ويبقى أمامنا ذاك السؤال المستمر عن مدى قدرة الشاعر في الخوض ضمن تجارب عديدة تغني مسيرته، وفي نظرة سريعة لمسيرة الشاعر نجده مغامراً في كافة تشعبات الشعر، حتى الآن لا زال يدخل بالعديد منها ويجرّبها، ولربّما يحقّ لنا أن نسأله: ماذا بعد يا عباس؟
لا صوت يعلو على صوت الموت في مجموعة عباس بيضون الجديدة «الحداد لا يحملُ تاجاً» (دار الساقي-بيروت، 2019)، والموت هنا تحديداً هو خطاب طويل للشعر نحوه وسمةٌ أساسيّة للحياة بنظرة الشاعر الواسعة، فالشعر لا شفاء له من الموت بل الأخير ينخر فيه كالسوس، بل إنّ الشاعر نفسه يصفُ حيوات الشعراء بالقصر حين يقول "حياتي لن تدوم أكثر من فراشة/ حيث البرق الذي يصل بين منارتين/ يطبع اسمي على كاحلك/ حيث المطر الذي يزرع خيطانه على سطوح البحار يحبسني في قطره..." هنا تتجلّى قسوة الألم والتي ما فتئ صاحب «الموت يأخذ مقاساتنا» على الخوض في غماره وتفليشه، لكن نجده هنا بنصٍ خفيف النبرة الصوتيّة كأنّها تمتمةٌ داخلية سريّة خاصة يحاول اخفاءها دون أن يقدر على ذلك.
ومع ارتفاع صوت الموت والسأم نلاحظ في نصوص المجموعة حضور مسارحهما المختلفة "البحر، الحرب، الصمت، التعب"، كما وتنزلق في معجمين مختلفين: معجم الفاجعة الكبير المتواصل "تراب، سقوط، ضريح، مرثية، عظام..."ومعجم التفاصيل الصغيرة اليوميّة "أزرار، دخان، أحذية، شيطان، صخور..." بيد أنّ هذين المعجمين لا يبدوان متنافرين إطلاقاً بقدر ما نجد تناغماً تركيبياً بينهما، وكأن بيضون يستحضر الفاجعة بكامل هيأتها الداخلية والخارجية ويدوّنها كصيرورة الحياة المستمرة، أي أنّه يستحضر مأساة العالم حوله والتي لا نهاية لها بذاته، كما في قصيدة "الكردي الصغير": كان الأكراد الصغار شهيين للصخور/ شهيين للحيوانات التي التهمت نور عيونهم.." أو في رسائله لنجلا "كثير علي"، والتي بدت أشبه بسيرة مختزلة لحياته معها ولحظات موتها: "جسدي كيس أدوية وسلك للهاتف/ وشباكٌ للغريب يدمع فوق الخشب/ ودون أيّ قطرة يتبلل بالدم الذي يتكلّم في السماعة/ وبالجسد المطرود من نفسه المعاقب في الزاوية.." أو حتى مأساة التشتت والتشرذم بين الناس جراء الموت الذي وجده بين عائلته نفسها كاستكمالٍ لوفاة نجلا: "لسنا عائلة.. إنهم يسرقون أخاً كلّ عام/ لسنا إخوة.. إنّنا نتناقص في كلّ موسم/ لسنا بيتاً.. إنّنا نصل فقط من السفر".
بالرغم من هذا الاستحضار الحاد للموت وعوالمه، ويقين الشاعر بعدم الخلود لنفسه كما في "لو كان معدناً لعاش أكثر/ لو كان تمثالاً لبقي منصوباً/ لو كان برجاً لأمكن تغييره..."، غير أن هذا الموت لا يعني خفوت ضجيج العالم أو اختفائه، كما أنّه وبمكان آخر يدفعنا للبحث بين طيات السطور عن إجاباتٍ حول أسئلتنا عنه، إذاً ما من صيغة واضحة له، فالشاعر أساساً عمله هو التلميح وليس التصريح، وعلى هذا يسير بيضون في حياكته لصور الموت دافعاً بنا إلى المزيد من التأمّل به، لنجده أخيراً يجهّز مرثاة طويلة لهذا العالم الكبير ويُستشَف داخلها رثاءً "يرتدي مقاساتنا جميعاً".
هذا ونجد صيغة جديدة للتعريف بالشاعر وإن أتت بطريقة مقارنة لمن سلفه، بحيث تحوّل إلى آلةٍ كاتبةٍ بفعل استكانته وعجزه في الحب، وهنا أيضاً رثاء جديد لعالمٍ آخر وكأنّ عباس يرغب بالإدلاء برأيه عمّا أصاب الشعر اليوم، كما في قصيدة "زليخا ومارلين" حين يقول: "أنا الشاعر لست كحافظ ولا سعدي ولا المتنبي ولا جلال الدين الرومي/ أولئك تطلّعوا إلى ما يجعلهم أعلى من أنفسهم/ اتصلوا بالكون عن طريق الحب، وسمعوا النجوم عن طريق الحب/ الشعراء اليوم مساجينٌ في غرف الآلات/ هم وحدهم ونساؤهم من ورق..." وكذلك شعور الشاعر بالشفقة تجاه ما يُحتقَر من قبل الآخرين "لا أحد يستقبل العاصفة/ إنها وحيدة والبرد يأكلها" وكلّ ذلك يعود لاستسلامات الشاعر وكأنّه غير مبالٍ بعد.
ترتفع الغنائية بخفوت نبرة النص، فعباس اختار لغة خطابٍ موجّهة نحوه شخصياً أو نحو مستمعٍ محدّد وخاص (شقيقته الراحلة نجلا والتي أهدى الكتاب إليها)، وهذا ما أكده الباحث والناقد الكندي نورثرومب فراي في كتابه «Anatomie de la Critique»، لكن ومع تواري الأنا ومحاولة تخفّيها نجد تلك اللمسات الممسرحة في ترك النص موجّه أيضاً للجميع دون استثناء، فالرثاء أمر لا فكاك منه عند الجميع وإن لوّنه كل شخص كما يجيد.
من الممكن أن نلحظ مروراً سريعاً للأنا لدى بيضون في نصوص المجموعة، غير أنّه وبنفس الوقت يرغب ببقائها مقنّعة باستحضارها عبر سيرته الشخصية بشكل أو بآخر، وهذا ما أعطى للمجموعة تلوّناً نصّياً باذخاً بين النص الطويل والقصير والومضة السريعة، وأكسبها لغةً رومانسيّة متأمّلة تهدف لإخراج كلّ ما يمكن إخراجه من ثيمة النص، لهذا نلحظ ضروباً تشبيهية بنبرةٍ سريالية خفيفة متصلة بممارساتٍ مستمرة "الموت الذي مرّ كالخيط بين الأسنان..."
ويبقى أمامنا ذاك السؤال المستمر عن مدى قدرة الشاعر في الخوض ضمن تجارب عديدة تغني مسيرته، وفي نظرة سريعة لمسيرة الشاعر نجده مغامراً في كافة تشعبات الشعر، حتى الآن لا زال يدخل بالعديد منها ويجرّبها، ولربّما يحقّ لنا أن نسأله: ماذا بعد يا عباس؟