مهرجان برلين السينمائي الدولي في دورته السبعين

«نرجس.ع»... يوم في حياة متظاهرة جزائريّة

2020-02-26 14:00:00

«نرجس.ع»... يوم في حياة متظاهرة جزائريّة

من المشاهد التلقائية واللافتة جلوس المئات من المتظاهرين الشبّان على شرفات مبنى وزارة الثقافة واستيلائهم على المبنى الحكومي، وانتشارهم الكثيف بجانب لوغو الخطوط الجويّة الجزائريّة وصوت طائرات عسكريّة محلّقة في الخلفيّة، وكأنّهم بأنفسهم هم من سيقلعون بالجزائر بدلا من الطائرات العسكريّة.

زيّنت شوارع الجزائر الثائرة شاشات عرض مهرجان برلين السينمائي الدولي في دورته السبعين (20.2 – 1.3) من خلال العرض العالميّ الأولّ لفيلم "نرجس.ع" (وثائقي 80 دق) للمخرج الجزائري البرازيلي كريم عينوز والمعروض ضمن فئة "بانوراما" في المهرجان.

نرجس هي الفتاة التي يرافقها الفيلم الوثائقي المصوّر بالكامل بهاتف محمول، ورغم ذلك، أو عمليا لذلك خرج في نصفه الأول تحديداً بجماليّات سينمائية خلقها احتدام اللحظة التاريخيّة. حظينا بلقطات مقرّبة جدّا لنساء وشبّان جزائريين لم يشعروا بوجود كاميرا أو معدّات تصوير تقف حاجزاً أمام تلقائيتهم، وتدفّق أملهم الجارف ورفضهم للعهدة الخامسة لرئيس مُقعد في دولة أغرقها الفساد.

نرجس من مواليد العشريّة السوداء أو العقد الأسود الدامي في تاريخ البلد الذي أنهكته المجازر في التسعينات، ممثلّة شابّة وناشطة تقرّر على غير عادتها أن تتزيّن وتستعمل مساحيق الماكياج والحُلي لدى خروجها للتظاهر في هذا اليوم، لتسدّد ديْناً لتاريخ عائلتها التي دفعت أثماناً منذ حقبة الاستعمار وصولا إلى النظام الحالي، جدّها وجدّتها استشهدوا كما الملايين من الجزائريين، ولدت أمّها في سجون الاستعمار الفرنسي، أمّا والدها فهو ناشط يساريّ أبعد عن الجزائر في التسعينات، والآن حان دورها لتأخذ بثأر عائلتها من طغيان الظلم في البلاد، أو كما صاحت في إحدى المشاهد "داروا الديوبة (الذئاب) في الجزاير".
 


يحاول المخرج بناء هذا الخط التاريخيّ بصريّا من خلال مقدّمة الفيلم القويّة التي يستعرض فيها صور أرشيفية بالأبيض والأسود، لمظاهرات قام بها الجزائريون في مطلع الستينات لتحرير بلادهم، وينتقل بعدها بالألوان إلى مشاهد أوّل مظاهرة حاشدة في الجزائر قام بها الجموع اعتراضا على تمديد فترة رئاسيّة خامسة للرئيس بوتفليقة، وللمصادفة بدأت قبل عام بالضبط من العرض الأول للفيلم.

خُلق الفيلم الطازج دون أن يخطّط له عينوز كما صرّح بعد عرضه، حيث لم يكن بإمكانه تجاهل لحظة تاريخيّة عظيمة خرج فيها الآلاف من المتظاهرين السلميين إلى شوارع العاصمة الجزائرية، واتّخذ قراراً سريعا بمرافقة نرجس في تظاهرة عملاقة، أو كما جاء في تترات الشريط وتوصيف السرديّة: يوم في حياة متظاهرة جزائريّة.

عن اختيار الهاتف المحمول لتصوير كلّ الفيلم ومدى صعوبة أو سهولة ذلك قال عينوز إنّه لم يكن هنالك خيار آخر، هنالك أفلام تطلب منك أن تصنعها ولا يهمّه تعريف الجهاز سواء كان كاميرا أو هاتف محمول، المهم وجود عدسة توثّق اللحظة، ووفقا لتعبيره لم يكن منطلقه السينمائي التصوير (shooting) بل الالتقاط (capturing)، بالإضافة إلى فكرة ذوبان كاميرا الهاتف وسط الجموع، مقارنة بمعدّات كبيرة عادة ما تثير تساؤلات المتظاهرين إن كانت تابعة للتلفزيون الرسمي الذي فقدوا فيه الثقة منذ زمن. من اللافت في الفيلم الحضور القوي للنساء في الشوارع والمظاهرات، لم يكن اختيار نرجس عبثيّا كبطلة وثائقيّة للفيلم فهنالك بلا شكّ قوة ثيميّة تعزّز ذلك التماهي بين الوطن والمرأة، لكن المفاجئ أنّ هنالك شخصيات نسائيّة عابرة في الفيلم أقوى من نرجس حضوراً وجماليّا أمام الكاميرا في منتصف عقدهم الخامس ربّما، يرفعن اللافتات السياسيّة ويزغردن كأنّهن في احتفال بزفاف ما.

من المشاهد التلقائية واللافتة جلوس المئات من المتظاهرين الشبّان على شرفات مبنى وزارة الثقافة واستيلائهم على المبنى الحكومي، وانتشارهم الكثيف بجانب لوغو الخطوط الجويّة الجزائريّة وصوت طائرات عسكريّة محلّقة في الخلفيّة، وكأنّهم بأنفسهم هم من سيقلعون بالجزائر بدلا من الطائرات العسكريّة.
 


تعمّد العنيزي إظهار الأمل والثورة الشابّة التي غابت عن الواقع العربي وأفلامه في المنطقة، بالإمكان صدقا استنشاق ورود ربيع لم يقدّر له أن يزهر قبل تسع سنوات في المنطقة العربيّة. لكن أحيانا تلك الرغبة بإخراج فيلم مظاهرة وثائقيّ (وهذه مهمّة غير سهلة) قد يوقع المخرج في مطبّ سرديّ يدخله أحيانا إلى مأزق في بنائه رواية الشخصية الوثائقيّة التي يتوجّب عليها سرديّا أن ترفع دراميّا من عمق الحدث وربّما هذا ما لم يفلح به عينوز الذي لم ينته من العمل على الفيلم إلا قبل عرضه بأسبوع، فمقابل النصف الأوّل المتدفّق والقوي للشريط نلحظ هبوطاً معيّنا لإيقاع الفيلم في نصفه الثاني، حيث لم تضف نرجس له ما كنّا نتمنّاه من شخصية وثائقيّة لفتاة عالمها مركّب جدّا ويوفّر كل إمكانيات الجذب السرديّة، حيث بقيت في بعض الأحيان بعيدة رغم محاولة المخرج إظهار جوانبها الحياتيّة الشخصيّة، وكذلك من الصعب عدم ملاحظة شعورها بوجود عدسة تصوّرها إلى جانبها بالإضافة لبعض لحظات الخطاب السياسي المباشر، وبعض المطّ في نهاية الفيلم وكأنّ هنالك إصرار من عينوز الخروج بفيلم وثائقي طويل.

لكن كلّ ذلك لا ينتقص من جمال وأهميّة التقاط لحظات استثنائيّة على الشاشة لشعب جابَ عاصمته مطالباً بإسقاط زعيم ونظام فاسدين، تحديداً في لقطات أماميّة مقرّبة للوجوه الثائرة شباباً ونساءً، فيها كلاستروفوبيا آسرة لوجوه منتفضة تريد أن تتحرّر من سجنها وإطارها في عدسة المحمول. يبدو الطغيان قدرها والثورة حرفتها، حتّى وإن لم يبنِ الشريط سرديّة كاملة الإحكام لشخصيّته الوثائقية، فيحسب له أنّ أشركنا كمشاهدين في شريان ثورة تدفّق من جديد في بلد الثورة.