وزارةُ منعِ الثقافة الفلسطينية

2020-06-08 20:00:00

وزارةُ منعِ الثقافة الفلسطينية

هنالك نقاط محزنة في هذه القصّة التي ما كان يجب أن تصل إلى ما وصلت إليه، وياليت هذه الوزارة التهت بنشر ڤيديوهات لفرقة الفتافيت ودحّية عريس الزين وتركت السينما لأهلها. هنالك نقاط لا يجب أن تبقى عالقة، ويتوجّب على الوزارة أن ترتقي قليلاً لتطالها وتدركها:

قد يعتقد أحدنا أن المنع إن أتى من جهة حكومية -منع فيلم مثلاً وهو موضوعنا هنا- يكون دائماً لأسباب تتعلق بفهم وإدراك الجهة المانعة للفيلم، فتمنعه لتناقضه مع سياستها في شأن ما، مصرّحةً بحجّة هي غالباً "وهن عزيمة الأمّة"، ولهذه حالات عدّة في الدكتاتوريات العربية، وهذ دكتاتوريات لها دولتها العميقة وسلطتها القامعة ضمن حدود الدولة. أمّا فلسطينياً، فالسلطة الحاكمة بأمر الاحتلال والمغلوب على أمرها، ماتزال ذلك القزم الطموح للتمثّل بالدكتاتور العملاق في الجوار (شمالاً وجنوباً) وهذا ينعكس على ممارسات متفاوتة في مجالاتها ومستوياتها، لدى هذه السلطة ووزاراتها، قد يكون آخرها المنعُ الذي طال فيلم آن ماري جاسر «حي»، وهو -بما يمكن أن يتوقّعه أحدنا من هذه الوزارة في فترتها الأخيرة، وبتوافق مع رغبة عارمة لقزمٍ طموح- هو منعٌ لم يأتِ لإدراك هذه الوزارة للفيلم، الذي قد يوهن عزيمة الفلسطينيين، منعٌ لم يرتق إلى فهمِ ما يُمنَع، ولو للفضول، ولو للتمثّل -بشكل أكثر احترافية على الأقل- بدكتاتورية تمنع فيلماً لأنّها فهمت تناقض محتواه مع سياستها. وزارتنا الفلسطينية لم تحتَج، كي تمنع فيلماً، لأن تفهمه.

أتى «حي» ضمن مجموعة أفلام قصيرة نظّمت لها "فيلم لاب: فلسطين"، وكان لا بد من موافقة وزارة الثقافة الفلسطينية على عرضه كونه مبنياً على لقطات من ڤيديوهات البث المباشر على الصفحة الرسمية للوزارة على فيسبوك.

أرسلت مخرجة الفيلم بتاريخ ١٦ أيار رسالة إلى الوزير تقول فيها "لفتت انتباھي بعض اللحظات الطبیعیة والإنسانیة. لحظات ما قبل البدء بالحوار، أحیاناً تتضمن مشاكل تقنیة وأحیاناً أخرى تشمل ترتیبات أخیرة للمظھر، الصوت والھیئة. ألھمتني ھذه اللقطات لإعداد فیلم قصیر یرى الجوانب الإنسانیة على الرغم من القفزات التكنولوجیة الجافة..."، أرسلتها تطلب فيها موافقة على استعمال تلك اللقطات في الفيلم. رسالة ثانية أرسلتها بعدما لم تستلم إجابة، وكانت بتاريخ ٢٦ أيار، تضيف فيها على الأولى عبارات مثل "لقد تواصلنا مع كافة الفنانین وأخذنا بعین الاعتبار كافة ملاحظاتھم على الفیلم وقمنا بتعدیلها حتى تمت الموافقة الكاملة من جمیع الفنانین" مكررةً طلبها، دون أي إجابة من الوزارة.

ردّت الوزارة لاحقاً -وياليتها لم ترد- وكانت ردودها مثالاً جيّداً على نظرة وزارةٍ كهذه إلى صلاحياتها المحدودة، صلاحيات آخرها كما أظهرتها صفحتها على فيسبوك: "إعلان تمديد استقبال المشاركات" لمسابقة ما، ڤيديو كليب لـ "فرقة الفتافيت الفنية"، وكليب آخر لـ "دحيّة عريس الزين"، ولا ننسى بيان النعوة الذي أصدرته لرحيل الراقص أيمن صفية الذي منعت الوزارة قبل فترة عرضاً لـ "فرقة الأمل" صمّم هو الرقصات له، بسبب "ملابس أفرادها التي لا تناسب الذوق العام". هذه إذن صلاحيات وإنجازات الوزارة الأخيرة ومستوى همومها، وهو ما يشي بما يمكن أن تكون عليه الفنون والثقافة الفلسطينية بالنسبة لها، بإدراكها المحدود بهذه الصلاحية.

هذا الإدراك القاصر للوزارة، المحدود مضموناً والمتمثّل الأعرج بالدكتاتوريات شكلاً، يزيد الحزنَ حيرةً لدى العاملين والمعنيين بالثقافة الفلسطينية، فأن تمنع وزارة فيلماً لإدراكها الواعي له، وقرارها بأنّه لا يناسب سياستها القمعية بكل الأحوال، أهوَن على صانع الفيلم من المنع الآتي كممارسة بهلوانية فارغة منتشية بهذا الفراغ، تكون، بالضرورة وهي كذلك، لانعدام هذا الإدراك فيتمّ المنع، كصاحبنا الذي تحكيه فلا يفهمك فيشتمك تحسُّباً.

كان لي حديث مع مخرجة فيلم «حي» آن ماري جاسر وآخر مع مدير "فيلم لاب" حنا عطالله الذي قصّ عليّ ما حدث.

أكّدت آن ماري أنّ جميع الفنانين المشاركين في الفيلم، قد وافقوا على الظهور فيه، بعد مشاهدة النسخة الأولى منه، والموافقات هذه نصّية أو صوتية، موجودة لديها، وكان كلامها معهم واضحاً بأن الفيلم تجريبيٌ وهو ليس عنهم أو عن نتاجهم الفنّي، وهو بكل الأحوال بخمس دقائق وموضوعه حالة الحجر الصحي في فلسطين، كما كان هذا الكلام واضحاً للوزارة والدوائر المعنية فيها، والتي عند رفضها للفيلم، اقترحت -وياليتها اكتفت برفضه- بأن يكون الفيلم عن شيء آخر، عن البرنامج نفسه مثلاً. واقتراح كهذا يكون من إبداعاتِ قُصَّر يظنّون أن الدكتاتوريات تقترح بدائل إن رفضت فيلماً ما.

بعدها بدأت تصل إلى المخرجة مسجاتٌ من بعض الفنانين تقول إنّ الوزارة تواصلت معهم وإنّهم ينسحبون من الفيلم. ما بقي سؤالاً معلّقاً لدى آن ماري حينها، هو لمَ عادت الوزارة إلى الفنانين إن كانت المخرجة قد أوضحت لها أنّ موافقاتهم معها؟ وما الحديث الذي دار بين الوزارة وبينهم ليعودوا بعدها ويخبروها برفضهم الظهور في الفيلم؟

قصّ عليّ حنّا عطالله ما حصل:

عندما قرب موعد خروج هذه الأفلام، أخبرته آن ماري أن الوزارة لم تَرد بعد على رسالتيها، فحاول السؤال عن ذلك ضمن القنوات الرسمية، تواصل مع مديرة دائرة السينما في الوزارة، ومدير عام الفنون هناك، للسؤال عن الموضوع، فوصله توضيح بأن الوزارة لم توافق على الفيلم بنسخته الأولى، فأرسل لهم النسخة النهائية منه، فوصلت إلى الوزير الذي "رأى" أنّ «حي» ليس فيلماً، لا حوار فيه ولا سيناريو، وهو يسيء إلى البرنامج الذي أُخذت منه اللقطات، مستنكراً ترك البرنامج "العظيم"، وأخذ لقطات الأخطاء التقنية وحسب، فرفضه.

بعدما أوضح له حنا أنه لا هو ولا آن ماري يتقصّدان التهكّم على الوزارة، وإن كان هذا الهدف من الفيلم لما طُلبت الموافقة عليه أساساً، وأنّ الفيلم تجريبي... أصرّ الوزير على رفض النّقاش في الفيلم وحوّل الموضوع إلى دائرتَي السينما والفنون، فنقلا بعدها طلب الوزير إضافة جملة إلى الفيلم، فأخبرهما حنا بأنه وآن ماري ينتظران الجملة، وإن كانت هي التي ستُفرج عن الفيلم، فليَكن. علماً أن المخرجة قد قدّمت الفيلم للوزارة بالجملة التالية: "لقطات إنسانية مأخوذة من البث المباشر لسلسلة لقاءات نظمتها وزارة الثقافة الفلسطينية مع فنانين وأدباء فلسطينيين من مواقع تواجدهم في الوطن والشتات، ضمن برنامج طلات ثقافية، حيث وجد الفنان والكاتب ذاته على منصة غير مألوفة. الوضع الذي فرضه واقع وباء كوفيد 19 (كورونا)."

لم يأت الرد ولم يردّ الوزير على الاتصالات. بعدها وصل إلى حنّا رفض الوزير لعرض الفيلم لأنّه برأيه فيلم مهين للوزارة ولأنّ هنالك من الفنانين المشاركين في الفيلم من يرفضون ظهورهم فيه.

إذن، لم تَرد الوزارة على رسالتَي آن ماري، ولم تمنح المخرجةَ الجملةَ التي كان يمكن أن يُعرض الفيلم بها، وأصدرت أخيراً بياناً على فيسبوك، هو أقرب إلى مزحة سمجة منه إلى بيان وزارة ثقافة.

نقرأ في عنوان البيان "لا يوجد فيلم ممنوع"، وهذا يعني أن الوزارة لم تعترف بـ «حي» لآن ماري جاسر كفيلم، فمنعتْه، فيكون على المانع خوض نقاش سينمائي مع كل من حنّا وآن ماري، يخبرهم فيه كيف يجب أن يكون الفيلم. فما مُنع ليس بالنسبة للوزارة فيلماً.

في متن البيان نقرأ ما يوضّح ذلك، فـ "حسب علم الوزارة لا يوجد فيلم من الأساس، فكل ما تمّ إرساله للوزارة وللكتّاب لقطات تم اجتزاؤها من بث برنامج طلّات" وهذا يثبّت في أذهاننا الاحتمال الأشدّ فداحة وإثارة للسخرية والشفقة معاً، فوزارة الثقافة الفلسطينية في حالة إنكار تام للثقافة الفلسطينية، والفيلم المبني بالمونتاج على لقطات ليس فيلماً عندها بل لقطات، وهي كذلك في حالة قصور إدراكٍ تام لأحد نتاجات هذه الثقافة، ولما يمكن أن تكونه السينما عموماً. ما الذي ستجده الوزارة في أفلام -لنقُل- جان لوك غودار الطليعية في تجريبيتها، وهو السينمائي الفرنسي الأشد إخلاصاً للقضية الفلسطينية؟ هل ستقول له: "ما هذا؟ لا يوجد فيلم من الأساس يا جان لوك"؟

هنالك نقاط محزنة في هذه القصّة التي ما كان يجب أن تصل إلى ما وصلت إليه، وياليت هذه الوزارة التهت بنشر ڤيديوهات لفرقة الفتافيت ودحّية عريس الزين وتركت السينما لأهلها. هنالك نقاط لا يجب أن تبقى عالقة، ويتوجّب على الوزارة أن ترتقي قليلاً لتطالها وتدركها:

  • ليست الوزارة هي التي تحدد ما هو الفيلم وما هي السينما.
  • لا يحق للوزارة التدخل لا في مضمون ولا شكل أي عمل فني.
  • أي عمل فنّي لم تفهمه الوزارة أو لم يعجبها، لا يحق لها منعه، ولتستر على نفسها وتترك الحكم للمشاهدين.
  • لا يحق للوزارة أن تقرّر عن أحد ما يشاهده، فكيف لو كانت الوزارة قاصرة والمشاهد راشد.
  • لا يمكن للوزارة أن تقترح على مخرجة الفيلم أن تنجز فيلماً آخر عن البرنامج. ليس على كل فيلم أن يكون دعاية لوزارة بروباغاندا فاشلة.
  • على الوزارة أن تشتغل أكثر على حس الفكاهة لديها (هذه نقطة محوريّة).
  • أن يُبنى فيلم «حي» على الأخطاء التقنية لمحادثات البث المباشر، لا يعني أن مخرجته أرادت أن تهزّ صورة الفلسطيني في العالم.
  • وبالمناسبة، كل اللقطات التي في الفيلم موجودة على صفحة الوزارة على فيسبوك ضمن تسجيلات هذه المحادثات.
  • أخيراً، التمثّل بالدكتاتوريات، تاريخاً وراهناً، يكون هزلياً ومثيراً للشفقة والسخرية لدى وزارة أو حكومة بقامة ما لدينا. فإن كان هنالك ما يسيئ للثقافة الفلسطينية فهو وجود هذه الوزارة.