بين "موت الناقد" و"موت المؤلف" ماذا حل بالأدب؟

2020-11-06 14:00:00

بين
Death of the Art Critic, Dougal McKenzie

ما يحصل في الواقع الثقافي العربي هو "زعيق بدون نتاج ثقافي". إعادة اجترار شعارات قديمة لم تحمل الشعوب خطوة واحدة إلى الأمام حتى كشعارات سياسية، أما حين تتحول إلى خطاب ثقافي فهي تقضي على التربة الثقافية للحلم.

اللغة، من حيث هي وسيلة للتواصل، أداة محدودة القدرات، وهي بالتأكيد غير قادرة على حمل المعنى وإيصاله للمتلقي. لا بد أن يضيع جزء معتبر من المعنى في الرحلة ما بين وعي "منتج الجسم اللغوي" ووعي متلقيه. يضيع جزء من هذا المعنى في الرحلة التي ينتقل فيها المعنى من كونه "وعيا بمعنى ما" إلى كونه تحققا لهذا المعنى تشكل عبر اللغة. ويضيع جزء آخر في رحلته العكسية إلى وعي المتلقي، حيث يتم تحويل الشكل اللغوي مرة أخرى إلى معنى.

يحصر الناقد الفرنسي رولان بارت ومن تبنوا نظريته القائمة على "موت المؤلف" حياة العمل الإبداعي في مدى خارج المؤلف، فهو ينسب الفضل إلى المتلقي فيما يؤول إليه العمل الإبداعي من معان خلال رحلته الطويلة في تلقي القراء له وتفاعلهم معه وإضفاء ما يشاؤون من معان وإسقاطات عليه مستقاة من وعيهم وتجاربهم الذاتية.

إذا سلمنا أن الإبداع هو عملية تفاعلية، تجاوزاً، لأن هناك من لا يتفقون مع هذا الافتراض. لكن لننطلق الآن من الافتراض القائل أن الإبداع فعلاً هو عملية تفاعلية تبدأ بإطلاق المعنى في الفضاء ليتلقاه القارئ والناقد ويقوم بإعادة تشكيله مستخدماً مخزونه المعرفي وتجاربه الحياتية.

على الناحية الأخرى هناك  فرضية تنتزع من الناقد حق التأويل الفوقي للنص الأدبي جاءت من الأكاديمي رونان ماكدونالد في مؤلفه The Death Of The Critic (صدرت نسخة عربية منه بترجمة الناقد فخري صالح) ، الذي يرى أن الناقد مجرد متطفل على النص، يملك أدوات وتأثيراً قادراً على تدميره.

سواء اتكأنا على نظرية بارت أو مفهوم ماكدونالد فإن "القتيل" هو "العمل الأدبي"، دون أن يعني هذا حكماً قيمياً على أي من النظريتين. ماذا يمكن أن تكون الإجابة على سؤال مثل "أين العمل الأدبي بين قراءتَين" ؟ أو "أين العمل الأدبي بين قارئَين ؟". طرح أسئلة من هذا النوع يعني أن المعنى يتداعى، العمل الأدبي يتناسل، أما لو قتلنا الناقد فسيبقى يراوح في مكانه، ويخذل القارئ أيضاً الذي سوف تنحصر علاقته بالعمل الأدبى بوعيه وتجاربه الفردية أياً كانت.

يفترض أن يختزن الناقد وعياً ثرياً مؤثثاً بالعديد من النظريات والقراءات المتباينة، ويستخدم هذه الثروة لمساعدة القارئ على تشكيل وعيه النقدي الفردي، الثري.

لكن هذه مستويات من الجدل النظري لا يحلم المؤلف العربي أن تسود الساحة الأدبية، فبين موت المؤلف وموت الناقد، الذي يؤدي بالضرورة إلى موت القارئ، ما يعاني منه الواقع العربي هو "موت الأدب" أو بالأحرى اغتيال الأعمال الأدبية إما بالصمت والتجاهل الذي لا يرتبط بالقيمة، أو بغياب منهج للتعامل معها، لتتحول من عمل إبداعي تثريه القراءات المعرفية المختلفة، في أي مستوى كان، إلى كرة تركل بقسوة بين القراء بدون أدوات معرفية ، أو، وهو الأسوأ، سجن الأعمال الأدبية داخل اعتبارات أيديولوجية أو أخلاقية.

القتل بالأيديولوجيا

يشبه الواقع العربي الحالي من هذه الناحية واقع أوروبا الشرقية في السنوات الأولى التي أعقبت وصول الأحزاب الشيوعية (الستالينية) إلى السلطة بعد الحرب العالمية الثانية. دول أوروبا الشرقية التي أنجبت جورج بليخانوف وجورج لوكاتش اختارت فجأة أن تختزل النظريات الجمالية إلى خطاب أيديولوجي فج منزوع الجمالية.

كان هذا نتاج الواقع السياسي الفج في السنوات الأولى من عمر الاشتراكية، الذي قامت ضده حركات شعبية في المجر (1956) وفي تشكوسلوفاكيا (1968، ربيع براغ) أنتجت بالضرورة رؤية اشتراكية أقل شعاراتية وأكثر جنوحاً إلى الجمالية كقيمة إبداعية.

ربما السمة المشتركة بين الواقع العربي الحالي وواقع الدول الاشتراكية في سنوات الستالينية هي تغييب النظام السياسي السائد للمبدع الفرد، لصالح الحزب في حال الدول الاشتراكية، أما في الواقع العربي فلصالح الثقافة السياسية والأيديولوجيا السائدة. غياب النقيض الفكري للمؤسسة السائدة ينتج بالضرورة فراغاً فكرياً. هذا يفسر انحدار مستوى الذوق الجمالي السائد.

من الذي مات إذن؟

ويبقى السؤال إذن: هل يمكننا الحديث الآن عن موت الناقد بمفهوم ماكدونالد؟ لا بالتأكيد، فما حصل ليس موتاً للناقد بمعنى غياب الحاجة له كوسيط بين النص والقارئ، ما حدث يشبه "انتحاراً" أكثر منه موت، فهو لم يحصل بفعل قوى خارجه نفت الحاجة إليه، بل هو اختار طوعاً أن يصبح مطية لاعتبارات لا علاقة لها بالنقد ولا بالأدب. حين تُكرس، كناقد، قيماً خارج جوهر الأدب والنقد فأنت ساهمت في موت النقد، وبالتالي في انحدار الأدب.

لنُلق نظرة على الواقع النقدي العربي السائد: هناك جانبان، واحد دون مستوى الاستحقاق الجدلي، وهو: هيمنة "الشخصنة" على التعامل النقدي السائد، وهذه ليست قضية أدبية، بل أخلاقية بالدرجة الأولى، ولذلك فهي لا تعنينا هنا. أما الجانب الآخر، والأشد خطورة، فهو أن النقد أصبح أداة سياسية بالمفهوم الضيق للسياسة. أصبح الخطاب السائد في النقد الأدبي خطاباً سياسياً محضاً، والقيم المتداولة قيماً سياسية. هذا في حد ذاته ما كان ليكون كارثة سوى أن السياسة نفسها اختُزلت إلى "الخطاب السياسي". تحويل الثقافة إلى أداة سياسية (عبر الاقتصاد) هو مفهوم رأسمالي بامتياز، يبدو جلياً باستخدام النظام الرأسمالي لمظاهر الثورة الثقافية المناهضة له وتحويلها إلى سلعة.

لنتأمل في تاريخ "الجينز" مثلاً. بدأ كحركة احتجاج ثورية على ثقافة الاستهلاك، فهو زي بسيط جداً، مصنوع من مواد رخيصة. كان الجينز شائعاً في عصر ثورة الطلاب نهاية الستينات. لكن النظام الرأسمالي كان بالمرصاد. قفز في الحال على الفكرة وحول "النتاج الثوري" إلى سلعة، وروجها بأدواته الخاصة فارتفع ثمنها وفقدت جوهرها. وتمادى النظام الرأسمالي في السخرية من قيم الفقراء. الفقير لا يملك ثمن البنطلون الجديد، فيستخدمه حتى بعد تمزقه. لننظر حولنا كيف تحولت بنطلونات الجينز الممزقة إلى سلع "موضة" مرتفعة الثمن. لكن النظام الرأسمالي لم ينتج أيديولوجيا وشعارات زاعقة، هو يسيطر على ثقافة ليست له و"يركبها" بصمت محولاً إياها لسلعة تجلب له الأرباح.

ما يحصل في الواقع الثقافي العربي هو "زعيق بدون نتاج ثقافي". إعادة اجترار شعارات قديمة لم تحمل الشعوب خطوة واحدة إلى الأمام حتى كشعارات سياسية، أما حين تتحول إلى خطاب ثقافي فهي تقضي على التربة الثقافية للحلم.

ونعود إلى السؤال: من الذي مات إذن؟

الذي مات هو القارئ النقدي المنوط به تأويل الفن وإضاءته بشكل يفيد المبدع والمتلقي. من مات هو الناقد الذي يدرك أن لا قوالب في الفن ولا "مساطر" بل رؤى متباينة ومتناقضة تتعايش بإبداع ضمن نفس الفلسفة الجمالية بخطوطها العريضة، ودور الناقد هو الإضاءة المعرفية للأعمال الإبداعية، لا محاكمتها وفقاً لقوانين من خارجها.

الناقد الذي نفتقده هو حليف المبدع والمتلقي، المستقل، الموضوعي، الذي لا تبتزه الأيديولوجيا ولا يسقط في فخ الاعتبارات الشخصية، سلباً أو إيجاباً، ولا يشتريه أصحاب المصالح. لنُلق نظرة على الأعمال الأدبية المحتفى بها وتلك التي تحارب بالإهمال.

ربما كان فوز الكاتبة العمانية جوخة الحارثي بجائزة مان بوكر عن روايتها "سيدات القمر" مثالاً صارخاً على بؤس الواقع. صدرت الرواية أولاً باللغة العربية، ولم تحظ لا بحفاوة نقدية ولا حتى بمستوى معقول من الاهتمام، ناهيك عن الجوائز التي تنثر يميناً وشمالاً في العالم العربي. ترجمت الرواية إلى الإنجليزية ورشحت إلى جائزة مان بوكر، ويا للمفاجأة: فازت بها.

الغريب أن النقاد والصحفيين الذين تجاهلوها حين صدرت بالعربية استيقظوا فجأة وبدأوا بالتصفيق وكَيل المديح لها، مما يعكس تعاملهم مع الأعمال الإبداعية: ركوب نجاحها واستثماره بدلاً من إضاءة قيمتها للمساهمة في هذا النجاح المستحق.

هناك معادلة معروفة ليحظى العمل الأدبي بالاهتمام النقدي: يجب أن يكون موضوعه سياسياً بالمفهوم المباشر، الضيق للكلمة، ويا حبذا لو كان متماهياً مع الخطاب السياسي الشعبوي السائد. وإذا كان مكتوباً بشكل جميل فقد ضمنت اهتماماً يفوق أحلامك. هذه المعادلة الفقيرة والضحلة تتسيّد مسرح الأدب في العالم العربي حالياً. يليها طبعاً الخطاب العاطفي الضحل الذي يحول العمل الأدبي إلى دراما رخيصة وبكاء على الحب الضائع وندب للحبيب المفقود.