«مدى البرتقال»... معرض قفز باحترافية في بحر الملصقات السياسية الفلسطينية

2020-02-28 00:00:00

«مدى البرتقال»... معرض قفز باحترافية في بحر الملصقات السياسية الفلسطينية
مدى البرتقال، حارث يوسف، 2020

المُلصقات في كل زاوية تتحدث بلهجة متجانسة، لكنها لهجة تقترب من باقي لهجات الزوايا الأخرى حولها وتبتعد عنها دون تقيد بعناوين الزوايا، فشعرت بأن في الأمر بقية، وأن المعرض يستحمل المزيد من البحث والمزيد من التركيبات الفنية التي تسائل فكرته.

يختبئ المُلصق خلف المُلصق في رواق المتحف الفلسطيني الزجاجي، لتتراكم الملصقات المعروضة في سبع زوايا انتقتها قيمة المعرض أديل جرار وفق ثيمات تبحث تمثيلات الأرض والجغرافيا والطبيعة الفلسطينية، لتخلق رحلة بصرية بين الملصقات السياسية المختارة تتبع فيها التغيرات والتناقضات التي شهدتها تلك التمثيلات.

الملصقات المعروضة جزء من مجموعة تبرع فيها السفير الفلسطيني السابق علي قزق (540 مُلصق)، التي صممت بين أواخر الستينات وحتى أوائل التسعينات، قبل تستقر لتصبح جزء من مجموعة المتحف الفلسطيني الدائمة. 
 

مدى البرتقال، حارث يوسف، 2020


ببساطة ممتنعة يُسائل المعرض مركبات الحلم الفلسطيني المفقود، والذي تعرّض إلى مد وجزر قوى عديدة أثْرت وأثَّرت في مساره التاريخي، لنلاحظ مثلاً وبشكل عام كيف أطلقت منظمة التحرير والتنظيمات الفلسطينية المختلفة في حقبة سابقة يد الفنانين لتتناول ما شاءت من مواضيع وثيمات تخيلت فلسطين، ووثقتها، ودافعت عنها دون التقيد برقابة تجاوزت رقابة الفنانين الذاتية على أعمالهم معظم الأحيان، وكيف فُعّلت مساحة الحرية تلك في حشد الدعم والتضامن العالميين مع القضية الفلسطينية. 

عُراة يتركنا المعرض أمام مأزق فلسطين الفكرة، وأزمة فناء خيارات تمثيلاتها المتعددة، ففي أغلب  المُلصقات المعروضة نشاهد فلسطين أخرى، وصور حالمة لها. فنشاهد في زاوية "بذور التحرر" الفأس والمحراث والبندقية جنب إلى جنب، وفي زاوية "فلسطين تتجلى" نشاهد كيف رمم مصمم المُلصق الأمل عندما أعاد رسم دراجة طفل مزقتها قنابل العدو، كما ويحاول مُلصق آخر في تلك الزاوية جمع شمل الطفل الفلسطيني بأقرانه حول العالم، ويخلق آخر بألفبائية فلسطينية أولويات وهوية لا تقبل القسمة، الراء فيها رصاصة، والميم مسدس، ولا يغفل المُلصق أبعاد ومركبات أساسية أخرى، فاللام لوز، والكاف كتاب، والباء برتقال.  
 

ألفبائية فلسطين، ملصق صادر عن دار الفتى، ١٩٨٦


ألفبائية شديدة الوضوح القاف فيها قنبلة وليست قرض!

ما يجذب عين الناظر في الملصقات المنتقاة هو وفرة مدارس التصميم التي عبرت عنها، فالعناوين مُثّلت بالتجريد أحياناً، وبالواقعية الصريحة أحياناً أخرى، فتواصل المصمم مع المركب الإنساني والبعد الطبيعي والفني دون أن يلغي أيهما الآخر.

في زاوية أخرى "الدمار كمشهد" يتمركز مُلصق شديد الحساسية وثق الشهداء بأوجههم ناقلاً قصصهم دون الاكتفاء بنعي عام مكرر، تزاوجت الألوان في ذلك المُلصق لتخلق حالة حزن غريب يشعر به المشاهد قبل الاقتراب أكثر لمعاينة صور الشهداء، فالألوان المهيمنة في المُلصق ألوان حياة بنفسجية ووردية قُيدت باللون الأصفر الشاحب، فكتب فوق الحياة التي مثلتها الألوان مُذكرة استنهضت الشعب وحرضته ليستكمل المسيرة.

"شعبنا أقوى... ثورتنا أصلب"

يترك المعرض مساحات غير محدودة لزائريه للتعمق في خيوط بحث تربط بين الملصقات وتذبذب الظروف الزمانية والمكانية المرافقة لإصدارها وحتى لحظة عرضها، فالمُلصقات تلك لم يكن يُراد لها أن تستقر في مخزن مؤسسة ما، أو أن تُحفظ كمادة فنية توثق حلم تحرر تحقق، أو أن تكون ذات قيمة مادية تزيد وتنقص. 

تلك المُلصقات كما شعرت بعد جولتي في المعرض، نتاج جولات قصيرة من حرب إقصاء استعمارية طويلة شرسة، ما زال سيفها حاداً رغم قدمه.

ما زال الوضع معلقاً رخواً كما هي المُلصقات في المعرض.

لم تُثبت تلك المُلصقات على الحوائط، أو تأطر بمواد صلبة أو فاخرة بل تدلت من سقف المتحف الداخلي المائل، وطُبعت على ورق بوليستر رخيص تتأرجح حرة غير مستقرة في الهواء، تحاكي هشاشة المرحلة الراهنة، وتسمح للزائر بلمسها وامتلاكها للحظات، والاقتراب منها بشكل حميمي، على غير عادة مساحات العرض البيضاء التقليدية.

معرض نجح في زحزحة بعض الأسئلة العالقة حول فلسطين الفكرة وأزمة تمثيلها. وما زال في بعض تفاصيله حسب ظني فرصة للتعمق والتطوير، فتقسيمات الزوايا السبعة تفصل للوهلة الأولى وبشكل واضح بين ثيمات البحث، تقسيمات تسمح للباحث دراسة فكرة العرض وتسهل فهمها والغوص بها، ولكن تلك التقسيمات لا تخدم بالضرورة رحلة الزائر القصيرة بين طرفي رواق المتحف الفلسطيني الزجاجي.

المُلصقات في كل زاوية تتحدث بلهجة متجانسة، لكنها لهجة تقترب من باقي لهجات الزوايا الأخرى حولها وتبتعد عنها دون تقيد بعناوين الزوايا، فشعرت بأن في الأمر بقية، وأن المعرض يستحمل المزيد من البحث والمزيد من التركيبات الفنية التي تسائل فكرته.

ربما لو سمح هامش الوقت المتاح لإعداد ذلك المعرض وإخراجه بمزيد من الفسحة، لاختبرنا إخراجاً أمتن وترابط أعمق! 

محصلة الجولة... مدى البرتقال معرض حاول القفز باحترافية، مضطراً وبسرعة في بحر الملصقات السياسية الفلسطينية الغني.
 

شعبنا أقوى، ثورتنا أصلب، ملصق صادر عن الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، ١٩٨١