Da 5 Bloods لسبايك لي... استعادة لقضية السّود في فيتنام

2020-07-16 00:00:00

Da 5 Bloods لسبايك لي... استعادة لقضية السّود في فيتنام

تستمع المجموعة إلى المناشدة، فيتضح لهم حقيقة وضعهم وكيف يتم التضحية بحيواتهم، ومن ثم يأتي قرار عدم تسليم صندوق الذهب للقادة بل إرساله لجهات التحرير. لينساق الجميع بعد منتصف الفيلم تقريبا لطابع الدراما التليفزونية على مستوى الأداء والأحداث. 

في العاشر من ديسمبر/كانون الأول عام 1948 اجتمعت الجمعية العامة لحقوق الإنسان في باريس لإصدار وثيقة "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان" والتي اشترك في صياغتها ممثلون من كافة أنحاء العالم، وذلك لوضع معيار عام ينبغي على جميع الدول اتباعه في هذا الشأن. احتوت تلك الوثيقة على 30 مادة كانت المادتين (2،1) منها تنص علي أن: جميع الناس يولدون أحرارا متساوين في الكرامة والحقوق وقد وهبوا العقل والوجدان وعليهم أن يعاملوا بعضهم بعضا بروح الإخاء، وأن لجميع الناس التمتع بهذه الحقوق بلا تمييز بسبب العنصر أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الرأي السياسي أو أي رأي آخر ودون تفريق بين الرجال والنساء. 

من ضمن الدول المشاركة في صياغة بنود الوثيقة وإقرارها، الولايات المتحدة الأمريكية، إلا أن بعض سياساتها، سواء المتعاقبة علي الوثيقة أو السابقة لها؛ لم تتقبل هذه البنود ببساطة، وعملت على خرقها بشكل علني أو مُستتر في تعاملها مع الأمريكيين ذوي البشرة الداكنة. ربما كان أشهرها ما شهدته فترة الستينيات من تمييز عنصري ضد المواطنين السود. وكان آخر تطوراته، حين احتل وجه المواطن الأسود "جورج فلويد" البطولة ورأسه أسفل قدم أحد الضباط الأمريكيين "البيض" ثم موته في الخامس والعشرين من مايو/آيار الماضي الذي تسبب في أحداث شغب ومظاهرات هزت أمريكا خلال الفترة الماضية.

في فيلمه الأخير، يفتح المخرج الأمريكي سبايك لي صفحات خاصة من كتاب العبودية، تروي سيرة الهم الواحد لبني جنسه، تحت عنوان "Da 5 Bloods" أو "أخوة الدم الخمسة" المعروض منذ أيام على منصة نتيفلكس وكان من المقرر أن يكون فيلم الافتتاح في الدورة 73 في الثاني عشر من شهر مايو/أيار لمهرجان كان الذي تم إلغاؤه كغيره بسبب جائحة كورونا. 

تبلغ حصيلة السيناريست الأمريكي كيفين ويلموت خمسة أفلام، اثنان منها إخراج وإنتاج سبايك والثلاثة الباقية أخرجها ويلموت بنفسه. لم تخرج أجواء الأفلام جميعها عن عوالم ذوي البشرة السوداء. يشترك ويلموت مع سبايك لي للمرة الثالثة في كتابة سيناريو الفيلم الجديد ومعهما داني بيلسون وبول ديميو. أحدثت هذه التنويعة تماسكا دراميا في السيناريو وحافظت على إيقاع السرد، بين مستويات مختلفة لمفاجأة المُشاهد أو السير وفق توقعاته. 

يحكي الفيلم عن مجموعة من المحاربين الأمريكيين القدامى -من ذوي البشرة السوداء- يجتمعون في فيتنام بعد أن شاركوا في الحرب في السبعينيات لإستعادة صندوق ضخم من الذهب قاموا بدفنه في أحد المعارك القديمة عقب سقوط طائرة للجيش الفيتنامي كانت تحمل الذهب، إلى جانب البحث عن رفات صديقهم الخامس صاحب فكرة دفن الذهب بغرض تهريبه لمساعدة الحركات المُدافعة عن قضايا السود في أمريكا، ولكن القدر لم يمهله لتحقيق حلمه، إذ يموت ويعود الأربعة عقب انتهاء الحرب، ثم يقررون الرجوع بعد ذلك بسنوات. 

الضمير الأسود

ثمة شعرة فاصلة في أفلام سبايك بين النخبوية والجماهيرية، فهو لا يلجأ إلى استعراضات إخراجية أو تراكيب معقدة، بل يسير وفق منهجية الحبكة المعتادة، السهلة لدى المشاهد، وربما لولا قضايا العنصرية المطروحة في أفلامه وتطعيمها بالأفكار لاستقبلت بشكل مغاير.  

الفكرة الأساسية للأحداث تتمثل في عودة المجموعة بعد ما يقرب من 45 عاما لإنجاز مهمتهم المزدوجة، مع عدم وجود تفسير منطقي لانتظارهم كل هذه السنوات، اللهم رغبة المخرج في استدعاء هذه الفترة تحديدا وربطها بمجريات الأحداث الراهنة، فمن الطبيعي أن تتم هذه الرحلة بعد فترة وجيزة، لا بعد نصف قرن من الزمن، حتى لا يتم فقد الكنز نفسه ورفات الصديق أيضا. ومن ثم ضياع مبغى التمتع بهذا الكنز أو تنفيذ وصية "نورمان" في إيصاله إلى مستحقيه، وهي بعض الثغرات التي شابت السيناريو بداية من الحبكة الرئيسية ومرورا بعدم المنطقية أحيانا ثم السير النمطي في الأحداث والنهايات السعيدة في معالجة القصة. 

استخدم السيناريو تيمة "بندول" الساعة في توالي المشاهد، "فلاش باك" لاستدعاء الماضي ثم القفز إلى الحاضر. جاءت كل المشاهد الاسترجاعية للأبطال بأعمارهم الحالية في الزي العسكري القديم دون مكياج للإيحاء بفترة الشباب، فيما عدا "نورمان" صديقهم القديم الشهيد الذي كانوا يلقبونه بالمندفع، وهو صورة مثالية للإيمان بالقضية التي ربما لم تعد تعنيهم الآن؛ فهؤلاء ليسوا المجموعة المحاربة القديمة نفسها، ثمة تغيير جذري في شخصياتهم أخفت حماسهم تجاه القضية ومكانتها في قلوبهم، بينما صديقهم الخامس ثبتت القضية معه بموته ليس إلا.

لا يخلو فيلم لسبايك من الممثلين الرئيسيين السود أو مشاكل التمييز العرقية في العموم التي يتتبعها عبر مسيرته، لذلك قام بإنشاء شركة الإنتاج الخاصة 40 Acres and a Mule Film works -أنتجت معظم أفلامه- في فيلمه هذا، يؤكد بالمشاهد الوثائقية الأولى على عمق مشكلة السود وامتدادها التاريخي، وبأن ما يقدمه ليس سوى شهادة مقتطعة من تاريخ طويل، وقد اختار مشهد البداية للملاكم العالمي محمد علي في لقاء معه سنة 1978 وهو يقول "لا يسمح لي ضميري بأن أطلق النار علي أخي" ثم يتحدث عن من يتعاملون معه كزنجي، لينتقل إلى صور ثابتة أو مشاهد أرشيفية من حرب فيتنام ويتتبع الانتقال الزمني الوثائقي فيقفز سنوات عن فترة السبعينيات أو يعود إلى ما يسبقها بسنوات أخرى، طارحًا من هذا الكولاج البصري عدة انكسارات وانتصارات للسود علي مدار فترات مختلفة؛ للتأكيد على أن إشكالية "الزنجي" ليست وليدة اليوم وليس لها من بداية معروفة، كأنها القدرية التي يعيشها كل أبناء البشرة السوداء مهما اختلفت الأزمان.

يتخذ المخرج زيادة ونقصان حجم إطار الشاشة وسيطا للانتقال بين الحاضر والماضي، فمع كل فلاش باك يتقلص الإطار قليلا، وينفرج مجددا بالعودة إلى الزمن الراهن، وعلى الرغم من كونها طريقة كلاسيكية، فقد عملت في صالح الحالة الاسترجاعية للشخصيات أو الرواي عبر أحداث الفيلم، كأنها النظارة الطبية التي يرون من خلالها ما حدث منذ نصف قرن. ينطبق نفس الشيء على الراوي -المخرج- فيما يخص التقدم في العمر، فكان لا بد من تحديد بؤرة التداعي لنبش الماضي بتفاصيله المتشابكة.  

تراجيديا القهر 

هناك عدة مراحل نفسية للوصول بالإنسان إلى درجة الشعور بالقهر، تبدأ بالإحساس بالنقص والعار من وضعه المُهمش أو الدنيء وسط الآخرين، وتُشكل الطفولة بيئة خصبة لتنمية هذا الشعور، التي تنتهي بمرحلة التمرد والمواجهة. ويبقى فرق هام في طرح هذه الإشكالية بعين الموضوعية أو عين المنهج التراجيدي؛ إذ يرى أرسطو في سير الأحداث أن التغير من الجيد إلى السيء هو الأفضل لأن هذا يؤدي إلى إثارة الشفقة والخوف لدى المتفرج، وهو ما اتبعه الفيلم في المجمل. 

فنحن أمام مجموعة من المحاربين، أصحاب القضية، في آخر العمر بعد موجات من التبدل والانكسار، علي جانب أخر يأتي الدافع الرئيسي لرحلتهم وهو الذهب، أما استعادة رفات الصديق القديم، تبقى على هامش الرحلة. غير أن المخرج يترك بابا مواربا للأمل بشكل رومانسي حتى لا ينفي البطولة عن أبطاله نهائيا، أو يجعلها حدثا في الماضي فقط، حين يربط بين موقفهم قديما في الحرب، وما يحدث الآن، وهم يفخرون بأنهم لم ينتخبوا "ترامب" لرئاسة أمريكا، الرئيس المتهرب من الخدمة العسكرية، كما ورد في حوارهم. 

لم يوفق المخرج في مساحات كثيرة اتسمت بـ "الصوت الزاعق" عبر جمل ومونولوجات تُرسخ لقضية العنصرية وتجذرها التاريخي تحت مفهوم العبودية، لاسيما في التحول الشعوري للفرقة وهم في أرض المعركة عند سماع خطاب الإذاعة الفيتنامية الموجه للمقاتلين السود من الأمريكان بعد اشتعال أمريكا إثر حادث اغتيال المناضل "مارتن لوثر كينغ" رائد المطالبين بإنهاء التمييز العنصري ضد السود والحاصل على نوبل في السلام عام 1964، فحين يستمعون إلى الخطاب الإذاعي الذي يسألهم "هل من العدل أن يرسلونكم للموت"، بما أن نسبتهم من المجتمع الأمريكي لا تتعدي 11%، بينما هنا علي أرض المعركة يمثلون 32% من قوة الجيش، "ليس هناك أربك من أن يموت الإنسان في حرب ليست له فيها ناقة ولا جمل!".

تستمع المجموعة إلى المناشدة، فيتضح لهم حقيقة وضعهم وكيف يتم التضحية بحيواتهم، ومن ثم يأتي قرار عدم تسليم صندوق الذهب للقادة بل إرساله لجهات التحرير. لينساق الجميع بعد منتصف الفيلم تقريبا لطابع الدراما التليفزونية على مستوى الأداء والأحداث. 

فخ الإيقاع

برع مدير التصوير، نيوتن توماس سيجل، في الفصل بين الأزمنة المختلفة بتناسق بصري يلائم كل فترة، فضلا عن حركة الكاميرا السلسة وسط طبيعة أماكن التصوير الجبلية، والمؤثرات والخدع السينمائية وما نجم عنها من إبهار بصري، بالإضافة إلى الاكسسوار والإضاءة.

كاد الإيقاع في بعض الفصول الزمنية للفيلم الذي تتجاوز مدته الساعتين "155 د" أن يفلت من يد مخرجه، إما بالإطالة في بعض المشاهد، أو المط في الحوار الدائر بين الأصدقاء، والتمادي في استدرار تعاطف المشاهد، أو التأكيد المباشر على طرح قضية العنصرية عبر تاريخها الطويل. إلى جانب مساحات من الافتعال في أداء معظم الممثلين وعلى رأسهم بطل الفيلم الممثل البريطاني "ديلروى ليندو" الذي شابه الكثير من القصدية والمباشرة، غير أن تلك الهنات وغيرها لم تؤثر في العموم على الانطباع النهائي في مجمله.