بالنسبة للماركسيين الحقيقيين في هذا الجزء من العالم، كما في أي مكان آخر عندما يتطلب الأمر عقد تحالفات مع قوى ذات توجّهات أيديولوجية وبرامج مُناقِضَة لتوجّهاتهم وبرامجهم على أكثر من صعيد، فإنّ المبادئ الذهبية الخمسة التي صاغها المناضل الثوري الروسي ألكسندر بارفوس سنة 1905 والتي استشهدتُ بها مراراً عديدة، تبقى أساسية:
هذا هو الجزء الثاني. لقراءة الجزء الأول...
في هذا العدد من مجلة "أكتويل ماركس"، جرى مراراً الحديث عن "لاهوت التحرير" والتحالف بين قسم من الكاثوليكيين والحركة العمّالية (بالمعنى العريض للكلمة). لم تحدث حركة مشابهة في الإسلام. كيف تفسّر ذلك، وما هي النتائج التي تستخلصها لمستقبل سياسي محتمل في البلدان ذات أغلبية مسلمة؟
هذا ما أردتُ تفسيره في كتابي عن الدين الذي سبق ذكره، وذلك من خلال استخدام فكرة فيبر عن "التجاذبات الاختيارية"، وهو مصطلح استعاره فيبر من غوته. فكما توجد مثل هذه التجاذبات بين أسطورة، أو حقيقة، أصول المسيحية وبين الشيوعية – أنظر كيف سعتْ روزا لوكسمبورغ للمعادلة بين المسيحية الأصلية والشيوعية في دراستها عام 1905 عن "الكنيسة والاشتراكية" – توجد كذلك تجاذبات بين أسطورة، أو حقيقة، صدر الإسلام وبين الأصولية الإسلامية المعاصرة. وثمة فرق هام بين الحالتين هو أنّ الديانة المحافظة الرسمية في الحالة المسيحية تعارض بشدّة القراءة الشيوعية، بينما الديانة المحافظة الرسمية في حالة الإسلام، بانتمائها إلى قطعية نصّية، تشجّع القراءة الأصولية. ومما يزيد في الأمر أنّ الإسلام المحافظ غدا خاضعاً لسيطرة إسلام متشدّد روّجت له دولتان أصوليتان: المملكة السعودية في الإسلام السنّي والجمهورية الخمينية في الإسلام الشيعي، دولتان تتمتّعان بريع نفطي كبير.
سمحت الشروط آنفة الذكر لقسم كبير من الاحتجاج السياسي والاجتماعي في المجتمعات المسيحية، لاسيما في بلدان أمريكا الجنوبية الخاضعة لسيطرة إمبريالية الشمال، أن يندرج منذ الستينات في القراءة الشيوعية للمسيحية التي استند إليها "لاهوت التحرير"، في أغلب الأحيان ضد كنيسة رسمية حليفة للدكتاتوريات وللإمبريالية. أما في المجتمعات الإسلامية، فقد لعبت القراءة الأصولية دوراً معاكساً بسيرها على نهج غارق في الرجعية. وإنه لأمرٌ بالغ الدلالة أن العام 1979 ذاته شهد في نيكاراكوا ثورة بمنحى اشتراكي بمشاركة مسيحية يسارية مهمة، وفي إيران ثورة بمنحى أصولي رجعي بقيادة رجال الدين.
إن مناضلات ومناضلي اليسار الذين أخطأوا فهم معنى الثورة الإيرانية دفعوا ثمناً غالياً: سحقتهم بعنف السلطة الجديدة ذاتها التي ساهموا في ولادتها. هذا يشمل اليسار الإسلامي الذي مثّلته أكبر الحركات الإسلامية التي يجوز تشبيهها بـلاهوت التحرير المسيحي: "منظمة مجاهدي الشعب الإيراني" التي استوحت من الفكر الشيعي اليساري الذي بلوره عليّ شريعتي. كانوا من الأوائل الذين تمّ سحقهم، وقد استهدفهم على الفور رأس حربة الرجعية الخمينية، "حزب الله" الإيراني. بيد أن "منظمة مجاهدي الشعب" انحطّت لاحقاً في المنفى.
تُظهر التجربة الإيرانية، من جهة، أنّ مُرادفاً تقريبياً لظاهرة "لاهوت التحرّر" ممكنٌ في الإسلام، بل إنّه ظهر في الحالة التي ذكرتها تواً. ويمكن أن نضيف إليها تجارب أقل شأناً في دائرة الإسلام السنّي، أحدثها تجربة "المسلمين المناهضين للرأسمالية" في تركيا، الذين جذبوا الانتباه إليهم عندما شاركوا في حراك "منتزه غيزي" ضد حكومة أردوغان الإسلامية المحافظة في عام 2013. وتُظهر التجربة الإيرانية، من جهة أخرى، أنّه لمن الوهم أن نتوقّع أنّ تبلغ حركات من هذا النوع أحجاماً جماهيرية كالتي بلغتها بسرعة "جماعة الإخوان المسلمين" الأصولية في مصر على سبيل المثال. هذا من الوهم لأنّ تلك الحركات تسبح ضد تيار الإسلام المحافظ القوي، وتقترح تفسيراً للإسلام ليس بينه وبين عصر الإسلام الأول سوى تجاذبات قليلة، ويفتقر بالتالي إلى المصداقية في محاولته إعادة تفسير هذا التراث.
في الحقيقة، يجب ألّا يراهن اليسار كثيراً على ظهور مرادف إسلامي للاهوت التحرير بإسقاط الحالة المسيحية على الإسلام. فلن يكون اليسار في السياق الإسلامي "لاهوتياً" سوى بصورة هامشية جداً، وذلك للسبب الذي شرحتُه. سيكون اليسار علمانياً بصورة أساسية، بمعنى أنه لن يكون لرجال الدين دورٌ أساسي في صفوفه. نجد بكلام آخر أن اليسار في البلاد ذات غالبية مسلمة، عوضاً عن تيارات دينية يسارية، ضمّ تيارات يسارية علمانية شهرت إيمانها وارتباطها بالإسلام كجزء هام من هويتها، حتى أنّها كانت مهيمنة إلى حدّ بعيد ضمن هذا اليسار. أهمّ مثال هو الناصرية، وقد جسّد جمال عبد الناصر التجذّر اليساري في المجالين العربي والإسلامي خلال الستّينات أكثر من أي زعيم آخر. جسّد ذلك التجذّر على نمط دكتاتوري، بالتأكيد، لكنّه نمط استلهم نموذج "الاشتراكية القائمة بالفعل" الذي مثّله الاتحاد السوفييتي في الستّينات عندما كان خروتشوف يستطيع أن يعد بالقضاء على الرأسمالية العالمية دون أن يكون كلامه مدعاة للسخرية.
هذا وقد رأينا في عام 2012، في سياق "الربيع العربي"، أهمية الجاذبية التي يحوز عليها في مصر اليوم الحنين إلى ما يمكن تسميته "ناصرية ذات وجه إنساني"، ناصرية ديمقراطية، كما مثّلها في الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية المرشّح الناصري اليساري حمدين صبّاحي. كان هو المفاجأة الكبرى في تلك الجولة، بما يشبه نوعاً ما صعود بيرني ساندرز في معركة الانتخابات الرئاسية الأمريكية في عام 2016. حصل صبّاحي على أكبر عدد من الأصوات في أكبر تركّزين مدينيين في مصر، القاهرة والإسكندرية، وعلى أكثر من 20 بالمائة من مجموع الأصوات في عموم مصر بفارق بسيط عن مرشحيّ النظام السابق والإخوان المسلمين. إنّ تيارات علمانية من هذا الطراز هي التي ستتمكّن من جذب جماهير غفيرة من المؤمنين إلى اليسار عوضاً عن تيارات دينية.
هذه التيارات العلمانية اليسارية ترفض إلحاد الماركسيين، لكنّها تستلهم تحليلاتهم، بما يشبه شيئاً ما أنصار "لاهوت التحرير": قادتها مؤمنون يمارسون الشعائر الدينية، بل يتعمّدون أحياناً لفت النظر إلى ممارستهم، لكنّ علاقتهم بالله لا تمرّ عبر زعامة دينية (وهذا أسهل في الإسلام السنّي منه في الإسلام الشيعي، لأنّ هذا الأخير أكثر كهنوتية، أشبه بالكاثوليكية منه بالبروتستانتية). ويضعون الله إلى جانبهم بوصفهم أولئك الذين يتحجّجون بالله لأغراض رجعية بالمنافقين. في ذروة شعبية الناصرية التي رافقت قمّة تجذّرها، بدا "الإخوان المسلمون" على حقيقتهم آنذاك كأعوان للمملكة السعودية ولوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، وكانوا مهمّشين فاقدي الاعتبار في عموم المنطقة. ولم يتردّد عبد الناصر في وصف الحكام السعوديين بأنّهم يخونون الإسلام، لاسيما باتّهامهم بأنهم أعداء الفقراء. وقد ناصرته الأكثريات الشعبية دون أن يحتاج للدخول في محاجات فقهية للحصول على تأييدها: إنه مثالٌ جيّد عن المقولة اللاتينية القائلة إن "صوت الشعب هو صوت الله".
ليتك تقول المزيد عن الوضع المصري: هل يستشهد الناصريون اليساريون بماركس؟ وفضلاً عن ورثة الناصرية اليساريين في الحالة المصرية، ليتك تحدثنا عن أمثلة أخرى لقوى يسارية منحدرة عن حركات ماركسية في المنطقة ذاتها. في بالي بشكل خاص الحزب الشيوعي العراقي الذي يحوز على قاعدة واسعة إلى حدٍ ما، والذي فاز مؤخراً بالانتخابات التشريعية في إطار ائتلاف.
اليوم كما بالأمس، ليست الناصرية اليسارية مضادة للماركسية ولو لم تستشهد بماركس مرجعاً من مراجعها. عندما تجذّر النظام الناصري في الستّينات، أدخل إلى حزبه الحاكم، بل حتى إلى "التنظيم الطليعي" داخل ذلك الحزب، العديد من الماركسيين المنحدرين من الحركة الشيوعية المصرية. فقد بلغ تأثّر الناصرية الأيديولوجي بالماركسية حدّاً جعل جماعات بأكملها من الحركة الناصرية في المنطقة العربية تتحوّل إلى "الماركسية اللينينية" بدءاً من منتصف الستّينات، وبالأخص بعد الهزيمة التي ألحقتها إسرائيل بمصر الناصرية في حرب الأيام الستة في حزيران 1967. تلك كانت بوجه خاص حال المنظّمات التي كانت تمارس الكفاح المسلّح، مثل "الجبهة القومية للتحرير" في جنوب اليمن أو "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين". وهذا التأثير حصل أيضاً داخل "جبهة التحرير الوطني" الجزائرية، خاصة في الفترة التي سبقت إسقاط أحمد بن بلّة في عام 1965 من قِبَل الجناح العسكري الذي قاده هواري بو مدين.
في المقابل، رأينا أحزاباً شيوعية في بلدان ناطقة بالعربية، كالمغرب أو السودان، تقوم بمساومات مع الدين الإسلامي إلى حدّ أن الحزب الشيوعي السوداني لم يتردّد في استهلال مهرجاناته الجماهيرية بتلاوة القرآن. إنها ممارسة محفوفة بالخطر، لكن عندما يتعلق الأمر بحزب جماهيري كبير مثلما كان الحزب السوداني، أحد أكبر حزبين شيوعيين في المنطقة مع نظيره العراقي، يمكن أن نرى في مجازفته سعياً وراء تحقيق مقولة "صوت الشعب هو صوت الله". لكن في نهاية المطاف، الشيوعيون هم دائماً الطرف الخاسر في هذه اللعبة: بجمعهم بين الدين والسياسة، يلعبون في ملعب أعدائهم الدينيين والأصوليين الذين يبدون أكثر شرعية منهم في ذلك المجال.
شكّل الأصوليون المسلمون السند الأيديولوجي الرئيسي لسحق الشيوعيين السودانيين إثر الانقلاب الذي قاده عمر البشير عام 1989. وقد تمّ سابقاً توظيف الأصولية الإسلامية خلال الثمانينات كمصدر تشريع أيديولوجي من قِبَل دكتاتورية النميري التي سحقت الشيوعيين السودانيين مرةً أولى سنة 1971. وقد قام الأصوليون وغيرهم من الحركات الإسلامية بدور حاسم عامي 1965 و1966 في حملة التصفية الرهيبة التي تعرّض لها الحزب الشيوعي الإندونيسي، أكبر حزب شيوعي في العالم في ذلك الوقت بعد حزبيّ الإتحاد السوفييتي والصين، الذي كان هو أيضاً يجمع بين الدين والسياسة. أما الحكمة من كل ذلك فهي أنه من غير المجدي للماركسيين الدخول في منافسة مع الأصوليين وسواهم من الرجعيين الإسلاميين في مجال الفقه الديني. بل ينبغي أن يدافعوا بقوة عن فصل الدين عن الدولة مع فضحهم لأي شكل من أشكال استغلال المعتقدات الدينية لأغراض رجعية، ويدَعوا حلفاءهم من المسلمين التقدّميين يتولّون مكافحة الرجعية الدينية في مناظرات أيدولوجية لهم فيها مصداقية أكبر.
أما بخصوص الحزب الشيوعي العراقي، فلم يَعُد سوى شبح ما كان عليه في ذروة نفوذه في نهاية الخمسينات. فبعد أن تعاون مع الدكتاتورية البعثية في السبعينات، اضطرّ أعضاؤه الذين فلتوا من الاعتقال والقتل إلى ترك العراق طلباً للجوء سياسي في الخارج بدءاً من نهاية العقد. وقد عادوا إلى العراق بعد إطاحة الولايات المتّحدة بصدّام حسين، لكنّ الحزب تعاون مع سلطات الاحتلال هذه المرّة. في السنوات الأخيرة، استعاد الشيوعيون العراقيون بعض الحيوية من خلال خوضهم في المعارك الاجتماعية. وفي هذا السياق، تحالفوا مع تيّار مقتدى الصدر، وهو زعيم ديني بالوراثة، عادة ما تُطلق عليه صفة "الشعبوي" وقد تميّز عن سائر التيارات الشيعية العراقية برفضه للنفوذ الإيراني. فقد شارك الشيوعيون العراقيون في الانتخابات من خلال الائتلاف الذي سيطر عليه الصدريون. لكن يجب تفادي المبالغة: لم يفز الائتلاف بالانتخابات، بل فاز بأكبر عدد من المقاعد، أي 54 مقعداً من أصل 329، توزّعت بين أكثر من 35 قائمة ممثلة في برلمان مشتّت جداً. وقد شهدت هذه الانتخابات، من جهة أخرى، ارتفاعاً كبيراً في الامتناع عن التصويت الذي شمل أكثر من نصف الناخبين المسجلين. لقد كانت أكثر نتائج الحزب الشيوعي إثارةً انتخاب امرأة عضوة في قيادته في مدينة النجف المقدّسة لدى الشيعة. لكننا هنا أيضا أمام ممارسة محفوفة بالخطر يقوم بها حزب شيوعي، حتى ولو لم يعد هناك الكثير مما يربط الحزب العراقي بماضيه، وكم بالأحرى بالماركسية.
بالنسبة للماركسيين الحقيقيين في هذا الجزء من العالم، كما في أي مكان آخر عندما يتطلب الأمر عقد تحالفات مع قوى ذات توجّهات أيديولوجية وبرامج مُناقِضَة لتوجّهاتهم وبرامجهم على أكثر من صعيد، فإنّ المبادئ الذهبية الخمسة التي صاغها المناضل الثوري الروسي ألكسندر بارفوس سنة 1905 والتي استشهدتُ بها مراراً عديدة، تبقى أساسية: "1) عدم خلط المنظمات، السير على حدة والضرب معًا؛ 2) عدم التخلّي عن مطالبنا السياسية الخاصة بنا؛ 3) عدم إخفاء اختلاف المصالح؛ 4) مراقبة الحليف كما يُراقَب العدو؛ 5) الاهتمام بالاستفادة من الوضع الناتج من النضال أكثر من الاهتمام بالحفاظ على الحليف".
أجرى المقابلة جان دوما دوكانج، نقلها من الفرنسية إلى العربية أنس العيلة، وقد راجع الترجمة جلبير الأشقر ونقّحها
ويمكن قراءة المقابلة كاملة بصيغة PDF.