كنز في قُنّ الدجاج

2020-08-03 15:00:00

كنز في قُنّ الدجاج
Howard Hodgkin - On the Edge of the Ocean

ذهبت مع الرجل مشياً على الأقدام إلى بيتهِ الكائن في أحد أزقّة البصرة القديمة، وقادني للبيتونة التي فوق سطح البيت، فإذا هي قُنّ دجاج، تفترش أرضيتها المئات من الكتب، يتقافز فوقها الدجاج ويبيض، فذهلتُ لما رأيتهُ. ومضيتُ إلى بيتنا وأخذت مجموعة من شنط السفر الكبيرة وعدتُ إلى منزل النجّار وملئتها بما تمكنتُ من حمله من الكتب، أنقلها إلى منزلي،

أواخر العام 1969 كنتُ في البصرة طالباً في الصف الرابع الثانوي، وكان لدي شغفٌ كبيرٌ باقتناء الكتبِ ومطالعتها. وكان شراء الكتب يشكّل لي همّاً كبيراً، فقد كان مصروفي اليوميّ الذي كنتُ أتقاضاهُ من والدي يتوزع بين أجور التنقل بالحافلة بين المدرسة والبيت، ويذهب جزء آخر منه لشراء سندويشة وزجاجة مشروبات غازيّة. وما يتبقى من المصروف ربما لا يكفي لشراء صحيفة أو مجلّة رخيصة الثمن. وفي أغلب الأوقات لم أكن أعود للبيت خالياً من تأبّط كتاب جديد، أسرق ثمنهُ من مصروفي القليل.

في أحد أيام ذلك العام بعد خروجي من المدرسة، وقفتُ أمام بائع صحف ومجلات عند منعطف أحد الأزقة المتفرعة من شارع "المغايز" في منطقة العشّار، أقلّب مجموعة من الكتب المستعملة التي كان يبيعها، صادف أن التقيتُ مع خالي وكان يعملُ نجاراً للموبيليا ولديه محلّ قريب من تلك المنطقة، وكان يعرف شغفي الكبير باقتناء الكتب. وبينما كنّا نتبادل الأحاديث، أخبرني عن صديق له نجّار أيضاً، لا يقرأ ولا يكتب، كان قد اشترى منذ فترة قريبة أثاثاً من عائلة عراقية مسيحيّة قررت الهجرة إلى أميركا بعد وفاة ربّ الأسرة، وكان من ضمن الذي اشتراه مكتبة خشبية كبيرة ملآى بالكتب، فصعقني هذا الخبر وأثار فضولي لمعرفة مصير تلك الكتب طالما أن صديقه النجّار لا يقرأ ولا يكتب. واتفقتُ معهُ أن نزور دكان صديقه لمشاهدتها.

بعد يومين ذهبتُ مع خالي لزيارة صديقه في دكانه، وهناك سألتهُ عن الكتب التي اشتراها مع أثاث تلك العائلة المهاجرة، فلم أجد لديه اهتماماً بها عندما أخبرني أنه أخذ المكتبة الخشبية للاستفادة من خشبها في أشغاله، وقام برمي الكتب في مخزن يقع فوق سطح منزلهِ، وهي غرفة صغيرة موجودة فوق سطوح الكثير من المنازل في العراق، نسميها "بيتونة"، تُستخدم لتخزين أغراض شتّى. فطلبتُ منه أن يأخذني إلى بيتهِ لرؤية تلك الكتب وشراء ما يناسبني منها، لكنّه رفض ما لم أقم بشرائها دفعة واحدة، وطلب مني مقابلها مبلغاً ثلاثة دنانير. مثل هذا المبلغ آنذاك كان يعادل ثروة صغيرة بالنسبة لطالب مدرسة، فمن أين آتي له بهذا الرقم الكبير؟ فكرتُ للحظات، ثم اتفقتُ مع خالي أن أغامر واشتري الكتب حتى قبل أن أراها. وقمتُ بتأمين دفعة أولى لهُ، مبلغ 750 فلساً من أصل قيمة الكتب دفعتها عربوناً، على أن أسدّد له لاحقاً، وبكفالة من خالي رصيد المبلغ خلال بضعة أيام.

ذهبت مع الرجل مشياً على الأقدام إلى بيتهِ الكائن في أحد أزقّة البصرة القديمة، وقادني للبيتونة التي فوق سطح البيت، فإذا هي قُنّ دجاج، تفترش أرضيتها المئات من الكتب، يتقافز فوقها الدجاج ويبيض، فذهلتُ لما رأيتهُ. ومضيتُ إلى بيتنا وأخذت مجموعة من شنط السفر الكبيرة وعدتُ إلى منزل النجّار وملئتها بما تمكنتُ من حمله من الكتب، أنقلها إلى منزلي، مرة وأخرى وأخرى. وتخليتُ عن مجموعة كبيرة منها لم أتمكن من نقلها بسبب تراكم طبقات من ذرق الدجاج فوقها.

كانت الكتب كنزاً ثميناً، باللغتين العربية والإنجليزية، وقليل منها باللغة الفرنسية. كان بعضها نادراً مطبوعاً في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين: كتب في التاريخ والحضارة وعلم الآثار والتطور والأدب بفنونه والفن والفلسفة. وكتب النوتات الموسيقية القديمة، والعشرات من مجلات المقتطف والهلال الصادرة في بداية ذلك القرن. كان هناك مؤلفات شبلي شميل، والبستاني، ويعقوب وفؤاد صروف، ويعقوب صنوع ومارون عبود وترجمات فليكس فارس، وجيمس هنري برستد، والطبعات الأولى من عيون الكتب العربية والأجنبية، ومنها الطبعة الأولى لكتاب في الشعر الجاهلي لطه حسين، وطبعات عربية قديمة من الكتاب المقدس ومسرحيات شكسبير وأشعار جيفري تشوسر وجون ميلتون وعشرات العناوين التي لا أتذكرها الآن. أما قيمتها، فكانت أضعافاً مضاعفة لما دفعته لذلك النجّار صاحب قُن الدجاج. وقمتُ ببيع مجموعات منها لم أكن أدرك وقتها قيمتها التاريخيّة بأثمان جيدة، وعملتُ على تجليد بعضها الآخر مع أعداد مجلة المقتطف لدى محلّ متخصص بتجليد وصيانة الكتب. وصار لدي مكتبة كبيرة وجديدة كنتُ أفتخرُ بما تضمه رفوفها من كتب ومراجع ثمينة لا يمكن الحصول عليها بسهولة.

في نهاية العام 1979 أي بعد عشر سنوات من ذلك التاريخ، ولأسباب قاهرة قمتُ ببيع مكتبتي لأقوم بمغادرة العراق، لكنني تركتُ المجموعات الثمينة منها في منزل العائلة على أمل أن أستردها يوماً ما فآخذها معي إلى حيث يستقرّ بي المقام. وبسبب الحروب العبثية التي خاضها العراق في فترة الثمانينات وما بعدها، واضطرار عائلتي للانتقال من مكان إلى آخر بسبب ظروف الحرب، ضاعت منهم كتبي الثمينة، وكانت وصلتني معلومات أنها بحوزة شخص أعرفه جيداً، سطا عليها أثناء انتقال عائلتي من مدينة البصرة إلى بغداد خلال فترة الحرب العراقية الإيرانية.

في العام 2004 زرتُ بغداد لأسباب تتعلق بالعمل، وشاءت الصدف أن ألتقي هذا الشخص في جلسة لنا ضمت إلى جانبنا أشخاصاً آخرين، ودارت بيننا أحاديث شتّى وحديث عن مجموعات قديمة ونادرة من الكتب وعملات أثريّة كان ينوي بيعها، وكنتُ قد نسيتُ تماماً أن كتبي التي سُرقت إنّما هي في حوزة هذا الشخص، فطلبتُ منه أن يأخذني لمشاهدة ما لديهِ، وذهبتُ معه إلى منزله، وهناك كنتُ وجهاً لوجه أمام مجموعات كتبي التي فقدتها وسرقت مني أثناء فترة الحرب. أصبتُ بالذهول وانتابتني حميمية وأنا أتلمّسُ أغلفة كتبي الضائعة، كنزي الثمين الذي كان في قُنّ الدجاج.