اختار ألبرتو مانغويل توظيف كل هذا الزخم في روايته "ستيفنسن تحت أشجار النخيل"، واستهلها باقتباس من "الأنساب المختارة" للألماني غوته: "ما من أحد يهيم تحت أشجار النخيل ويفلت من العقاب".
الهجرة إلى المحيط الهادي
في يونيو من العام 1888 استأجر الكاتب الاسكتلندي روبرت لويس ستيفنسن (1850 – 1894) يختًا ليقله هو وعائلته من سان فرانسيسكو في الولايات المتحدة الأمريكية إلى جزيرة ساموا في جنوب المحيط الهادي، حيث اعتاد الكاتب الاسكتلندي على التطواف في البلاد بحثًا عن الأجواء الدافئة والحارة التي تساعد رئتيه المريضتين بالسل على أداء وظيفتهما. وسبق له زيارة بلجيكا وفرنسا والولايات المتحدة ونشر أكثر من نص في أدب الرحلات، قبل أن يزور 33 جزيرة في سفرته البحرية من سان فرانسيسكو إلى المستعمرة البريطانية ساموا، في رحلة استغرقت 4 شهور كاملة، وانتهت باستقرار ستيفنسن ووالدته وزوجته فاني أوزبورن وولديها في ساموا. حيث لن يغادرها ستيفنسن أبدًا، بعدما وجد فيها ضالته، جنته التي ستعينه على الاستمرار في الحياة والتنفس، والتي ستفتنه بألوانها الزاهية وثقافة أهلها الطيبين وتقديرهم له بوصفه "راوي حكايات" أو "توسيتالا" كما ترد في اللغة المحلية للسامويين.
في العام 2000 نشر الكاتب الكندي أرجنتيني الأصل ألبرتو مانغويل (1948) روايته "ستيفنسن تحت أشجار النخيل"، والتي صدرت ترجمتها العربية عن دار الساقي في بيروت في 2017 بتوقيع المترجم والشاعر السوري جولان حاجي.
عقاب للهائمين تحت أشجار النخيل
تتكئ الرواية القصيرة "ستيفنسن تحت أشجار النخيل" على حالة من التناص، لا مع الرواية الأشهر لستيفنسن: "الحالة الغريبة لدكتور جيكل والسيد هايد" الصادرة في 1886، بل وتقتبس من حياة ستيفنسن ذاته، عبر إحالات وغمزات عدّة، استخدمها مانغويل بين السطور، لإضفاء قدر كبير من المصداقية على روايته عن الروائي الاسكتلندي الذي حدد منفاه الاختياري في ساموا وتشبّث به حتى الموت.
قبل أن يكتب ستيفنسن "الحالة الغريبة لدكتور جيكل والسيد هايد" كان يمر بضائقة مالية، وقد أشار عليه ناشره بتأليف "قصة مرعبة تُباع بشِلِن"، لنشرها في موسم أعياد الميلاد المرتبط بالقصص الخرافية، لتخرج هذه التحفة الفنية الخالدة.
في الرواية التي باتت تُعرف شعبيًا باسم "دكتور جيكل ومستر هايد"، التقط ستيفنسن فكرة إنسانية وفلسفية رهيفة متمثلة في التمازج بين الخير والشر داخل الإنسان، ومن ثم طرح سؤال جدلي حول إمكانية الفصل بين الخير والشر المتمازجين في النفس البشرية عن طريق عقار صنعه دكتور جيكل، ما ينتج عنه خلق شخصية السيد هايد الشرير، الذي سيأخذ في التضخم والتعملق حتى يسيطر على حياة جيكل.
حققت الرواية عند صدورها صدى مذهلًا وصل إلى أن الملكة فيكتوريا (1837 – 1901) ورئيس وزرائها قرآها وأثنيا عليها، وباعت في الأشهر الستة الأولى منذ صدورها قرابة الأربعين ألف نسخة، وباتت جملة مثل "جيكل وهايد" مثلًا شعبيًا للتدليل على الشخص ذي الوجهين الذي يجاهر بالخير ويضمر الشر.
اختار ألبرتو مانغويل توظيف كل هذا الزخم في روايته "ستيفنسن تحت أشجار النخيل"، واستهلها باقتباس من "الأنساب المختارة" للألماني غوته: "ما من أحد يهيم تحت أشجار النخيل ويفلت من العقاب".
وعقاب ستيفنسن يحدث بعد أن ينبثق قرين لستينفسن نفسه، مثلما انبثق هايد من داخل أغوار الدكتور جيكل. وكان قرين ستيفنسن هنا رجل دين اسكتلندي متعصب اسمه السيد بيكر. كان ستيفنسن يحظى بمكانة كبرى في ساموا، فبين الأهالي هو راوي الحكايات "توسيتالا"، وعند هؤلاء البدائيين الطيبين كانت الحكايات ومعقوليتها وتسلسلها المنطقي وسيلة لاستيعاب أي شيء وتصديقه. أما بين الجالية الأوروبية في الجزيرة فقد كان ستيفنسن أحد الكتّاب المرموقين أصحاب الحظوة. كان الوضع هكذا حتى ظهر السيد بيكر، الشبحي، الذي لا يراه أحد إلا ستيفنسن نفسه، إذ جرت العادة أن يلتقيه صدفة بين الحين والآخر أثناء تنزهه قرب الشاطئ، وعندما استقصى ستيفنسن من سائقه سوسيمو عنه أكد له هذا الأخير عدم وصول أي مبشرين أوروبيين إلى الجزيرة.
جرائم لا إرادية
تتحول حياة الأرخبيل الهانئة التي يحياها ستيفنسن وعائلته إلى جحيم، ويبدأ ذلك عندما تقع سلسلة من الجرائم في الجزيرة الهادئة، تبدأ بمقتل مراهقة محلية شديدة الجمال بعد تعرضها للاغتصاب، بخلاف الحريق الذي يندلع في إحدى الحانات، وكان العامل المشترك بين الجريمتين هو ستيفنسن نفسه، إذ يُعثر على قبعته في مسرح الجريمة الأولى، بينما يُرى أثناء دخوله للحانة التي توهم أنه دخل إليها لمجادلة قرينه السيد بيكر في أفكاره المتطرفة، قبل أن تتضح الحقيقة المستنسخة من "دكتور جيكل والسيد هايد".. لم يعد هناك ستيفنسن واحد، بل صار اثنين، ستيفنسن وبيكر، مقابل جيكل وهايد، الخير والشر، الإعجاب في العلن والنهش في الخفاء، حياة تحت الأضواء وأخرى في الأغوار السحيقة. إنها النفس البشرية بعد تحليل لونها الرمادي وفصله إلى عنصريه الأوليين: الأبيض والأسود، مع السماح لكل واحد منهما بالنمو في مسار مستقل.
لقد اختار ألبرتو مانغويل، لروبرت لويس ستيفنسن، أن يتجرع من نفس الترياق الذي أعده وخلق به مأساة دكتور جيكل والسيد هايد، فرض عليه مصائر أبطاله – أبطال ستيفنسن نفسه – وحقنه بالترياق الذي شربه دكتور جيكل ليتحول إلى السيد هايد، وهكذا تكاثر الاسكتلندي انشطاريًا وتحول إلى ستيفنسن وبيكر، ستيفنسن الوديع المريض الموهوب والمحب، وبيكر المتزمت القاتل الشهواني اللامنطقي. وفي سبيل تمرير هذه الالتواءة القدرية العجيبة، طعّم مانغويل حكايته بقطع مقتبسة من السيرة الحقيقية لروبرت لويس ستيفنسن، وبالإحالات التناصية التي أشرنا لها سابقًا. فقد اعتمد صاحب "تاريخ القراءة" على الكثير من الوقائع المثبتة في حياة ستيفنسن، ونهل من مراسلاته مع هنري جيمس وأندرو لانغ وغيرها من المراجع المثبتة، ثم جاء إقحامه للجانب الكابوسي الخفي من ستيفنسن والمتمثل في السيد بيكر ليخلط الحقائق ويعجنها في عالم شبحي أثيري ذوّب ركائز الواقع، ليخرج بالنص إلى هذه الحالة البلورية الدخّانية المذهلة.