الكتابة بالأنف... «البيريتا يكسبُ دائمًا» لكمال الرياحي بين السوقيّة والمخيال الشّميّ 

2020-03-17 14:00:00

الكتابة بالأنف... «البيريتا يكسبُ دائمًا» لكمال الرياحي بين السوقيّة والمخيال الشّميّ 

هذه رسالة تظهر في الرواية بين البطل الصحفي، وبين الصديق الفلسطيني الحشاش الذي يتنقّل بين الأمكنة دون أن يكون له نصيب في الاستقرار، وهو أيضًا يساهم في تعميق المخيال الشّميّ من خيال موضوعة الحشيش في الرواية وتعليقه بين عواصم العالم، ليطرح سؤالا آخر حول الفلسطينيّ اليوم وصورته في الأدب العربيّ. 

عَرفَ الوَعي البَشري تصوّرات وفرضيّات لا حِصرَ لها حول الجسد ومفهومه بين النظرة إليه نظرة ميتتافيزيقيّة قدسيّة سامية ترفعه إلى حدود العذريّة وتختزله إلى محدوديّة النّقاء عوض تعريضه للشهوات، ونظرة ماديّة واقعيّة تحطّم نقاءه وتنزل به إلى مستوى الفساد والرذيلة والشرور والتحقير والدّنس بصفته موطنًا للفسوق والإثارة والإيروس والجنس، ومصيره إلى التفسّخ والزّوال، ونظرة تعلّقه في منطقة ظليّة محايدة/فارغة لا تغامرُ معه وفيه نحو أيّ من الجهتين ليبقى في فضاء هلاميّ هو في حدّ ذاته هوية توطّن الجسد في ظلالها.

تشكّل الرواية الرابعة للكاتب التونسي كمال الرياحي، "البيريتا يكسب دائمًا"، الصادرة عن منشورات المتوسّط (2019)، مقولة في غاية الأهميّة حول الجسد، حدوده، تصنيفه، وعلاقته بالسّلطة، إرادة القوّة، العنف، الغضب، الغريزة الجنسيّة، أشكال الموت بين الانتحار، والاغتيال والقتل العشوائيّ. لا يكتفي الرياحي بهذه المقولة بحدودها الضيّقة-المحليّة، بل يستغل الجسد فرصةً لمقولة أكبر عن ماهيّة الإنسان وعبث الغايات وأوهام الحكم الأخلاقي، ليتفق في ذلك مع كذبة إصلاح البشريّة. واضعًا ثقته في مفهوم حيوانيّة الجسد وقدرة "الرغبة" على منافسة "الوعي" معرفيًا، يتّخذ الرياحي قرار مركزة الجسد و "لوازمه" الحسيّة في قلب الحدث مستبدلا دَور الروح بالمفهوم الأفلاطوني باعتبارها معقل المعرفة بدَور الجسد باعتباره معقلا للاوعي والشهوات أشدّ خطورةً وأهميّةً من الروح. 

 من خلال الجسد، تحديدًا ذلك العضو الحسّي الصغير الراسخ في الوجه المسمّى أنفًا، ينفتحُ عالمٌ عريضٌ من الأسئلة حول مفهوم الكتابة وتحطيم أوثان الرواية المكتوبة بالأصابع والدماغ، والتأسيس لكتابة روائيّة، هي كتابة بالأنف. وعبر هذا المخيال الروائحيّ تُثار جدليّة الغواية والهلاك.

السوقيّة المرحة، القسوة، والأخطاء المقصودة

 يمكن أن نقول إنّ كتابة القسوة هي سمة المرحلة الجديدة في الكتابة الروائيّة عند الرياحي. إذ لا مرونة في رواية "البيريتا". وإن أتت المرونة فإنها تكون على شكل نكهات حواريّة فكاهيّة (كما هو الحال مع المخبرين الذين يقفون خلف الباب يتنصّتون على علي كلاب وهو يحقن نفسه بحقن الإنسولين ويستمع إلى تسجيلات واعترافات الأبطال المتوارين الّذين ظلوا قابعين داخل التسجيلات الصوتية والأوراق الصفراء المطبوعة على الآلة الكاتبة). في هذه الرواية نحن أمام بطل يواجه سلسلة من الصّدمات والمواجهات والأحداث المؤلمة يقابلها بحالة من الصّمود عبر التّخييل أو لعبة الأوهام كأسلوب "حجاجيّ" لا حقيقة فيه، يتبنّاه مسارًا للرواية تختلطُ فيه الحقيقة بالأكاذيب وتغرق الرواية في عالم من الشواشيّة المفرطة في الفوضى والصّدفة والاعتباطيّة.

 يتجاوز الرياحي مفهوم الرواية ذات الطاقة الإنتاجيّة العريضة والممطوطة، متّجهًا نحو أسلوب الفصول العاصفة التي تبدأ مفتوحة وتنتهي مقفلة أو بحركة سرديّة قافلة للحدث، أو هذا ما يبدو ظاهريًا، لكنّها تظلّ مفتوحة على ما سبقها مستشرفةً الآتي. وقد اختار الكاتب هذه المرة أن يفرض، بتعسّفية صاحب العمل، أن يُتلفَ مفهوم الرواية الواحدة ويعجن ثلاثة أجناس روائيّة (يوميّات، ورواية تحرٍ والرواية الديستوبيّة) في فضاء واحد يسبح في مراتع القلق السرديّ الذي يشدّ خيط الرواية برائحة الرّصاص وسيرة المسدّس الذي اغتالَ السياسي التونسي شكري بلعيد عام 2013. هذا المرتع هو فضاء العنف المدجّج بالسلاح والرصاص والضّرب والجنس الرّخيص وقتل الحيوان والإنسان ومحاولات الانتحار وبتر الأعضاء والخيانات الملوّنة للأصدقاء والأحبّاء والأعداء على حدّ سواء. في هذه الرّواية يسقط تماما مفهوم الثنائيّات وتنهار الحدود بين القامعين والمقموعين وتتلاشى أوهام الأخلاق وشيفرات اللزوميّات، حتّى يبدو للقرّاء أنّ الهامش والمركز، كلاهما، فائضان عن حاجة الإنسان في زمن الحروب والاغتيالات والثورات. فالأبطال، أشرارهم وأخيارهم- متمثّلين بيوسف وملاك ومريم وعلي كلاب- يتواجدون في حالة من ديمومة المواجهة مع خطر الحياة تماما كما هو خطر الموت. لكنّ الكاتب يُجبر هذه الشخصيات على التعامل مع هذين الخَطرَين اللذين يحيقان بالإنسان، تعاملا تنعجنُ فيه القسوة مع المرح (كمفاهيم النيتشويّة). يظهر ذلك أوّل ما يظهر في الطابع السّوقيّ الذي يحمله العنوان وسيميائيّته الشعبيّة، إذ تحيل الذهن الشعبيّ لدى المتلقّي إلى عبارة "دايمًا يِكسَب" عِوضَ التعبير الرّصيب "دومًا يكسب أو يكسب دومًا أو يكسبُ على الدّوام". هذه الصّياغة الصارخة هو بمثابة "خطأ" أول مقصود يلقى كعتبة أولى مهدّدة ومعلنة أننا في مكانٍ مفتوح هو حلبة أو سوق مدجّجة بالغرائز والسلاح ومجهولين يسطون على المكان فيما نقف نحن تحت العريشة ننتظر القادم الأبوكاليبتيك. العنوان هو البيان الذي نستشرفُ من خلاله النهاية: واحد صفر لصالح الجريمة، والعدل لن يتحقّق في الرواية.

ثمّ تتواصلُ السّوقيّة وقلب القيم مع الافتتاحيّة التي يظهر فيها مخبرون ينبشون عظام كلب مدفون في شقة مجهولة إثر تبليغ الجارة، وعلى نحو يذكّرنا بفكاهة دراما اللامعقول أو مسرح العبث، يتّحد مَوت الكائن الحيوانيّ التراجيديّ والعبثيّ والطريف، مع الحدث الرئيسيّ اختفاء الأبطال والمسدّس واكتشاف يوميّات الصّحفي المختفي وصديقه السّافل ملاك وعشيقته مريم. اختيار الكاتب البَدء بمَشهَد بينتاريسكيّ بارد ويبعث على التهديد والخوف، وذلكَ من خلال آلية المخبرين في نقل عظام الكلب، والبحث عن جثّة كلب أساسا على نحو مريب، ثمّ الوصول عن طريق الصّدفة إلى الخيط الأول للرواية من خلال اكتشاف يوميات الصحفي المختفي، هو في حدّ ذاته علامة تفريغ وتفكيك لهرمية الشيفرات الأخلاقية ومنطق الصواب والخطأ البشري، وإعلاء قيمة "المجهول" بمحاربة قوانين الظاهر والموجود وما هو لازم وواجب أن يكون. جثة الكلب تبدو أهم من جثة الإنسان، والغريزة الحيوانية الباطنية تأخذ عمقا جوهريا في الرواية من خلال سلوكيات الشخصيات، النساء والرجال، المبنية على سلسلة أخطاء وأوهام وخلط مفاهيم الانحطاط والفضيلة، والعلة والمعلول بمفهومها النيتشوي.

روائح يا سادة، روائح! عن المخيال الشّميّ حارسِ الرواية 

"عبقريتي تكمن في أنفي، إنني أتشمم آفات البشر" (نيتشة)

لقد أعلَن نيتشة أنّ عبقريّته تكمنُ في أنفه، وهو بهذا يعبّر عن إدراكه الحسّي للأشياء، بصفتها وسيلة غير قطعيّة ومفتوحة تمتلك القدرة على التمييز والكشف والتعرية والتشخيص، لتنقل الأحداث من عالم هيولي إلى عالم ملموس، والعَكس في جوانب كثيرة في الرواية.   

استحضار الرائحة وتجسيدها في الرواية، يعيدنا إلى رائعة زوسكيند "العطر-قصّة قاتل"، والتي تحوّلت فيها الرائحة، على أنواعها وتمثلاتها، إلى مادّة مصّورة في ذهن المتلقّي، وإلى تجسيد حيّ في السينما، لتكون الرواية التي أعادَت إلى الرائحة شرفها بامتياز في الرواية الحديثة. تحضر الرائحة في رواية الرياحي بصفتها جزءًا من "الكينونات المجهريّة" البارزة، بشكلِها الماديّ الفطري، الذي يجمع بين المنحط والفطري والغريزي القاتل، ولكنها في نفس الوقت تعمّق فكرة الحرية المطلقة، والقلقة، لدى الشخوص، التي توقع نفسها، على نحو متعمد، في "خطأ العلل الوهمية" من خلال تبرير السلوك والأفعال، فلا يعود هناك مكان للخجل والحب والعاطفة مكان "محترم"، وعوضا عنها يتولد نظام مجهول من جمل مشفرة ومجاز مؤامراتي يتضح في الحوارات في الشخصيات. 

ومن خلال الرائحة، التي تتحوّل هي نفسها إلى جسد، تتحقّق في الرواية سلطة القمع وديموقراطيّة اللذة ووجع المعاناة على نحو عادل، بين النساء والرجال، بين القامعين والمقموعين، أصحاب السلطة وأصحاب القَلم. يتهشّم الجسد وتنهار معه شيفراته الكلاسيكيّة. لا تُمارَس عليه تأويلات تاريخيّة أو إيديولوجيّة أو اجتماعيّة وعبر الجسد الفيزيزلوجي ندرك كل ما يجب أن ندركه عن ذواتنا وعن العالَم، وهو امتدادٌ مرئيّ للهويات المعروضة في هذه الرواية وعبره تتحقّق أقصى صور وتجسّدات الجسد بصفته جامع المتنافرات ومعقل الخصوبة والخصاء والدناءة والسّوقية والنفور والشهوة والغرائز الجامحة والجبن والجرأة على حدّ سواء. 

 اختار الرياحي هذه المرة أن يكتب رواية حاضنة لثلاثة ثلاثة أجناس روائيّة تتكثّف وتتقاطع وتتزاحم فيما يشبه متن الرواية التي يتزاحم فيها عنف العاطفة وجوهر الصداقة وطبيعة الوهم/التخييل مقابل الحقيقة/الواقع. 

يبحث الروائيّ في هذه الرواية عن كلّ ما يجعل من الرواية أمرًا ممكنًا وصالحًا للتفكير الحرّ. هذه المرّة يحوّل الجسد وحواسّه الشميّة والذوقيّة واللمسيّة والسمعيّة والبصريّة، إلى المساحات التي تزيد من الإحساس بالمتعة إلى جانب التهديد، والمنطق الحياتيّ إلى جانب العبث الحياتيّ، وإلى القَسوة التي تستظلّ في ظلّها رقّة معطّلة، رقّة يألفها القارئ في العلاقات بين البشر، في الصداقات، بين الأزواج، بين الزملاء إلخ. وتوحّد هذه الرائحة بين الأجناس الروائيّة الثلاثة، تشيعُ فيها فلسفة الرائحة، والإيهام بالرائحة، وإعلاء شأنها، والحطّ من قدرها على حدّ سواء: 

1. رواية بوليسية قاعدتها حدث عبثيّ تقوم عليه الرواية كلها: اكتشاف عظام كلب مقتول في شقة سكنها صحفيّ وشريكه تواريا عن الأنظار. علي كلاب (والذي يفرضُ اسمه حضور المتعالي المنحطّ النجس) محقّق يتولى على نحو درامي سخيف مثير للسخرية والفكاهة أمر التحقيق في هذا الملف العبثيّ وتخرجُ الأحداث عن نطاق سيطرة العقل والمعقول والحقيقة لتقع في خط التماس بين الوهم والحقيقة والعنف والغضب، وسلطة القامعين تقابلها سلطة المقموعين، فنكتشف أن المحقّق قاتل: قاتل نساء، وقاتل رجال، وقاتل حيوانات، وقاتل نفسه في نهاية المطاف. كلّ هذا الضّجيج الذي تختلطُ فيه القسوة بالمرح يحرّكه، من ضن ما يحرّكه، الإحساس بقَتل الملل من أجل المتعة والفتك بالقوانين وتطبيق قوانين غابيّة أساسها 

2. رواية ديستوبيّة من الدرجة الأولى، تقودها حركات سردية لولبيّة لا تنتهي. هذه الحركة، بحمولة أحداثها، وبيانها الرئيسيّ هي التناقضات التي تصقل جسد العمل لتبقى محافظةً على حنكة اللامعقول فيها والذي تأسست عليه منذ البداية. دجو صحفي يبحث عن حقيقة سرّ انتحار كاتب أمريكيّ شهير هو ديفيد فوستر والاس، ويلجأ إلى التخييل/الكذب/الأوهام ليواصلَ النّجاة مؤكّدًا وجوده وحضوره من خلال تزوير سيرة الآخر الغائب. لننتهي في النهاية إلى تلاشي هذه الشخصيّة التي يُبتَر عضوٌ من جسدها كشَرط لمواصلة الإثارة، تماما كبَتر ساقي رجُل الحمام كشرط يعمّق صورة هلاك العالَم "الصغير" الذي يُشبه مصير العالَم الكَبير في طريقه نحو أبوكاليبس الحرب على الجسد عوض الحرب على العقل.

3. رواية يوميّات، والتي توثّق من خلال الآلة الكاتبة، مشاهد حاسمة في حياته، تحاول الاقتراب إلى الحميميّ لكنّها تصيرُ عصية على الامتلاك، فالصداقة تقطعها قسوة العدوانية اللامبررة، والزوجيّة تقطعها قسوة العنف والخصاء، والعشق تقطعه قسوة الخيانة، والحقيقة يقطعها قلق الوهم والتخييل المتواصل، وحبّ الآخر (الحيوانيّ) تقطعه فظاظة البشريّ وغريزة التدمير والبتر والتبرير الفلسفيّ العبثيّ لسلخ ما هو حيوانيّ، كما هو الحال في مشهد تقطيع الخنزير، ومشهد قتل الكلب.  

يتلبّس الرياحي هذه المرّة الحواسّ الخمس من نظر وأكل وشرب ولَمس وتنصّت/إصغاء/تلصّص وشمّ. عبرها يروي الكاتب ثلاث روايات تتعالق وتتمدّد في تضاريس الافتتاحيّة. كما تنتفي سمة العفة والطهارة عن السرد في هذه الرواية، ويحال ذلك أيضًا إلى الأنف الذي تتمازج فيه الحوارات بالأصوات بالمحسوسات ويتحوّل هو بالتحديد (بصفته موطن الروائح الأكبر) إلى بقعة تمارَس عبرها الأفعال الجنسيّة والكراهيّة والفساد. كما وتتجسّم عبرها رائحة الدّم والدّخان ورائحة الجوارب والبراز والحشيش وما إلى ذلك.

عن شراهة الإنفاق الشميّ

في هذه الرواية الجسد عرضة للهَتك عبر الحواس، تحديدا الشمّ. الإنفاق الشّمي، أو الإفراط في مغامرة الروائح يحيل الرواية إلى مستوى تعرية الشخصيات من الخجل وتعميق صلتها بأجسادها وأجساد ما هو حولها وبالتالي إعادة تعريف مفهوم النتن والرخيص: 

"اقترب مني أحدهم. كانت رائحته مميزة. تبغ ثقيل. عندما قرب وجهه مني التقطت تلك الرائحة. رائحة نبيذ رخيص. عندها سمعت آخر يقرأ بوضوح جملا من مقالي الذي كنت أرسلته البارحة للنشر".

في هذا المشهد الذي هو جزء من مشهد كبير ومركزيّ في الرواية يسبق إجراء بتر إصبع قدم الصّحفي جرّاء مقالة كتبها تضعُ شكوكًا حول السّلطة وحول عملية الاغتيال السياسيّ، تصبحُ الرائحة النتنة مصدرًا للتهديد والخطر أكثر من كونها مصدرًا للقرف.

وعلى نفس المنوال نجد رائحة العطر المتكررة في الرواية. على نقيض دَور المرأة الطبيعيّ في الرواية العربية عمومًا، والذي لا يُمكنني أن أحدّده هنا إلا بزجّه في دوائر الأبيض والأسود، والنقيضين، العاطفة البيضاء، أو الخيانة المحددة في تعريفها، يعالج الرياحي المرأة من باب القسوة والجسد ويُفرغها من أثاثها العاطفيّ القديم، الذي يفضّل الروائيّون تزيينها به. المرأة هنا، المتمثّلة في ثلاث شخصيّات، بيّة الجارة، ومريم العشيقة، والزوجة الخائنة. الشخصيّات الثلاث فيها نفس تدميريّ يقرّب رائحة المَوت والدمار من القرّاء، وتحضر أجسادهنّ بصفتها مرتعًا يُمارس عليه قلق الآخرين وبصفتها كائنًا يبعث جسده على الاشمئزاز بنفس قدر الشهوة والشبق إليه : الزوجة التي تُضرَب بالكَرة، وتُحرمُ من الأمومة، وتجلسُ في حديقة الكناغر، وتخون وتخطط للانتقام من زوجها. والعشيقة التي تحبّ أكثر من شخص، وتمارسُ العهر بوعيٍ مَرحٍ لا يصل إلى درجات البؤس ولا يُسمّى هنا بمسمّى الانحطاط بقدر ما يصيرُ جزءًا من لعبة خطيرة ومرحة اتّفق عليها مسبقًا. وكأنّ العِقد بتدمير "العالَم" الصغير لهذه الشخصيات هو الغاية حتّى هنا يحضر المخيال الشّميّ هنا بقوّة، ويعزّز موضوعة القسوة التي تتحوّل فيها المرأة إلى كائن شرس وعنيف وغاضب. في المشهد التالي تصف الزوجة علاقتها بعشيقها ويحضر سؤال الرائحة في عاصفة الكلام عن شكّها بخيانته لها مع صديقتها:

"لقد طردت الحيوان. طردته منذ أكثر من شهر. رميت في وجهه كيس الزبالة الأخير وغيرت القفل. لم أعد أريده بعد أن هشم رأسي بكرة التنيس. لقد صار حقيرا. وستيلا، أيضا صار حقير. أنت تعلمين كل شيء. حدثتك في الرسائل السابقة عنه. حدثتك عن عنفه. هو أيضا صار الآن أكثر حقارة. من أين يخرج لي هؤلاء الرجال؟ هل يشتمّون شيئا فيّ ليقتحموني ويحطمون رأسي كل مرة. منذ رميت يوسف بالشارع لم يعد يأتي لم يعد يسأل عني. في آخر مرّة دخل البيت كان في حالة نشوة. لم يضاجعني، لم يسألني عن يوسف، كان يصول ويجول باحثا عن شيء ما مثل المجنون. اشتممت رائحة عطر أعرفها جيدا. أعرفها يا مريم. كانت على قميصه، وعندما سألته: من المرأة؟ صفعني وشدّني من شعري وكبّلني مثل رجل بوليس متمرّس. وأجلسني فوق كرسي وكمّمني وأخذ يستجوبني بعنف".

والعطر الذي تضعه ماري في أول لقاء يجمع بينها وبين دجو هو سبب مباشر في ضمان الخيانة: "لماذا سألتني عن زيتي المعطر الذي استعمله فقلت وأنا أمد كفي إلى كفها بأني أريد أن  أشتريه لزوجتي. كنّا أمام بيتها عندما أجابت بجملة حاسمة: عندما تريده ستجده على يدي. ومدت يدها إلى مصافحة. كانت واقعة المصافحة هذه المرة أقوى ولم يخطر لي شيء بعد ذلك. فقط كان عندي رغبة كبيرة في أن احتفظ بالكف الكبيرة الناعمة عندي". لكنّ هذه المغازلة الناعمة سرعان ما تكشف من تحتها عن قسوة وعن نظرة منحطة للجسد: "ظللت أفكر بماري حبيبة ديف كانت على نقيض هذه المخلوقة السرية. لقد كانت ماري ملجأ رأس ديف المتعبة بينما كانت هذه ماكينة  نيك لا ينام لها بظر".

 هذه النقائض التي تُثار هنا، هي في حد ذاتها أسئلة جوهريّة حول مفهوم الرائحة وعلاقتها بالجسد الذي تُوثّق فيه القسوة، ورهانها الحقيقيّ في عصر الاستهلاك والامتيازات التي يمنحها للجسد بصفته موطنًا للمتعة وموطنًا للانحطاط والموت في نفس الوقت. هذا المَوت الذي يعود ويقترن بالرائحة في الرسالة التي تكتبها الصديقة المغدورة لصديقتها الغادرة حينَ تكتشف رائحة العطر على قميص العشيق (ستيلا/ملاك) وتهددها بالقتل: "فجأة انهار العالَم. انهار كل شيء بسبب هذا النحس. البيريتا هي السبب...عندما تظهرين يا مريم، سأقتلك به. سأستعيده وأقتلك به أيتها الكلبة. أعلم أن ذلك العطر كان عطرك أيضا".

لكنّ العطر، الذي يستثير الموت والانتقام والغضب، تقابله روائح نتنة، في قسم منها يُثار بشكل مباشر، وقسم آخر يُصار بالإيهام بالرائحة، وكلاهما يكتبان القسوة والدنس الخارجة من الجسد كما هو الحال في هذا المشهد الذي يجمع في ضربة واحدة رائحة الدماء المنبعثة من الجسد الأنثوي، ورائحة الخراء المداس عليه، وعطر منديل امرأة تكتم به أنفها حتى لا تشمّ أي نتانة: 

"عاد جونثان إليها مدّ وجهه نحو شفتيها. لوحت  بإصبعها علامة رفض ثم أشارت إلى فرجها الذي يطل من تحت الروب وهي مستلقية.

 جثا جونثان على ركبتيه. قبّل الفرج. غمرته رائحة مزعجة. كان يبدو  أن الدماء تتدفق عند المنحدر. كتم شيئًا في فمه وغادر راكضا. قفز في الجيب  على صوت النباح وانطلق. عند أول الشارع توقف ليفرغ ما بجوفه مرة أخرى. على بعد ثلاثين كلم  وعند باب العمارة اكتشف أنه داس على خراء كلب ديف. كانت المرأة التي تركب معه المصعد تشد أنفها بمنديل معطر".

هذه النتانة يوثّقها المخيال الشّميّ في الرواية من خلال توصيفات قريبة من القارئ ما يكفي لتجعله يتفاعل سلبا وايجابًا معها على نحو مباشر وغير مباشر وذلك من خلال تكثيف صور الدّم وبقع الدم السائل من الجسد، الحيواني، والبشريّ إلى درجة تجعلنا نشعر برائحته قبل أن تصلنا صورته. وهي كلمة تتردّد عشرات المرات في الرواية القصيرة وقد طالت قسوتها جميع الشخصيّات: رجل الحمام المغدور المضروب بالهراوة إلى أن سال الدم من ساقيه المبتورتين، دجو الصحفي المجرور إلى تحقيق معصوب العينين لينتهي ببتر اصبع قدمه، وعلي كلاب الذي قتل نفسه وقتل زوجته وآخرين من بشر وحيوانات: "تذكر علي كْلابْ صراخه في الملازمين منذ سنوات:"لا تتركوا أحدا. اقتلوهم جميعا. كلهم. اقتلوهم كلهم". مازالت أصوات الكلاب وهي تعوي عواءها الأخير في رأسه. كانت تنتفض قبل أن تسقط في برك الدماء تشخر شخير الموت". وغيرها من العبارات والجمل التي تعزّز رائحة الدّم أكثر من صورته ليتعزّز معها مفهوم القسوة الكامنة في الجسد.

**  

الخراء، الدّم، الحشيش التبغ والكتابة

تتواصل السّوقيّة مع الأبطال تتواصلُ في تعاملهم مع أجسادهم، روائحهم، محاولات قتلهم أحباءهم وأنفسهم، والعنف الذي يدور في شكلِ لعبة روليت خطرة ستنتهي حتمًا بموت أحدهم. يستخدم الرياحي على طول الفصول الكلام النابي، ويشيع النفور المتعمّد من خلال القذف بكلمات توهمُ بالرائحة، وهذا بدَوره يعزّز دور الروائح في الروائح: الخراء، البراز، البول، بقع الدّم البشريّ ورائحة الحشيش والتبغ المنبعثة من رسائل الحشاش الفلسطينيّ، وملاك وعلي كلاب ودجو وماري. الإيهام بالرائحة من خلال تكثيف المفردات وتكثيف السردية الحركيّة-المتنقّلة.  

"كلب وقحبة ومسدس وملائكة وزواج وخيانة ويوم أسود.... ما هذه القضية القحبة التي أكلف بها؟ ما هذا الخراء؟" هكذا يردّ المحقق علي كلاب وتظلّ كلمة خراء تتردد على ألسنة الشخصيات لتسطو رائحة الخراء على أنوف القرّاء وتعمّق فكرة الاشمئزاز والنفور من الجسد بقدر الرغبة فيه. الجسد الميّت، والمغدور سياسيًا (والذي لا يفارقنا فيه جسد شكري بلعيد بالتوازي مع جسد المسدس، البيريتا، الذي يكسب في كلّ جولة ويصفّي الجميع، سياسيين، وأصحاب سلطة والمثقفين والعامّة دون أن يفرّق بين جسدٍ وآخر.وهكذا تنتهي لعبة انتهاك الجسد في كلّ مرّة بالمَوت، وتنتهي بنا روائحه إلى العبث والفناء أيضًا).

"والله أحبك أيها الوغد وأعتقد أنك ستكون كاتبا عظيما لكني بكل تأكيد أعظم منك، لكن الناس ستكتشفك أنت ولن يذكروني ولن يعثروا علي. اذهب إلى الجحيم الآن أنا ناقم عليك. يمكنك أن تستولي على هذه الرسالة ستنفعك في رواياتك التي تكتبها. أنا أكره الكتابة وكل ما كتبته مجرد براز. لذلك هو غير مجنس. ها عاعاعا إنه مدنس وحسب.

هذه رسالة تظهر في الرواية بين البطل الصحفي، وبين الصديق الفلسطيني الحشاش الذي يتنقّل بين الأمكنة دون أن يكون له نصيب في الاستقرار، وهو أيضًا يساهم في تعميق المخيال الشّميّ من خيال موضوعة الحشيش في الرواية وتعليقه بين عواصم العالم، ليطرح سؤالا آخر حول الفلسطينيّ اليوم وصورته في الأدب العربيّ. 

 المسدّس يكسب على الدّوام. مقولة خطيرة تفتحُ من خلالها هذه الرواية الأسئلة العميقة حول الكتابة والرائحة الخرائيّة" النجسة التي تنبعثُ منها بصفتها شيئًا دنسًا جاء ليخترق وينتهك.

** 

في هذه الرواية التي ينهارُ فيها الخير والشّر أو يتمازجا لا نعودُ نفرّق بينهما ويُطرَح سؤال عن جوهر العمل الفني بصفته مناهضًا للسّائد، ودينامو يحرّك أسئلة الإبداع من خلال تعرية اللغة وتكثيف مفاهيم القسوة والعنف والغضب (الغضب- بمفهوم حنّة أرندت- بصفته، محرّكًا، وليس السلطة، للعنف، وليس السلطة، بدلا لدى الأشخاص بكافة أجناسهم وانتماءاتهم). وربّما هذا التكثيف في كتابة القسوة، واستخدام المخيال الروائحيّ للكتابة عن أزمة الإنسان العربيّ المعاصر عمومًا، وليس فقط الإنسان التونسيّ في ظلّ الاغتيالات على أنواعها: اغتيال الصحفيّ، اغتيال رجل السلطة، اغتيال السياسي، هو شكل من أشكال توصيف البرنامج البوست أبوكاليبتيك الذي وصلت إليه المجتمعات العربيّة، وربّما العالَم الذي داسته ماكينات الرأٍماليّة وأضاعت عليه فرص الإنسانيّة، ليبقى السؤال الأكبر: هل أصبحنا كلّنا في المنفى؟