ضمن المصائر المتشابكة التي صورها مانغويل للكتّاب والقراء، لربما نسمح لأنفسنا أن نصنع من كلماتهِ هو، ذاتها، العبارات الآتية: تمنح اللغة صوتها لحكائين يخبرونا عن ماهيتنا، وتكتسب اللغة القادرة على أن تصوغ إيماننا، فعاليتها، من دفعنا نحو أمرٍ لم يتحقق بعد. بهذا لا يتوقف المبدع عن البناء في المجهول القادم،
يحدثنا ألبرتو مانغويل عن مدينة متخيلة، ويسعى إلى وصول حدودها، قبل أن نكتشف معه، أن لا حدود لها، فالأسئلة لديه تنتج أسئلة. ينقل لنا تصوراته عن تلك المدينة، لنكتشف أن لا قيود ولا أمداء لموضوع كتابهِ «مدينة الكلمات» الصادر بترجمة يزن الحاج عن دار الساقي. إذ يبحثُ الكتاب في مسائل اللغة والهوية، وفي غمرة تحليله للنصوص، يبرزُ هوية رحبة، تبدو صالحة لكلّ الأزمان، يضعها في وجه العصبيات، ويضع البشر أمامَ حقيقةٍ بسيطة، بعد جهده التركيبي الممتدّ على عشرات السير والآراء، وهي حقيقةُ أنّنا محكومون بالعيش معاً.
ينطوي بحث مانغويل على الإيحاء للبشر بأنّ لهم مصيراً واحداً، ويربط هذا المصير بحتمية أخرى، وهي التآلف بين القوميات والثقافات المختلفة. إنّه يرتب ما هو جوهري في التجربة الإنسانية، ويصل عبر ترتيبه الخاص والموسوعي إلى خلاصة مفادها؛ صلاح الكلمات لأن تكون وطناً للجميع، متغيراً وآمناً في آن. وطنٌ في حالة تشكل دائمة، وفي أطوار تشكله تنبتُ الهويات وتنمو وتزدهر وتنفتح على الآخر. يستند بحثه إلى عددٍ من السرديات منها ألواح جلجامش وبرج بابل ودون كيخوته. إلى جانب العديد من القرائن التي راح المعماري يجمعها في بناء حجته ضد ما يفرّق البشر. يفصل مانغويل بين عمليتي القراءة والكتابة، ويسند لكلّ من القارئ والكاتب دوراً يكون معه، كلّ منهما، أشبه بالساعي صَوبَ الآخر. تبرز العمليتان اللتان يفصل بينهما مانغويل، على نحو تبدو القراءة كتابةً تخصُّ القارئ والكتابة قراءة ينجزها الكاتب؛ عمليتان ثانويتان. بحضور اللغة التي لا تعادل الواقع وحسب، وإنّما تخلقه. تتفوق عليهِ، تسبقه، لا تجاريه، وإنّما تتصدّر ثمّ تنادي عليهِ. إلا أنّ التفاعل الأبرز ضمن التفاعلات العديدة في الدراسة تحدث ما بين اللغة والهوية، إذ يفاضل مانغويل ما بين لغة السياسة التي تعمل على "تجميد الهويات" وبين لغة الشعر التي تمنحنا هويات "ذاتية الإلهام". الأمر الذي يعيدنا إلى ما يبدو سبباً لكتابه، إذ رصد مانغويل مفارقة شهدها القرن العشرين، يذكرها في مقدمة الكتاب، وهي توحيد البلدان بتشكيل تجمعات سياسية، وتقسيمها داخلياً في الوقت ذاته عبر إنتاج هويات ضيقة. وبسبب جهله بعلوم السياسة والاقتصاد، يشرعُ مانغويل، انطلاقاً من معرفته بالنصوص والكلمات مجموعة من التساؤلات حيال الهوية عبر الكلمات، ودور القصص في إداركنا لأنفسنا وإدراكنا للآخر.
يظهر سعي مانغويل لبرهان أنّ إدراك أنفسنا يتم عبر إدراك الآخر، محصلةً لجملة من أساليب الآخرين في التعاطي مع اللغة. منهم الروائي الألماني ألفرد دوبلن، والذي اعتبر اللغة "صيغة من حبّ الآخرين". حتى أنّ دوبلن اعتبر اللغة "أداة تصوغ الواقع"، ومضى في اعتقاده بقدرة اللغة على إعادة صياغة الواقع، وبالتالي تغييره، حداً اعتقد معه أنّ غياب العدالة عن الواقع هو إشارة لعالم آخر يعيش فيه العدل، وهو عالم القصص... يقصر مانغويل المبدعين على وظائف يذكرها بوضوح، كما لو أنّه يلزم المبدع بضرورة ألا يركن إلى النظام، إلى جانب تحريض القراء على إعادة تعريف معتقداتهم. تتضح الوظيفة التي ينيط بها مانغويل المبدع، ضمناً، في ما تقدمه القراءة للقراء، إذ على ذلك "العمل الذي يخص الذاكرة" أن يُشعر القارئ بأنّ التجارب التي يطالعها هي تجاربه. ينتظر القارئ من الكلمات لا أن تبني الواقع فقط، وإنّما أن تدافع عن الواقع في مواضع أخرى. من غير أن يلزم الأدب تقديم الإجابات الحاسمة، بهذا تأخذ فكرة مانغويل عن الكتابة مساراً تنويرياً، إذ ينبغي على الكتابة أن تحمل بذور التغيير، لكنه تغيير شفيف وثابت لا انقلابي وطارئ. إنّه تغيير ينظر عبره القارئ إلى الآخر من زاوية تضيء داخله، من غير أن تعتم أناه! في السياق ذاته يذكرُ أنّ القصص "تساعد الأعرج على المشي والأعمى على الإبصار." وأنّها "تقدم العزاء بشأن المعاناة". يستخلص الدروس عبر تقاطعات يجريها عقلهِ الشامل، يبدو مهتماً بأن يلقنّا عبراً، ونجاحه في هذا الكتاب، في واحدة من صورهِ، هو نجاح الحكّاء الذي يعظ من غير أن يكون مملاً. يخبرنا في واحدة من خلاصات ألواح جلجامش أنّ الآخر "جزء من الهوية"، وينفي الفردانية عن حياة الإنسان، فجميعنا يتغذى، بدرجات متفاوتة بصورة الآخر. أيضاً يتحدث عن الصلة بين مدينة من الجدران ومدينة من الكلمات، فكلّ منهما، وبحسب قراءة مانغويل، تستلزم وجود الأخرى، الأمر الذي يدركه الملك/ السلطة، إذ تُصان عظمة المدن عبر رواية قصصها.
ضمن المصائر المتشابكة التي صورها مانغويل للكتّاب والقراء، لربما نسمح لأنفسنا أن نصنع من كلماتهِ هو، ذاتها، العبارات الآتية: تمنح اللغة صوتها لحكائين يخبرونا عن ماهيتنا، وتكتسب اللغة القادرة على أن تصوغ إيماننا، فعاليتها، من دفعنا نحو أمرٍ لم يتحقق بعد. بهذا لا يتوقف المبدع عن البناء في المجهول القادم، لا يتوقف عن تشييد ذلك الوطن المتخيل الشاسع، والذي يتساءل سكانه الخارجين من النزاعات والإثنيات، إن كانوا عابرين فيه، حالهم، في الأوطان التي ما لبثت تلفظ مواطنيها.