِعر سلعةً شعريّة، لكنَ الشاعرَ يعيشُ حياته ويُشّغل انتيناته الشعوريّة والنفسيّة والمعرفيّة، ويطوّر ثقافتهُ، لكنَ كيفَ يتحولُ هذا الموضوع الوجودي الكبير، الاصطدام في المأزق الإنساني إلى معنى في جسمِ القصيدة؟ هذا ما تقومُ القصيدةُ الشِعريّة في محاولةِ إنجازه، وهي عملية تَستلزمُ مراقبة للذات وانتاه شديد لها ولإلتقاطاتها، إلى أن يحدث ما هو مفاجئ، أي لحظة الكتابة مروراً بِتشكلِ النص".

تُقدِمُ إجابة درويش في سياقِ قراءتِها وفهمِها، التأكيد على أن الاعتمالات المسؤولة عن إنتاجِ النصِ الشعري، هي اعتمالات تحدثُ في الذات، في الداخل، وهي اعتمالات يُحركها الاصطدام بالمأزقِ الإنساني، أي المعاناة من حيث كونها هماً انسانياً عاماً وهي بذلك معاناة ليست رديفة بالضرورة لمفهوم الحزن الكلاسيكي والمرتبط بالصور الجمعيّة التي يراها المجموع، إذن فالقضية كلّها تحدث في الداخل إلى أن تأتي اللحظة المفارقة التي يتجاوز فيها النص الذات، إلى خارجها. 

ومما لا شكَ فيه أن هذا الفهم لدى درويش ساهم بصورةٍ أو بأخرى، إلى جوارِ مجموعةٍ أخرى من العواملِ، في خلودِ مقولتِهِ الشِعريّة وعموميتها وعالميتها أكثر من رفاقِ دربِ المسيرةِ الشعريّةِ المُلتزمة التي بدأت من خطاب ِالمجتمع وقضاياه. وهذا الفهم لدى درويش هو فهماً حداثياً بطبيعةِ الحالِ على الرغمِ من أن دوريش لا يتم تقديمه في إطار مُنظري الحداثة الشعريّة العربيّة، وروادها. 

الحداثةُ الشِعريّة وفلسفة المُعاناة، الكتابة الشِعريّة الشابة في غزة نموذجاً

جَنحتْ الحداثةُ الشِعريّة إلى الذاتِ المُبدعة، بِوصفها ذاتٌ مفارقةٌ لمقولةِ المُجتمعِ الّذي تعيشُ فيه، فالمنتجُ الإبداعي ليس انعكاساً لما يريدهُ المُجتمع كما ترى المناهج النقديّة الاجتماعيّة، بل هو صيغٌ فردانيّةٌ مستقلة، تُقدِمُ تناولاتها استناداً إلى دواخلِ الذات المبدعة وما تقررُ هي تناوله بطريقتِها الخاصة، يشيرُ أدونيس في كتابهِ زمن الشعر إلى هذا المعنى في معرضِ الحديثِ عن الشِعرِ في الحداثِةِ الشِعريّة " الشعر يُغيرُ الواقع، لا من حيثِ أنه يقلبه سياسياً أو قتصادياً أو اجتماعياً، بل من حيث أنه يتجاوزه ويقدم صورة جديدة لواقعٍ جديد أفضل وأغني".

والواقعُ الجديد المُغاير الّذي يشيرُ إليهِ أدونيس، لا يأتي انعكاساً للواقِع المُعاش بِالتأكيد، أنهُ واقعٌ يُختلق داخل الذات المُبدعة، أي أنه واقعٌ تَطرحَهُ المُقولةُ الشِعريّةُ بِوصفِها مقولة تتجاوزُ ارتدادات المُجتمع إلى جلالِ الشِعرِ وقدرته على أن يكونَ طرحاً مفارقاً خاصاً ومُتفرداً كذلك. 

وفي غزةَ التي تُعاني مُنذُ أربعة عشر عاماً، واقعاً يعاني من جملةٍ مُشتبكةٍ من مفراداتِ الألمِ تبعاً للظرف السياسي وما يقضيتهِ من استمرارٍ لهذه المُعاناة الجمعيّة وسحبها إلى مناطقٍ أكثر بشاعة يوماً بعدَ يوم، ينبغى لنا أن نسألَ في ضوءِ ما تقدم، كيف يُعالِجُ الأدبُ هذه المعاناة بسردِهِ وشِعرِه؟ هل يَعكِسُ الأدبُ المعاناة كما يراها المجتمع، فيكون مرآته كما هو الحال لدى مناهج النقد الاجتماعيّة، أم يستند إلى معالجاتٍ مستقلةٍ فرديّةٍ حداثيّةٍ تتجاوزُ مفومَ المعاناةِ في سياقِ كونها نتاج الظرفِ السِياسي، إلى المعاناة في سياقِ ارتباطها بالوجودِ الإنساني ومشكلة الإنسان وأسئلته وقضاياها وقلقه؟

طرحت "مجلة 28" هذا السؤال وغيرهِ من الأسئلة ذات الصلة في سياقِ مشروعٍ ثقافي يعيدُ قراءة غزة ضمن مجموعة من المحاور، وتَطرقت الحواريّة الأولى ضمن هذه السلسلة إلى قراءة غزة في سياق فلسفة المعاناة في الفعلِ والانتاجِ الثقافي، أعتقد أن الرغبةَ في إعادةِ فهمِ المكان، بعيداً عن سياقِ التناولِ الكلاسيكي والّذي يُقدِمهُ في إطارِ كونه مكان مُظلم، مُحاصر، يفيضُ بالبؤس، هي من حركَ المجلةَ لفتحِ دائرةِ السؤال حول فلسفةِ المُعاناة في الفعلِ والإنتاجِ الثقافي، خاصة بعد عمليةِ التبرير السريعة التي تَعزي تفوق المُنتج الإبداعي الغزي وحيويتهُ وجمالياته وقدرهُ على الحضورِ بِفعاليّةٍ وأثرٍ عاليين، إلى وجود المعاناة، المعاناة بفهمِ تعقيدِ اللحظةِ السياسيّة وانعكاسِ ذلك على شتى مناحي الحياة، وهذا يحملُ ضمنياً إشاراتٍ نمطيّةٍ تجاهَ المدينة، التي تبدع؛ لأن المعاناة هي المُتحكم والمحرك والمسؤول عن وجود هذا الإبداع، بمعنى أن المعاناة هي المبدعة وهي التي تكتب أكثر من الذات المبدعة نفسها، التي لو افترضنا وجودها في مكان أخر، لما أنتجت هذه المشاريع الإبداعية مُنجزها بهذا الشكل. الحقيقة أنَ كل هذه التبريرات صالحة في إطار الاستناد إلى نظرةِ مناهجِ النقد الاجتماعية، والتي كما أسلفنا تربط الإبداع اشتراطياً بما يعانيه المُجتمع والإبداع بذلك هو الانعكاس لهذه المعاناة، لكن هل يطرح المُنتج الإبداعي الأدبي على وجه الخصوص ذلك؟ هل هذه هي الحقيقة؟ 

الناظِرُ في المُنتجِ الشِعريّ الشاب في غزة يرى عكس ذلك، حيثُ يُقدِمُ هذا المُنتج في سوادِهِ الأعظم ذاتَه أولاً، وما يتزاوج ُداخلَ هذه الذات من مركباتٍ ومحركاتٍ وصراعاتٍ ومعاناةِ واسئلةٍ وقلق، وهو مُنتجٌ يعيدُ بناء وهدم وتقديم وتركيب الأشياء بناءً على ذاتِهِ أولاً، ذاتَهُ التي تُبصِر وتَرى وتتفاعل بِوعيِها ولاوعيِها مع نفسِها ومع الآخر، وهو مُنتجٌ بعيدٌ عن وظيفيةٍ إيقاعِ الشارع وما يتطلبه، أو إيعاذِ جهةٍ خارجيّة، وسأعرضُ ضمنَ هذه الُعجالة، ثلاثَ نماذجٍ شعريّة فازت أو حصلت على اشادةٍ بالنشرِ في مسابقةِ الكاتبِ الشابِ التي يُطلقُها صندوقُ الثقافةِ والفنونِ في مؤسسةِ عبد المحسن القطان؛ لتوضيح ذلك.

النموذج الشعري الأول للشاعر نضال الفقعاوي الّذي فازت مجموعتهُ الشعريّة " ظهيرة قصائد في عربة الاسكافي" بالمركز الأول في العام 2015، يشيرُ بيان لجنة التحكيم إلى فرادة واستقلاليّة للمُنتج الشِعري، كما يُشير إلى تصادمٍ معَ القارئ، ووحدة في الاسلوب، كأن كلَّ النصوص نصاً شعرياً طويلاً وواحدةً، يقول البيان:" يقتنصُ الشاعر في هذه المجموعة، واقعه البصري واليومي لكي يستدل به على عزلته الخاصة، وعلى حاجته لأن يكتب قصيدة مغايرة تصدم القارئ أو تتصادم معه على الأقل".

تشيرُ هذا المقطع من بيانِ لجنةِ التحكيم، إلى أن القصائد في المجموعةِ الشِعريّة، تحركتْ من الداخل، من ذات المبدع واجتهادها ولم تكن انعكاساً لأصداء المُحيط واستجابةً له، على العكس تحاولُ الاصطدام مع هذا المحيط، أو مع هذا القارئ. 

وفي المجموعةِ الشِعريّة "جنازةُ لاعبِ خفة"، لأنيس غنيمة والتي حصلت على المركزِ الأول بالمسابقةِ ذاتِها في العام 2017، جاء في بيان لجنة التحكيم" تُقدم هذه المجموعة خطاباً شعرياً ناضجاً ومتمكناً، واستعارات وصوراً مدهشة، وزخماً شعرياً يتدفقُ من نصوصٍ مُنسابةٍ عن القسوةٍ والحزن، عبرَ شعريّة تتميزُ بالذاتيّة والتجريب والإبداع، وحزن ذاتي مبرر يمتلكُ الكفاءة لفتحِ كوة على ما هو إنساني وعام". 

تُقدِمُ أيضاً هذه الفقرة من بيان لجنة التحكيم استدلالات واضحة فيما يخص أن المنتج الشعري الموجود داخل هذه المجموعة، هو حصيلة امتزاج ذاتي مع مفراداتِ القسوة والحزن بصورها الذاتيّة المُستقلة، ومن حيث كونها نتاج فردي خاص يُعبر عن اسئلة الذات المبدعة وقضاياها الخاصة وقلقها الخاص، وأن هذه الذاتيّة تتصلُ بما هو إنساني وعام، بمعنى أن مقولتها الانسانية أعلى وذات حيوية شعريّة قادرة على البقاء والاقتراب من ما هو عالمي وكوني وانساني وعام. 

يقولُ أنيس غنيمة صاحب المجموعة في معرض إجابته عن سؤالِ ماهيته المعاناة في نصه الشعري وعلاقتها بما يحدثُ داخل المجتمع؟ وكيف تختلق القصيدة نفسها في ضوء ذلك: "أي كتابة شعريّة هي مزيج ما بين الظرف الذاتي الآني ومجموعة الرواسب التي تُشكِلُ علاقةَ الشاعرِ بالعالم، لكل قصيدةٍ خصوصيتها، قد يبدأ النص من حيث أي شيء وفي أي وقت، لكنّه بالنسبة لما أكتب لا يجري مع الإيقاع اليومي غير أنه يمتزج مع ما يمثلّه من مشاعر، تكون في غالبها بائتة.

أعتقدُ أن للشعر خصوصيّة، وأعرّفُ الشاعر بأنه ذلك الرافض وغير المنسجم، الألم والمعاناة والقسوة والغضب... كل مفردات الحزن والكآبة، هي ذخيرة شعريّة حيّة في وجه الوجود كلّه. والشاعر هو من لا يفرّق بين المجاعة والحرب، سواء حدث الأمر في غزّة أو بغداد أو في أديس أبابا، وهو عندما يكتب، يضع العالم أمامه ويطلق الرصاص مباشر.

وفي مجموعة "جراح تجرّب نفسها" لحامد عاشور والتي حصلت على اشادة بنشر في المسابقة للعام 2017 أيضاً، جاء في بيان لجنة التحكيم" تقدم هذه المجموعة موهبة يجب تشجيعها ومخيلة نشطة ونبرة شخصية في الكتابة تستحق الانتباه، وينطوي على عمل شعري ممتع ومدهش ومتدفق وغني، لغةً وإيقاعاً وصوراً ورؤيا، مقدماً شعراً ناجماً عن تلقٍ مختلف للعالم، وثقة بالنفس كافية لتمنح الأشياء فرصةً كي تقول نفسها بنفسها".

يُعرّجُ أيضاً بيان لجنة القراءة، إلى النبرة الشخصيّة في الكتابة، الإيقاع الذاتي المحرك والمُتحكم في وجود النص الشعري والّذي يطرحُ شكلاً تجريبياً مُختلفاً للعالم، تناول جديد يعتمدُ على ما هو ذاتي وصولاً إلى إعادة تقديم شكلاً جديداً. 

والمُستعرض للمجموعاتِ الشعريّة الثلاث، والتي تنتمي جميعها لاتجاه قصيدة النثر، بالإضافة لمجموعاتٍ أُخرى من الإنتاج الشعري والسردي، يُمكنه أن يلاحظ كيفَ تُعيد النصوص تقديم معاناتها الذاتيّة، ضمن محاولاتٍ شعريّةٍ توازنُ بينّ المَحسوسِ والتجريدي وتطرح تصوراً خاصة للحياة والذات والوجود، ضمن عوالم شعريّة مختلفة. 

كلُّ ما تَقَدم لا يعني بالضرورة أن النص الشعري الجديد أقامّ قطيعة بينهُ وبينَ مجتمعه، لكنه انبثقَ من ذاتِهِ أولاً، وهذه الذات ليست ذات خارجة عن مجتمعِها، لكنها ذات لا تقبل أن تكون صدٍ لهذا المجتمع، هي ذات تؤمنُ بأنَّ وظيفة الشعر هي الشعر نفسه، الشعرُ كمقولةٍ مُفارقة، لديها همها واسئلتها وطريقتها وتناولها الّذي يعيدُ تقديمَ الأشياء وفقاً لهذه الذات، والذات الشعريّة المُبدعة فقط تَصغِي وتنتبه وتسمع لها وتتفاعل معها.

تكتسبُ المقولةُ الشعريّة ضمناً لهذا الفهم حيويةً تجعلُها ابنت زمانها ومكانها الصالحة لكّلِ زمانٍ ومكان، وليس فقط ابنت زمانها ومكانها التي هي حبيسة هذا الزمان والمكان، وهذا يضع الشعر في المكان الّذي يستحقه ربمّا، ضمناً لتطور المقولة الشعريّة ضمن هذا المسار الزمني الطويل الّذي مرَّ فيه الشعر.